إن فوز ترامب بالرئاسة الأمريكية كارثة كبرى على شعوب المنطقة تنضاف إلى النكبة العظمى التي تدور رحاها منذ «طوفان الأقصى». كان بنيامين نتنياهو يأمل هذا الفوز بشغف وقد عمل ما بوسعه ليُسهم في تحقيقه، سواء أكان الأمر بتحريض حلفائه في اليمين الأمريكي أم برفضه منح جو بايدن وحملة الحزب الديمقراطي الرئاسية الهدنة التي ترجّوا قبوله بها في غزة كي تشكّل لديهم حجّة انتخابية كانوا بأمسّ الحاجة إليها. فماذا ينتظرنا الآن وقد تأكدت عودة ترامب إلى «البيت الأبيض»؟
تشير المعطيات المتوفّرة في ضوء سلوك ترامب خلال ولايته الرئاسية الأولى وما صدر عنه من مواقف خلال حملته الأخيرة وما تسرّب عن أوساطه، تشير كافة هذه المعطيات إلى أنه حريص على الظهور بمظهر الرجل الذي يحقّق «السلام» خلافاً لتصويره لبايدن كرجل يُديم الحرب عاجزاً عن حسمها. وإذ يبغي ترامب إنهاء الحروب التي لا يرى فيها مصلحة لأمريكا، يبقى حريصاً على تحقيق مراميه في الحالات التي يرى فيها مصلحة أكيدة. فبينما فاوض الطالبان خلال ولايته السابقة تمهيداً لسحب القوات الأمريكية من أفغانستان، وأراد سحب الغطاء العسكري الأمريكي عن الأكراد في سوريا تلبية لطلب الرئيس التركي أردوغان، أيّد بقاء قوات بلاده في العراق مُفصحاً بوقاحة عن اهتمامه بالثروة النفطية في هذا البلد.
وإذ أعرب عن طموحه في عقد «صفقة القرن» في الملف الفلسطيني، فإن «السلام» الذي اقترحه كان مجحفاً إلى درجة أن محمود عبّاس نفسه رفضه، بينما رحّب به نتنياهو مدركاً أن ما من جانب فلسطيني قادر على القبول بشروط تلك «الصفقة» ومتأملاً بالتالي أن الرفض الفلسطيني لذلك العرض «السخي» سوف يشرعِن مضي الدولة الصهيونية في قضم أرض فلسطين غربي نهر الأردن. هذا وناهيك من أن ترامب ضرب عرض الحائط بمسلّمات السياسة الأمريكية الرسمية إزاء النزاع الإقليمي لصالح إسرائيل، من قبوله الرسمي بضمّ الجولان السوري المحتلّ إلى نقله للسفارة الأمريكية إلى القدس وإغلاقه للقنصلية الأمريكية الخاصة بالأراضي المحتلّة في عام 1967، وكلّها مواقف أشارت إلى دعم ترامب للمرامي الصهيونية التوسّعية. كما ناهيك من تبنّيه للموقف الإسرائيلي إزاء إيران، وتمزيقه للاتفاق النووي الذي عقدته إدارة سلفه باراك أوباما مع طهران بعد مفاوضات طويلة وعسيرة، بل وتصعيده للاستفزاز العسكري لإيران باغتياله لقائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» الإيراني، قاسم سليماني، إلخ.
فبينما لا يجد ترامب مصلحة في دعم أوكرانيا، بل يحبّذ التوصّل إلى اتفاق مع فلاديمير بوتين يُرضي هذا الأخير، الذي يختلط إعجابه بشخصيته الرجعية بتوقه إلى الاستثمار في بلاده، كما لا يرى مصلحة في الحلف مع الدول الأوروبية سوى إذا قدّمت مزيداً من التنازلات الاقتصادية لأمريكا وضاعفت مجهودها العسكري للانخراط بصورة متزايدة في المواجهة مع الصين التي يرى فيها ترامب منافِسة أمريكا الرئيسية (كما يرى في استعدائها ركناً أساسياً من أركان أيديولوجيا اليمين الإمبريالي الأمريكي الذي يتزعّمه) لا يُخفى على أحد أن ترامب يرى في النفط وأموال النفط لدى الأنظمة الخليجية العربية مصلحة أمريكية عليا، كما يرى في الدولة الصهيونية حليفاً ثميناً لدورها في حراسة تلك المصلحة العليا. فإن المصلحة بمعناها الفجّ الذي تتغلّب فيه المصلحة النفعية الشخصية والعائلية على أي اعتبار آخر ويحكم تصوّر «مصلحة أمريكا» فيه فهمٌ ضيّقٌ وقصير النظر، لا ينفصم عن الرغبة في دغدغة الغرائز الأكثر بدائية لدى الجمهور (وهو السلوك الذي غالباً ما يسمّى «شعبوياً» أو «ديماغوجياً») إن تلك المصلحة هي التي تحكم سلوك دونالد ترامب، وليس أي شيء آخر.
