توسعت أعمال شركة هواوي الصينية خلال العقد الأخير، لتكون على مقربة من التحول إلى اللاعب الرئيسي في سوق الاتصالات الخلوية، بعد أن تمركزت بعمق في تجهيزات ما يعرف بتقنيات الجيل الخامس، التي ستزيد من اعتماد الأفراد على أجهزتهم الخلوية، وقبل أن يجني العملاق الصيني جائزته الكبرى، أطلقت إدارة الرئيس الأمريكي، أو أوعزت، أو لعبت من خلف الستار، مناورة كبيرة دفعت الشركات التي تمسك بزمام السيطرة على بيئة تكنولوجيا الإنترنت والاتصالات، إلى قطع علاقاتها التجارية مع هواوي بحجج أمنية.
تناقلت أجهزة الإعلام العديد من الأخبار والتحليلات والتوقعات بخصوص ردود فعل الشركة الصينية، التي ستبحث بالتأكيد عن حلول خارج الارتهان لسيطرة الشركات الأمريكية، إلا أن اللافت للانتباه ليس في الإجراءات التجارية والقانونية، ولكن في ما يقبع وراءها من تغيرات جوهرية في منظومة العولمة، التي كانت الولايات المتحدة تحديداً قد أطلقتها بوصفها استراتيجية كونية، مستندة إلى نشوة الانتصار على الاتحاد السوفييتي على المستوى السياسي والأيديولوجي ـ كما تصورت الكتلة الغربية في ذلك الوقت ـ وانفرادها بقيادة العالم لعقدين من الزمن تقريباً.
أثبتت شركة غوغل بانصياعها المباشر لأوامر الإدارة الأمريكية، إنهاء تمكين هواوي من أنظمة التشغيل الخاصة بها، إن العولمة أصبحت مجرد كلمة مستهلكة، طالما أن الحكومة الأمريكية تستطيع أن تفرض شروطها على الجميع، وأن تضع مصالحها فوق مصالحهم، بمعنى أن العولمة لم تكن سوى أسلوب أنيق ودعائي لتأكيد السيطرة الأمريكية على بقية العالم، يستغل مقولات ونظريات حقوق الإنسان وصون الفرد وملكيته، وما إلى ذلك من رطانة من دون أن يحمل مضموناً حقيقياً. يتجاهل الرئيس ترامب الدبلوماسية والشكليات ويمضي لخوض حرب تجارية تستهدف أن تنقل مزيداً من الأموال إلى داخل الولايات المتحدة، ليتمكن من إقناع ناخبيه بأنه الرجل الذهبي الذي يستطيع أن يعيد أمريكا عظيمة من جديد! ولكن التساؤل المهم ربما يكون حول هل كانت الولايات المتحدة تستحق أصلاً المكانة التي حصلت عليها بعد الحرب؟ بعد حربين عالميتين استنزفتا القارة العجوز، والتهجير الواسع للعقول من أوروبا إلى الولايات المتحدة في تلك المرحلة، بالإضافة إلى وجود مناطق غير مستغلة طبيعياً بالصورة المناسبة مثل إفريقيا والمساحات الروسية الشاسعة.
العولمة مجرد كلمة مستهلكة، طالما أن الحكومة الأمريكية تستطيع أن تفرض شروطها وتضع مصالحها فوق مصالح الجميع
وقبل المعطيات أعلاه، يتوجب الانتباه إلى أن الجزء الكبير من العظمة الأمريكية المزعومة كان يقوم، وما زال، على الدين الهائل للحكومة والمؤسسات الأمريكية، وهو دين يمثل مدخرات دول كبرى عملت على تأسيس اقتصادات منتجة، بينما كان الأمريكيون يعيشون رفاهية غير مستحقة، وهو الأمر الذي يتناساه ترامب وهو يسعى إلى الاستحواذ على ثروات الآخرين بكل الطرق المتاحة، مثل الحديث عن الدفع مقابل الحماية، أو الحروب التجارية، وفي النهاية يخسر على المدى المتوسط كلمة السر التي تحكم اللعبة، وهي بالطبع كلمة رمزية أخرى، وتدعى «الثقة» في العملة وسندات الدين الأمريكية.
