ترامب وتعطيل الاعتيادية الديمقراطية

بامتناعه إلى اليوم عن الاعتراف بنتائج الانتخابات الرئاسية 2020 وتشكيكه في شرعية ونزاهة العملية الانتخابية، يضع دونالد ترامب الولايات المتحدة في مواجهة أزمة حادة لانتقال الحكم ويواصل التلاعب بالأسس الديمقراطية للنظام السياسي الأمريكي وفي مقدمتها التداول السلمي للسلطة ويسكب المزيد من الزيت على نار الصراع بين اليمين واليسار.
دللت انتخابات 2020، وهي سجلت النسبة الأعلى في التاريخ الأمريكي لإدلاء المواطنات والمواطنين بأصواتهم (حول 67 بالمائة) على أن الاستقطاب بين مؤيدي ترامب ومناصري كل ما يمثله سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وبين ناخبي اليسار الذين يرون فيه التعبير الأكثر فجاجة للاستخفاف بالديمقراطية وللاستهانة بحقوق الإنسان وللترويج لسياسات عنصرية (الجدار العازل على الحدود الأمريكية-المكسيكية وإلغاء برامج تقنين وجود المهاجرين غير الشرعيين وحظر هجرة المسلمين ورفض استقبال اللاجئين وغيرها) هو حقيقة مجتمعية راسخة وغير مرشحة للاختفاء قريبا.
في 2020، صوت لترامب مرشح الحزب الجمهوري أكثر من 73 مليون أمريكي بينما حصد جو بايدن مرشح الحزب الديمقراطي أكثر من 78 مليون بطاقة انتخابية. يعني ذلك، من جهة، أن ترامب وبعد سنوات إدارته 2016-2020 أضاف ما يقرب من 10 ملايين ناخب لخانة مؤيديه (في انتخابات 2016، حصل ترامب على ما تجاوز 62 مليون صوت بقليل) وأن الديمقراطيين جاءوا إلى الانتخابات بأكثر من 13 مليون مواطن إضافي لمناصرتهم (في انتخابات 2016، صوت لمرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون ما تجاوز 65 مليون ناخب). بعبارة بديلة وفي تناقض بين مع العديد من البلدان الديمقراطية التي تشهد تراجعا في نسب المشاركة الشعبية في الانتخابات، لم ترتب وضعية الاستقطاب المجتمعي في الولايات المتحدة وما يرتبط بها من صراع سياسي بين اليمين واليسار عزوف الناخبين. بل وعلى العكس تماما، جاءت بالمزيد منهم إن من مؤيدي ترامب والجمهوريين أو من مناصري بايدن والديمقراطيين إلى مراكز الاقتراع وبالمزيد من البطاقات الانتخابية إلى الصناديق. غير أن الزيادة غير المسبوقة في إقبال المواطنات والمواطنين على المشاركة في الانتخابات تعني، من جهة أخرى، أن القاعدة الجماهيرية لليمين ولليسار مستنفرة إلى الحدود القصوى وجاهزة بالتبعية لمواصلة التعبير عن الاستقطاب المجتمعي وقابلة للتعبئة والحشد للانغماس في الصراع السياسي بأشكال غير انتخابية. وعلى هذين الأمرين تحديدا، أي الاستنفار والقابلية للتعبئة والحشد، يعول دونالد ترامب في رفضه الاعتراف بنتائج انتخابات 2020.

لم يحترم ترامب خلال السنوات السابقة الكثير من التقاليد الديمقراطية المرعية في النظام السياسي الأمريكي وجر الحزب الجمهوري إلى تبنيها وتأييدها، وسببت سياساته المزيد من الاستقطاب المجتمعي والصراع السياسي بين اليمين واليسار