إن فوز ترامب بالرئاسة الأمريكية كارثة كبرى على شعوب المنطقة تنضاف إلى النكبة العظمى التي تدور رحاها منذ «طوفان الأقصى»
هذا ومن المتوقّع أن يتبنّى موقف إدارة بايدن من لبنان، فيسعى وراء وقف للحرب الدائرة فيه بشروط تُرضي إسرائيل، تقوم على انسحاب قوات «حزب الله» إلى شمال المنطقة التي نصّ عليها قرار مجلس الأمن الدولي 1701 لعام 2006، وعلى إحلال تدريجي للجيش اللبناني النظامي محلّ الحزب ومحلّ القوات المحتلّة المنتشرة في الشريط الحدودي، على أن تكون ثمة ضمانات بإشراف أمريكي في شأن عدم عودة الحزب إلى المنطقة المذكورة وعدم تجديد ترسانته من الصواريخ المرسلة من إيران عبر الأراضي السورية. ويترافق هذا بتدعيم للجيش اللبناني بحيث تتغيّر موازين القوى في لبنان بما يسمح للدولة تحت هيمنة أمريكية بالتغلّب على الحزب تحت هيمنة إيرانية. وبالطبع فإن التوصّل إلى هذا الاتفاق محكوم بموافقة إيران عليه، الأمر المستعصي حتى الآن إذ تفضّل طهران إبقاء الحزب في المعمعة على خروجه منها وإبطال دوره المحتمل في المواجهة القادمة بين إيران والحلف الأمريكي-الإسرائيلي.
وبخصوص هذه المواجهة يثق نتنياهو أن ترامب سوف يكون أكثر استعداداً للخوض فيها مما هو بايدن، وقد أرسل مندوباً عنه للتفاوض مع الرئيس المنتخَب على الخطوات القادمة إزاء إيران. كما سوف تدخل في حسابات ترامب مواقف أصدقائه الخليجيين العرب، الذين يتمنّون تلقّي إيران ضربة حاسمة مهما أظهروا من تودّد لها وحماساً لأهل غزة، وهي مواقف ترمي إلى ردّ المزايدة الإيرانية عنهم في شأن فلسطين وتجنّب قيام طهران بضرب المنشآت النفطية على أراضيهم، وهو ما هدّدت بأن تقوم به لو تعرّضت لاعتداء على منشآتها النووية. فإن احتمال هجوم أمريكي-إسرائيلي مشترك على إيران بات كبيراً للغاية مع عودة ترامب إلى «البيت الأبيض» وسوف يتوخّى هذا الأخير إعادة إحكام الهيمنة الأمريكية على منطقة الخليج بعد أن أصيبت بالوهن في عهدي أوباما وبايدن.
أما في الشأن الفلسطيني، فمن المرجّح أن يدعم ترامب ضمّ إسرائيل الرسمي لقسم هام من أراضي الضفة الغربية وغزة (شمال القطاع بوجه خاص، حيث يستمر «التطهير العرقي» الذي ينفّذه الجيش الصهيوني) بغية مواصلة الاستيطان في الضفة ومعاودته في القطاع، مع سيطرة إسرائيلية على الأشرطة الاستراتيجية التي تسمح بالتحكّم بما يبقى من تركّزات سكّانية فلسطينية في المنطقتين المحتلتين. ومثلما جاء في «صفقة القرن» التي صاغها جاريد كوشنر، صهر ترامب، وأعلِن عنها في مطلع عام 2020، فسوف تتضمّن الصفقة «تعويضاً» للفلسطينيين عمّا يتم انتزاعه منهم وضمّه رسمياً إلى أراضي دولة إسرائيل، بمنحهم مساحات في صحراء النقب. والحال أن كوشنر أعرب قبل ثمانية أشهر عن تحبيذه لاستيلاء إسرائيل على قسم غزة الشمالي واستثمار شاطئه، ونقلها لسكانه الفلسطينيين إلى صحراء النقب. ومرة أخرى، لن تجد هذه «الصفقة» التي تستحمق الشعب الفلسطيني أي طرف فلسطيني بحدّ أدنى من المصداقية مستعدّ للقبول بها، الأمر الذي سوف يتيح لإسرائيل فرضها بالقوة من طرف واحد ويعزّز ضغط أقصى اليمين الصهيوني من أجل استكمال نكبة 1948 بضمّ كامل الأرض الفلسطينية الواقعة بين النهر والبحر واقتلاع معظم سكانها منها.
كاتب وأكاديمي من لبنان