تركيا من الرجل المريض إلى المستقل

حجم الخط
12

منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى تاريخ تفككها، أطلق الغرب تسمية «الرجل المريض» على الإمبراطورية العثمانية، بسبب الهزائم التي تعرضت لها، وهي تسمية تعكس تصورا رافق نسبيا وريثتها تركيا لعقود؛ غير أن تركيا الحالية دفنت إلى الأبد هذا التصور، نحو آخر آخذ في التبلور: كلاعب أساسي في الخريطة الجيوسياسية، سواء في البحر المتوسط أو بين الأقطاب الكبرى.
ومن ضمن المعطيات الحالية التي تعكس الأهمية التي تحتلها دولة في الخريطة الدولية، وهو مدى اهتمام مراكز التفكير الاستراتيجي المختلفة بها. بمعنى كيف تخصص لها دراسات وأبحاثا ومتابعة دقيقة مراكز في مختلف الدول، خاصة الكبرى، وليس الاقتصار فقط على مراكز التفكير الاستراتيجي الإقليمية. وينطبق هذا على تركيا، فقد أصبحت مادة أساسية للبحث في مراكز أمريكية وأوروبية وصينية وروسية وهندية وبرازيلية وعربية، ويعود هذا الاهتمام إلى دورها الرئيسي القائم على عاملين رئيسيين وهما:
في المقام الأول، لقد تخلصت تركيا من الصفة التي التصقت بها بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، إذ كانت الرجل المريض، ثم الرجل غير المرغوب فيه. فقد تعامل معها الغرب بنوع من التهميش يصل أحيانا إلى الاحتقار بسبب جذورها غير الغربية، ولهذا تم رفض انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، لقد حاولت تركيا الالتحاق بالغرب، وعمل مفكرون أتراك منذ منتصف القرن العشرين إلى نهايته على صياغة طروحات فكرية وسياسية تجتهد في إظهار روابط هذا البلد بالغرب؛ انطلاقا من اعتبار هوميروس أحد رواد الثقافة الغربية، بأنه تركي الأصل وأن الأناضول لا تقل أهمية عن اليونان، إلى كونها دولة رئيسية لتوفير الأمن والحماية للغرب، من خلال عضويتها في منظمة شمال الحلف الأطلسي. لقد وعت تركيا نهاية القرن العشرين، بأن سعيها لتكون دولة قوية لا يمر عبر «التودد للغرب»، بل في التحول إلى قاطرة للشرق الأوسط، ومخاطب للأقطاب الكبرى في المنطقة. وشهد هذا التصور قفزة نوعية مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى رئاسة الحكومة والبلاد، منذ بداية القرن الجاري، لأنه استغل كل هذه العوامل وأضفى عليها مزيدا من القومية الإسلامية.
في المقام الثاني، رسمت تركيا خريطة عمل جريئة في العلاقات الدولية، تتجلى في استقلالية القرار السياسي – الدبلوماسي عن الغرب أساسا. ووظفت آليات تقوم على نموها الاقتصادي، ثم صناعتها الحربية التي تتطور بشكل كبير خلال العقدين الأخيرين. وعمليا، النمو الاقتصادي يمنح الدولة فائضا لتوظيفه في الاستثمار والمساعدات لدولة ثالثة لكسب النفوذ، وبدورها تعزز الصناعة الحربية نفوذ أي دولة تبيع السلاح، إذ يعد تأثير الأسلحة مشابها لتأثير الطاقة وأحيانا أكثر.

وظفت تركيا آليات تقوم على نموها الاقتصادي، ثم صناعتها الحربية التي تتطور بشكل كبير خلال العقدين الأخيرين