فالرجل الراغب في البقاء في السلطة بعيدا عن النتائج المعلنة لا يخاطب، لا بتغريداته المشككة في شرعية الانتخابات ولا بمحاولات محاميه المتتالية توظيف المحاكم للتنازع القضائي حول نزاهة العملية الانتخابية، مجموعات صغيرة العدد وغير مؤثرة في الولايات المتحدة الأمريكية. لا يريد ترامب مجرد رؤية مئات اليمينيين المتطرفين يتظاهرون في شوارع العاصمة واشنطن أو أمام مراكز الاقتراع في الولايات التي يعاد بها فرز البطاقة الانتخابية (جورجيا مثالا) بغية التشكيك في النتائج المعلنة، بل يعمل بتغريداته وبالتنازع القضائي على اصطناع ما يقترب من القناعة العامة بين الملايين الذين صوتوا له بكون الانتخابات التي أجريت قبل أسابيع قليلة فاقدة للشرعية وبكون ما قد يترتب عليها من انتقال للسلطة خلال أسابيع قليلة قادمة سيفتقد الشرعية أيضا. لا يريد ترامب مجرد تأخير الاعتراف بالنتائج ولا جر التنازع القضائي بشأنها إلى المحكمة الدستورية العليا مثلما حدث في انتخابات 2000، بل يعمل من خلال إفقاد قاعدته الجماهيرية، وجلها من سكان المناطق الريفية والبعيدة عن الساحلين الشرقي والغربي، لثقتها في شرعية الانتخابات على خلق أزمة وجودية للنظام السياسي الأمريكي تهدد أسسه الديمقراطية المتمثلة في نزاهة الانتخابات والتداول السلمي للسلطة. لا يريد ترامب مجرد الحفاظ على قاعدته الجماهيرية لترشح محتمل في الانتخابات الرئاسية 2024 ولا لمجرد الإبقاء على سيطرته على الحزب الجمهوري الذي صار بالفعل «حزب ترامب» غير القادر على مطالبته بالاعتراف بنتائج الانتخابات على الرغم من الهشاشة القانونية لتشكيكه بها، بل يعمل على مواجهة السياسة في الولايات المتحدة بصدمة تعطيل انتقال السلطة التي لم يختبرها من قبل أو بصدمة انتقال السلطة وسط مناخ عام من التشكيك والرفض كما حدث حين وصل هو إلى البيت الأبيض في 2016 وتوالت مظاهر الرفض الشعبي لرئاسته منذ يومها الأول.
لم يحترم ترامب خلال السنوات السابقة الكثير من التقاليد الديمقراطية المرعية في النظام السياسي الأمريكي وجر الحزب الجمهوري إلى تبنيها وتأييدها، وسببت سياساته المزيد من الاستقطاب المجتمعي والصراع السياسي بين اليمين واليسار. وليس ما يفعله اليوم سوى توظيف وضعية الاستقطاب والصراع التي أمسكت بالمجتمع والسياسة في الولايات المتحدة لكي يعطل الاعتيادية الديمقراطية المتمثلة في الإجراء الدوري لانتخابات نزيهة والتداول السلمي للسلطة المترتب عليها. وذلك تحديدا هو الفصل الجديد في السياسة الأمريكية الذي يصطنعه ترامب بتشكيكه في الانتخابات وبتعويله على قاعدته الجماهيرية المستنفرة والقابلة للتعبئة والحشد والذي يصعب للغاية من مساعي الرئيس المنتخب جو بايدن تجاوز الهوة الفاصلة بين اليمين واليسار.

كاتب من مصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول علي:

    من أجل الإنجيلية الصهيونية تميز ترمب بالصراحة والوقاحة، فقد قام بمنح اليهود الغزاة مدينة القدس العتيقة مسرى الرسول الأعظم -صلى الله عليه وسلم- ومعراجه، ومنحهم الجولان والضفة الغربية، ومنع المعونة عن الفلسطينيين ، وفي الوقت نفسه أشاد بالديكتاتور المفضل -أعني العسكري الدموي الذي ذبح المسلمين في رابعة وأخواتها والطرقات والأقبية والمعتقلات، واستطاع بمنهج الغرب الاستعماري أن يخرج على الملأ ويقول للأعراب: ادفعوا لأحميكم، ونزح من خزائنهم تريليونات الدولارات، ولم يقدم لهم غير الوعود الفارغة والبؤس المزري وعظيم الاحتقار.

إشترك في قائمتنا البريدية