يوظف ترامب القوة الأمريكية في خدمة الاقتصاد، ويترك جانباً كل النظريات المهمة عن السوق وعدالته، وعن الشراكة والتكامل، وكل هذه الرطانة، ليختصر الأمر في معادلة الطرف الأقوى، الذي يتوجب على الصغار أن يدفعوا له، وإذا كان بعض الأطراف سيلجأ إلى ذلك، فإن أطرافاً أخرى ستظهر درجات متباينة من المقاومة للسلوك الأمريكي، وهو ما سيتطلب المزيد من الاستثمار في القوة واستعراضها، وبالتالي يحتاج إلى مزيد من التمويل الذي يمكن أن يخلق أزمة الانكشاف على الحقيقة التي يتجاهلها الجميع، أو يحاولون تجاهلها، وهي أن الولايات المتحدة لا تمتلك فعلاً ما يؤهلها لأن تحتفظ بهذه المديونية. اعتمدت السيطرة الأمريكية على العالم على العديد من الأدوات، ومنها الإعلام والثقافة والسينما والاستخبارات والتقنية، والقوة كانت واحدة من الوسائل، ولكن الصورة الذهنية عن الأمريكيين ومستقبلهم الواعد، وصلاحية نموذجهم كانت ثمرة للدعاية الأمريكية الذكية والمتقنة، وبخلع القناع الذي كانت الولايات المتحدة ترتديه بوصفها أرضاً للأحلام، ونموذجاً للعيش، يصلح لكل البشر يظهر وجه قاطع الطريق على نمط أفلام الغرب الأمريكي، بما سيجعل العالم يراجع أوراقه بكثير من الحذر، الذي ربما لا تمتلك الولايات المتحدة بمطبخها السياسي الصغير والضيق وغير المتنوع حالياً، القدرة على فهمه ورصده.
يقول رئيس شركة هواوي: «إذا انطفأت الأنوار في الغرب فإن الشرق سيضيء، وإذا أظلم الشمال فلا يزال هناك الجنوب. أمريكا لا تمثل العالم، أمريكا تمثل فقط جزءا من العالم». والعبارة على جانب كبير من البلاغة، والرطانة أيضاً، لدرجة أنها كانت لتصلح سطراً في المسلسل الشهير «لعبة العروش»، ومع ذلك يجب التوقف عند هذه العبارات لأنها تحدد مسارات الاقتصاد العالمي في الحقبة الترامبية وما بعدها، وتؤشر إلى الخيارات الصينية بصناعة مملكة جديدة، ستحمل بالطبع طموحها للوصول إلى العرش الكبير! أطلق ترامب رصاصة الرحمة على العولمة التي تترنح منذ فشلها المبكر، وبالتزامن مع ضربته العنيفة لعملاق التكنولوجيا الصيني، يبدو الرجل مصراً على إطلاق النار على قدميه، وهو يستعدي شركات التكنولوجيا العملاقة مثل، غوغل وتيسلا وما تحمله من طموحات بإتاحة التقنية المجانية للعالم، من خلال استخدامها للفضاء والأقمار الصناعية، وكأنه يعود بالعالم إلى ذروة حرب باردة تتعلق بافتعال المعارك في كل مكان، من ردهات الجامعات والمتاحف إلى الفضاء وأعماق البحار، والفرق في هذه المرة، أن ترامب ربما لن يجد الممولين المتحمسين لحروبه نفسهم ضد الجميع من أجل الإبقاء على الخيوط لدى واشنطن.
بالتأمل من جديد في تصريح هواوي، يبدو أن الصينيين سيبحثون عن أفق جديد ويتركون الملعب الأمريكي التقليدي، ولذلك فلا مفر هذه المرة من صدامات لفرض الإرادة والاستحواذ على كعكة العالم، وربما سيكون التصاعد في المواجهة مع الصين داعياً لخريطة استراتيجية في غير مكان من العالم، مثل منطقة الشرق الأوسط، إما باستنزاف واسع لوضع ثرواتها وطاقاتها في مواجهة الصين، أو إهمالها إلى حين للتركيز في المعركة مع الصين ومحاولة الهروب إلى الأمام، من أي تفاعلات تؤثر سلبياً على الصورة التسلطية الجديدة التي يحاول ترامب فرضها على العالم.
المطبخ الضيق، غير المتنوع، الذي يديره الرئيس الأمريكي، لا يمكن التنبؤ بتوجهاته، إلا ربما في إطار دراسات علم النفس، لأن العلوم الاستراتيجية والخبرات السياسية لا تحمل ما يكفي من أدوات لتفسير سلوك ترامب والتعامل معه.
كاتب أردني
الصين ظلمت سكانها من المسلمين الإيغور! وها هي تتلقى العقاب على يد ترامب!! ولا حول ولا قوة الا بالله