حصدت موجة جديدة من الاعتقالات، الأسبوع الماضي، عشرات من ضباط الشرطة في عدد من المدن التركية، في إطار الحرب المعلنة بين رئيس الوزراء المرشح لرئاسة الجمهورية رجب طيب أردوغان والداعية الإسلامي المعتدل فتح الله غولن. ويتهم أردوغان حليفه القديم ورأس حربته في الصراع ضد الوصاية العسكرية، بأنه قد شكل دولة داخل الدولة أو بتعبيره «بنية موازية» داخل مؤسساتها.
يلامس هذا التعبير تعبيراً آخر مألوفاً في الحياة السياسية التركية هو «الدولة العميقة» التي اتهمت، في الرأي العام، بكل العمليات القذرة من اغتيالات و»انتحارات» مزعومة وحملات تضليل للرأي العام وضرب الاستقرار الأمني والسياسي والتخطيط لانقلابات عسكرية وغيرها. كل تلك الأعمال ظلت عموماً غامضة. وحين تم إلقاء القبض على بعض الشبكات المتهمة بها، منذ العام 2007، وحوكم أفرادها بسنوات من الحبس، انقسم الرأي العام بين مجرِّم لها ومدافع عنها، وكأن الحقيقة ظلت بعيدة المنال ومثلها العدالة، خاصة وأن أعداداً من أولئك المتهمين بالتخطيط لعمليات انقلابية تم إخلاء سبيلهم قبيل الانتخابات البلدية، نهاية شهر آذار/مارس الماضي، قبل انتهائهم من فترة محكوميتهم.
الإعلام الموالي لأردوغان يعمل جاهداً على إثبات أن الدولة العميقة القديمة انتهت، وهي التي تلازم وجودها مع الوصاية العسكرية وتداخلت معها، بما يتسق مع العقيدة الكمالية العلمانية – القومية بوصفها «الدين الرسمي» لتركيا الجمهورية؛ لتنشأ محلها دولة عميقة جديدة هي جماعة «الخدمة» بقيادة الإسلامي فتح الله غولن، بموازاة صعود الإيديولوجيا الإسلامية التي أزاحت الكمالية وحلت محلها.
من سخريات السياسة أن التيار العلماني المناهض لأردوغان سبق وطوَّر فكرة «الدكتاتورية المدنية» التي استولت، برأيهم، على الدولة من خلال التسلل السلس والخفي لمريدي فتح الله غولن إلى أجهزة الشرطة والقضاء والإدارة البيروقراطية، بتشجيع ورضى الحزب الحاكم. وقتها بدت قضية العلمانيين خاسرة ومثيرة للسخرية لأنهم دافعوا عن مخططي الانقلابات العسكرية وامتداداتهم المدنية في القضايا التي عرفت باسم «أرغنكون» و»المطرقة» وغيرها، وبدت نظرياتهم حول حزب العدالة والتنمية «الذي يريد إقامة دولة الشريعة الإسلامية» ضرباً هزيلاً من نظريات المؤامرة التي يكذبها الواقع المعاش.
وها هو أردوغان اليوم يكرر، بحق جماعة غولن، ما كان يقوله العلمانيون قبل بضع سنوات. حتى أنه صارح الصحافيين المرافقين له في الطائرة التي أقلته من ديار بكر إلى أنقرة في إطار حملته الانتخابية، فنقل إليهم ما قاله له رئيس الأركان السابق إلكر باشبوغ ذات يوم: «اليوم علينا، وغداً سيكون الدور عليكم» ملمحاً إلى دور جماعة غولن في اتهام باشبوغ بالضلوع في محاولة انقلابية أودت به إلى السجن، وخرج منه قبل أشهر بترتيبات قانونية خاصة.
