إسطنبول- “القدس العربي”: أعلن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، أن بلاده وأرمينيا سوف تتبادلان قريباً تعيين ممثلين في أنقرة ويريفان في تطور كبير لمساعي تطبيع العلاقات بين البلدين، بعد أسابيع من تبادل للرسائل الإيجابية التي رحبت بإمكانية الحوار وبدء خطوات تدريجية لكسر الجمود تمهيداً لإمكانية فتح صفحة جديدة في سجل العلاقات التاريخية الصعبة والمعقدة بين البلدين، في ظل تكهنات مختلفة حول مدى واقعية وإمكانية التفاؤل بقدرة البلدين على تجاوز الخلافات التاريخية الثقيلة.
وفي كلمة له أمام البرلمان التركي، مساء الاثنين، كشف أوغلو أن تركيا وأرمينيا سوف تتبادلان قريباً تعيين ممثلين لهما بالبلدين في إطار خطوات إعادة تطبيع العلاقات، وأن تركيا سوف تبدأ تسيير رحلات جوية غير منتظمة “شارتر” إلى العاصمة الأرمينية، لافتاً إلى أن تركيا سوف تتخذ جميع هذه الخطوات بالتنسيق مع أذربيجان.
من جهتها، أعلنت وزارة الخارجية الأرمينية، الثلاثاء، تعيين ممثل خاص من أجل تطبيع العلاقات مع تركيا. وكتب متحدث وزارة الخارجية فان أونانيان، عبر حسابه على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، أن “أرمينيا مستعدة دائماً لعملية تطبيع العلاقات مع تركيا دون شروط مسبقة”، وأضاف: “في هذا الإطار، فإننا نقيّم بشكل إيجابي تصريح وزير الخارجية التركي بشأن تعيين ممثل خاص لتطبيع العلاقات، ونؤكد أن الجانب الأرميني سيعين ممثلا خاصا لبدء الحوار”.
وعقب استقلالها عن الاتحاد السوفيتي عام 1991 اعترفت تركيا بأرمينيا كجمهورية مستقلة، لكن ما لبثت أن تفجرت الخلافات بين البلدين عقب احتلال أرمينيا لإقليم قره باغ الأذربيجاني، وإلى جانب الإرث التاريخي الصعب المتعلق بأحداث الأرمن إبان الدولة العثمانية، بقي ملف قره باغ من أهم ملفات الخلاف بين البلدين، ويعتقد أن نتائج الحرب الأخيرة وقبول أذربيجان وأرمينيا باتفاق الهدنة الأخير، ساهم في تحريك العلاقات التركية الأرمينية، حيث كانت أذربيجان تعترض سابقاً على أي تحسن في علاقات أنقرة مع يريفان وهو ما دفع أوغلو للتأكيد على أن الخطوات التركية ستكون بالتنسيق مع أذربيجان.
ومنذ أسابيع تبادل البلدان تصريحات ورسائل إيجابية مختلفة، لكنها المرة الأولى التي يجري الحديث فيها عن البدء بإجراءات عملية على الأرض في إطار خطوات تطبيع العلاقات بين البلدين وهو ما يشير إلى أن المسار تجاوز مرحلة الرغبة وتبادل الرسائل وانتقل إلى مرحلة البدء بالخطوات العملية التي يمكن أن تنجح في تحقيق اختراق ولو طفيف في العلاقات بين البلدين.
وعلى الرغم من وجود متغيرات مهمة تدفع الطرفين نحو تقديم تنازلات لتجاوز الخلافات، إلا أن مؤرخين وسياسيين يرون أن الإرث التاريخي الثقيل والتباعد الكبير في المواقف يجعل من الصعب التفاؤل والتكهن بإمكانية حصول اختراق حقيقي كبير مع التأكيد على أهمية التصريحات والخطوات الأخيرة في بناء أرضية قد تفتح الباب أمام حوار حقيقي بين الجانبين، وخطوات إيجابية تدريجية قد تؤسس بالفعل لصفحة جديدة، وإن كان ذلك عبر خطوات صغيرة وتدريجية وبطيئة.
ويعتبر ملف “مذابح الأرمن” من أبرز الخلافات التاريخية العميقة بين البلدين، حيث تطالب أرمينيا باعتبار ما جرى في الدولة العثمانية بالحرب العالمية الأولى “إبادة جماعية” واعتراف تركيا بها ودفع تعويضات عن مقتل قرابة 1.5 مليون أرمني. لكن تركيا تعتبر ما جرى في تلك الحقبة “مأساة جماعية للطرفين” وتشير إلى وقوع مذابح من الطرفين وسقوط ضحايا بمئات الآلاف من الجانبين، وتطالب بـ”إبعاد الملف عن التجاذبات السياسية والعمل عليه في إطار المؤرخين”، مؤكدة استعدادها لفتح الأرشيف العثماني بشكل كامل للمؤرخين، كما تدعو إلى طي صفحة الماضي والعمل على صفح صفحة جديدة في العلاقات بين الجانبين.
ونهاية الشهر الماضي، أعلن وزير الخارجية الأرميني آرارات ميرزويان أن بلاده ترفض شروط أنقرة لإقامة علاقات طبيعية بين البلدين، بما فيها شق ممر عبر أراضي أرمينيا ليربط أذربيجان بتركيا، وقال في حوار مع صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية: “قلنا دائما إننا مستعدون لتطبيع علاقاتنا بدون شروط مسبقة، وذلك على الرغم من المساعدة الهائلة التي قدمتها تركيا لأذربيجان أثناء الحرب على قره باغ، والمتمثلة بالدعم السياسي وتوفير أسلحة ومرتزقة أجانب”، لافتاً إلى أن “أرمينيا تسلمت رسائل إيجابية من تركيا بشأن استئناف الحوار بين البلدين لكن هناك ما يعرقله”.