وعلاقة بالعامل الثاني، فقد ساهمت تركيا خلال السنوات الأخيرة في رسم الخريطة الجيوسياسية في عدد من المناطق، وأساسا في البحر الأبيض. فقد تدخلت بجرأة في الملف الليبي، وعرقلت السيناريو المصري- الفرنسي- الإماراتي الذي جرى تصميمه لليبيا إلى مستوى أنها جعلت باريس تنسحب بشكل كبير من الملف الليبي، وهي (فرنسا) التي استغلت الربيع العربي في محاولة للانفراد بالنفط الليبي، إلى مستوى التفكير في تقسيم ليبيا. ولو لم يكن التدخل التركي لكان الوضع في ليبيا مختلفا، ومن عناوينه رئاسة خليفة حفتر لهذا البلد المغاربي. ويمتد نفوذ تركيا إلى باقي دول المغرب العربي، بفضل استثماراتها وأساسا صفقات الأسلحة. وتعزز تركيا نفوذها بشكل قوي في البحر الأبيض المتوسط، وفي مناطق افريقية. وتعد حتى الآن الدولة الثالثة التي تحد من نفوذ فرنسا، خلال الثلاثة عقود الأخيرة، في العالم بعد الولايات المتحدة والصين، وإن كانت المواجهة بين باريس وأنقرة علنية، وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد صرح خلال زيارته إلى دول افريقية خلال أغسطس/آب الماضي، بأنه يهدف إلى تعزيز حضور فرنسا في مواجهة روسيا وتركيا. وأصبحت تركيا لاعبا أساسيا في منطقة القوقاز، وأوصدت الباب في وجه إسرائيل في المنطقة، وإضافة إلى الاقتصاد، تلعب الصناعة الحربية التركية إحدى الركائز الأساسية للنفوذ التركي في العالم، بعد الإقبال الشديد على طائراتها المسيرة «درون بيرقدار تي بي 2» ثم الطائرات المروحية ومؤخرا السفن العسكرية، من طرف دول مثل أوكرانيا وبولندا والمغرب والعربية السعودية، بل تفكر دول مثل ألمانيا في اقتناء طائرات درون تركية، ولكن كبرياءها تمنعها من ذلك. في الوقت ذاته، كسرت تركيا أكبر تابو في الحلف الأطلسي وهو الاستقلالية النسبية في رسم دفاعها، وذلك من خلال الانفتاح على السلاح الصيني وكذلك الروسي. في هذا الصدد، اشترت المنظومة الدفاعية الجوية إس 400 الروسية، وتسبب لها هذا في أزمة عسكرية مع الولايات المتحدة، وتهدد الآن بتوقيع صفقات أسلحة مع روسيا كذلك، لاقتناء طائرات سوخوي 35 بعدما عارض الكونغرس تحديث وبيعها طائرات إف 16، بل ومنعها من مشروع المقاتلة إف 15.
لعل المنعطف في التموقع الجيوسياسي التركي في العالم حاليا هو، دورها الرئيسي في المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا بعد اندلاع الحرب، فهي التي سهلت اتفاق تصدير الحبوب، وهي التي تمهد علنا وسرا لمفاوضات السلام بتفويض من الأقطاب الكبرى الصين وروسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ويسود الاعتقاد أنه لا يمكن تصور اتفاق سلام بين روسيا وأوكرانيا دون دور فعال ورئيسي لتركيا. لم تعد تركيا ذلك الرجل المريض، ولم تعد الرجل غير المرغوب فيه من طرف الغرب، وأصبحت خلال العقدين الأخيرين «الرجل المستقل»، وكل ما ينقصها هو إقامة ديمقراطية حقيقية بعيدا عن سياسة الاعتقالات لتشكل نموذجا لدول المنطقة.
كاتب مغربي من أسرة «القدس العربي»

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول حامل لواء الإمام الرضا:

    بسم الله الرحمن الرحيم
    عبقريه تركيا تكمن في انها مخاطب للأقطاب الكبرى العالمية وهي زاوجتْ بين الطورانية منبع الأمة التركيةو القومية الإسلامية وانتقلت من الفكر الكمالي إلى الإعداد للعثمانية الجديدة بصبر كبير.
    لا يُستبعد مع حلول عام 2023 موعد انتهاء العقوبات المشؤومة المفروضه على السلطنه العثمانيه منذ قرن ان تعلن تركيا عن نفسها دوله عظمى ! وان تعيد الخلافه الاسلاميه بثوب جديد .وقد تردد في الصحف عن عزم تركيا اقامه كومنولث اسلامي مركزه اسطنبول ولغته الرسميه العربيه يجمع الدول الاسلاميه ويرأسه الخليفة.لكن المسؤول التركي الرفيع الذي اطلق تلك التصريحات أقيل في اليوم التالي من منصبه.
    من حق المسلمين ان يكون لهم الخليفه على غرار المسيحيين الذين لهم الفاتيكان والانجليز الذين لهم رئيس الكنيسة الأنجليكانية الملك البريطاني. والرسول صلى الله عليه واله وسلم اخبرنا( بعودة الخلافة آخر الزمان على منهاج النبوة )لكي ترتاح الناس

  2. يقول عبدالله:

    لاتوجد دولة مستقلة في عالمنا هذا. الإستثناء الوحيد هي الولايات المتحدة التي هي مستقلة الى حدما. تويتة واحدة من ترامب عصفت بليرة التركية. فأين الاستقلالية.