هل انتهت الدولة العميقة في تركيا حقاً مع نهاية الوصاية العسكرية، أم أنها استبدلت فقط محتواها من العسكر العلمانيين إلى جماعة غولن الإسلامية؟
الواقع أن شبكة مريدي غولن داخل أجهزة الدولة ومؤسساتها لا تشبه تشكلات الدولة العميقة التقليدية إلا بمرجعية الولاء المفارقة للتراتبية البيروقراطية. ويتعلق الفارق الأهم بينهما في أن الدولة العميقة اختصت أساساً بأعمال إجرامية من غير أن يطالها القانون، في حين اقتصرت الفعاليات غير الشرعية للـ»بنية الموازية» على التنصت على المكالمات الهاتفية للطبقة السياسية، ولم تستخدمها لابتزاز خصومها أو تدميرهم معنوياً إلا حين تعرضت هي نفسها للخطر. نريد القول إن جماعة غولن، بخلاف الدولة العميقة، لم تمارس الاغتيالات أو عمليات التخريب الهادفة إلى ضرب الاستقرار أو التخطيط لانقلابات عسكرية أو تنفيذها. يبقى أنها كجماعة متضامنة يقع ولاؤها خارج الجهاز البيروقراطي، تشكل خرقاً للشرعية وخطراً كامناً لا يستهان به. ولكن من يستطيع إثبات ولاء هذا الشرطي أو ذاك القاضي لفتح الله غولن، ما دام يمارس عمله وفقاً للقانون؟ ينطبق هذا بخاصة على فضيحة الفساد الحكومية التي كشفت عنها جماعة غولن، من خلال عمليات المراقبة والتنصت، وقام ضباط شرطة يدينون له بالولاء بتفتيش منازل الوزراء حيث ضبطوا مبالغ خيالية من النقود السائلة المتحصلة من رشى.
من حيث المبدأ لا يمكن الدفاع عن تشكيل مجموعات ولاء داخل أجهزة الدولة، ولا عن عمليات تنصت، وإن كان بعضها بأوامر قضائية، ولا عن تسريب تحقيقات القضاء إلى الإعلام قبل صدور أحكام مبرمة بحق المتهمين. فهذه كلها مما يورط الجماعة بخرق القانون، لكن المستهدف بهذه الأعمال هو فساد حكومي مكشوف من شأنه، في أي دولة ديموقراطية، أن يؤدي إلى استقالة الحكومة ومحاسبتها أمام البرلمان والقضاء. والحال أن ثلاثة وزراء فقط استقالوا، بعد تأخر كبير، تحت ضغط الرأي العام، في حين يستعد رئيس الحكومة للصعود إلى منصب الرئاسة.
يمكن القول إن الدولة العميقة كانت الذراع غير الشرعية للدولة الشمولية بطبعتها التركية، حيث المؤسسة العسكرية هي الحاكم الفعلي بصرف النظر عن الواجهة البرلمانية والحكومية، وفقاً للفلسفة القائلة إن شؤون الدولة ومصالحها أخطر من أن تترك لمزاجية الشعب في صناديق الاقتراع. حتى العام 1950 كان ثمة تطابق بين الدولة الظاهرة وقرينتها العميقة، حيث كان نظام الحزب الواحد «حزب الشعب الجمهوري» الذي أسسه أتاتورك. ولكن ما إن انتقلت تركيا إلى نظام تعدد الأحزاب وفاز الحزب الديموقراطي في أول انتخابات تعددية، حتى برزت الحاجة إلى دولة عميقة تقوم بضبط الأمور خارج الدستور والقانون. وهكذا كان انقلاب العام 1960 هو الطريقة الوحيدة لاستعادة الدولة من الشعب لأصحابها الحقيقيين، أي الجيش والطبقة البورجوازية العلمانية التي يطلق عليها اسم «الأتراك البيض».
مع صعود التيار الإسلامي إلى الحكم وتفرده به طيلة العقد الأول من القرن الجديد، تراجعت مكانة الأيديولوجيا الكمالية وتم القضاء على بؤر الدولة العميقة، داخل الجيش بخاصة. وفي غضون ذلك كانت جماعة غولن تتسلل إلى أجهزة الدولة بهدف أسلمة الحياة العامة على المدى الطويل. لكن رعونة الحكومة في مكافحة نفوذ الجماعة أدت إلى نشوب حرب مبكرة بين جناحي التيار الإسلامي، حرباً لا يمكن التكهن بنتائجها بعيدة المدى.
٭ كاتب سوري
بكر صدقي