وفي آب/ أغسطس الماضي، وجّه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان “رسالة سلام إلى الشعب الأرميني”، قائلاً: “سنفتح أبوابنا الموصدة أمام أرمينيا إن اتخذت خطوات إيجابية”، لافتاً إلى أن تركيا يعيش فيها أكثر من 100 ألف مواطن من أصول أرمينية.
من جهته، تحدث رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان عن “بعض الإشارات العامة الإيجابية القادمة من تركيا فيما يتعلق بالسلام الإقليمي“، وقال خلال اجتماع لمجلس الوزراء: “سنقيّم هذه الإشارات وسنرد عليها بشكل إيجابي”، وفق ما نقلت وكالة تاس الروسية للأنباء.
وتعقيباً على تصريحات باشينيان، أعرب أردوغان عن استعداد بلاده للتطبيع التدريجي مع أرمينيا، في حال “أقدمت حكومتها على انتهاج مواقف واقعية وابتعدت عن كيل الاتهامات الأحادية”، وأضاف: “بدلا من الاتهامات أحادية الجانب يجب أن تسود الأساليب الواقعية الاستشرافية، ويمكننا العمل على تطبيع علاقاتنا تدريجيا مع حكومة أرمينية تبدي استعدادها للتحرك في هذا الاتجاه”، لافتاً إلى أن المنطقة بحاجة إلى مواقف بناءة جديدة.
وعقب نجاح أذربيجان في تحرير إقليم قره باغ وطرد القوات الأرمينية من مناطق واسعة من أراضيها، وعلى الرغم مما أشعلته المعارك من خلافات بين أرمينيا وتركيا، إلا أن ملف احتلال أرمينيا لجزء من الأراضي الأذربيجانية كان أحد أبرز ملفات الخلاف بين البلدين بعد العداء التاريخي بينهما، وكان من شأن انتهاء الحرب وإعلان أذربيجان استعادة أراضيها أن يشكل فرصة للبلدين للتخلص من أحد أبرز نقاط الخلاف والتطلع إلى المستقبل.
بالمقابل، فإن معارك قره باغ الأخيرة خلّفت زلزالاً في التركيبة السياسية الداخلية في أرمينيا، ودفعت المستوى السياسي الحاكم للبحث عن اتخاذ خطوات غير تقليدية لرسم مستقبل البلاد وبناء التحالفات، بعدما فشلت في الحصول على الدعم المتوقع خلال الحرب التي خسرتها بتكلفة باهظة جداً، الأمر الذي قد يدفع نحو إعادة النظر في جدوى “الحلفاء” التقليديين وإعادة بناء علاقات متوازنة مع القوى الدولية ودول الجوار ومحاولة التغلب على الصعوبات الاقتصادية من خلال تحسين العلاقات مع دول الجوار وفتح الحدود معها.
وفي هذا الإطار، يظهر الدور الروسي وتأثيره على توجهات أرمينيا خلال المرحلة المقبلة، حيث نجحت موسكو في استغلال الحرب الأخيرة من اجل دفع أرمينيا للتقارب أكثر معها، بعدما سعت الأخيرة للابتعاد مؤخراً نحو الغرب، وهو ما عزز من الدور الروسي في السياسة الداخلية لأرمينيا، وبالتالي من المتوقع أن تلعب روسيا دوراً محورياً في أي مساعي للتقارب بين تركيا وأرمينيا لما تتمتع به موسكو من علاقات متقدمة مع الجانبين.
وقال فاهان هونانيان، المتحدث باسم خارجية أرمينيا، إن سلطات بلاده أبلغت الجانب الروسي، باستعدادها لبدء تسوية العلاقات مع تركيا دون شروط مسبقة، وقال نهاية الشهر الماضي: “يعرب بعض الشركاء الدوليين، ومن ضمنهم حليفتنا روسيا عن الاستعداد لدعم عملية تطبيع العلاقات الأرمينية- التركية. وأثناء المناقشات مع شركائنا الروس، أشرنا إلى استعدادنا لتطبيع العلاقات دون شروط مسبقة. وعندما ستبدأ هذه العملية، فسنبلغ الجمهور بالطبع بتطور الاحداث”.
كما يدعم التحركات الأخيرة، التوجه التركي العام بمحاولة طي الكثير من ملفات الخلاف مع دول المنطقة والعالم، حيث يقود الرئيس التركي حملة دبلوماسية تهدف لإصلاح العلاقات مع الكثير من الدول كما يجري حالياً مع مصر والإمارات والسعودية والاتحاد الأوروبي. وفي هذا الإطار، يظهر مدى استعداد أنقرة حتى لتقديم تنازلات في سبيل فتح ثغرة في جدار العلاقات المقطوعة والحدود المغلقة بين البلدين، حيث من شأن أي حوار تركي أرميني أن يرسل رسائل إيجابية إلى الاتحاد الأوروبي والعالم حتى وإن لم يصل الجانبان إلى نتائج كبيرة.
وعلى الرغم من الملفات التاريخية الثقيلة والخلافات المتشعبة، إلا أنه من المتوقع أن تلعب الدوافع الاقتصادية دوراً مهماً في أي مساعي لتطبيع العلاقات، حيث شكل الاقتصاد المتداعي عالمياً عقب جائحة كورونا دافعاً للكثير من الدول لتحييد خلافاتها، يضاف إلى ذلك رغبة أرمينيا من الخروج من سياسة الانغلاق والاعتماد على الحلفاء -الذين ترى أنهم خذلوها في حرب قره باغ- ورغبة أنقرة الجامحة في تقليل خلافاتها وبشكل خاص مع دول الجوار.