    1. يقول نبيل طينه:

      ما هي استقلالية أميركا.انا لست سياسات ولكن اقرأ واسمع من السياسيين الأميركيين أن السلطة الأمريكية محكومة للصهيونية فهل يعقل أن معظم المسئولين في الإدارة الأميركية يهود وكذلك معظم المتحكمين في المجالات الاقتصادية والبحثية والسياسية. عدد أعضاء الكونجرس اليهود بالنسبة لعدد السكان مريب.

  3. يقول الكردي اسكندنافيا:

    (شهد هذا التصور قفزة نوعية مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى رئاسة الحكومة والبلاد، منذ بداية القرن الجاري، لأنه استغل كل هذه العوامل وأضفى عليها مزيدا من القومية الإسلامية…) إهـ‍

    بغض النظر عن التوجهات الإيديولوجية (القومية الإسلامية أم العلمانية الاتاتوركية) فإن البراغماتية هي الطابع الرئيس الذي ساهم في إحداث نقلة نوعية في تركيا على المستوى السياسي والإقتصادي على السواء, فبعد صعود رفاق اردوغان لمواقع الحكم كانت الأولوية إصلاح النظام السياسي المترهل بمحاصرة الفساد الإقتصادي ثم تحييد دور قادة الجيش في المشهد السياسي وهما عاملان أساسيان لإحداث إقلاع إقتصادي وصناعي في البلد, بعد عودة الجيش للثكنات و تحوله لجيش احترافي يهتم بالتصنيع الحربي بدل التدخل في الشأن السياسي عرفت البلد دينامية جديدة لأن ترسيخ الديموقراطية كما أثبتت تجارب تاريخية مختلفة يصاحبه لا شك تنمية في البلد وتوزيع عادل للثروات وإقلاع اقتصادي, لو أن أمة العرب استوعبت هذه المعادلة البديهية وتخلصت من الإستبداد والفساد لكان وضعها اليوم في مصاف الامم فهي تملك كل المقومات لنهضة شاملة ولكن للأسف لا حياة لمن ننادي يا للحسرة.

  4. يقول ا خير الكلام:

    تركيا اعترفت بالكيان الصهيوني منذ اليوم الأول حتى الآن. واخيرا طردت عناصر المقاومة الفلسطينية من أراضيها.تركيا مع حلف الناتو من أفغانستان الى آخر بقاع الأرض. . كم جندى استشهد من أجل القضية الفلسطينية. آلاف الشهداء من دول الطوق مصر وسوريا ولبنان والأردن قضوا نحبهم فى أربع حروب. أما شراء تركيا أسلحة من امريكا او روسيا لا يجعلها عظيمة. تركيا ليس لها الحق التدخل في الشأن الليبى بل دول الجوار مثل مصر والجزائر وتونس. تركيا لها ما لها وعليها ما عليها وليست أفضل من أقل دولة عربية

  5. يقول rachio:

    مقال تحليلي ممتاز شكرا الأستاذ حسين المجدوبي

  6. يقول عبدالرحمن:

    كل الاحترام للأستاذ المجدوبي ،في تناوله لقضايا امته باحترافية وموضوعية مسؤولية و ..!

  7. يقول حامل لواء الإمام الرضا:

    يتبع
    لو صح القول عن الكمنولولث الإسلامي التركي فالأوفق لرئاسته : أن يتداولها آل عثمان لإعادة رائحة الخلافة الإسلامية التي حكمت مدة 7قرون أو اختيار أسرة جديدة تركية الدم بينما الخليفة المنبثق عن الكمنولولث فهو بالانتخاب من الدول الإسلاميه للالتفاف حول شخصية معتدلة من السنة يكون نائبه شيعيا مثلا عن السنة:د طاهر القادري من باكستان ونائبه عن الشيعة:الشيخ ياسر عودة من لبنان.

  8. يقول عبد الله شيبان:

    “فقد أصبحت مادة أساسية للبحث في مراكز أمريكية وأوروبية وصينية وروسية وهندية وبرازيلية وعربية” البحث على قدم وساق في الدول العربية خاصة، من أجل إيجاد سبيل فعال لإضعاف وإفشال هذه التجربة الإسلامية الواعدة.

  9. يقول ismail el jundi:

    لسوء حظ المواطن العربي لم تقلد اية دولة عربية تركيا ودورها والاسوء ان غالبية ادول العربية حاربت الناصرية التي حاولت تاسيس كيان عربي مستقل

  10. يقول Moh:

    تركيا من الرجل المريض إلى العمالة ل NATO

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية