لم تستطع سيرة برنامج رفع قيمة التبادل التجاري بين تركيا وإيران من خمسة مليارات دولار إلى ثلاثين مليار دولار، أن تزيد من حرارة اللقاء بين الرئيسين رجب طيب أردوغان وإبراهيم رئيسي في الأسبوع الماضي، رغم تجنيد جيش من رجال الأعمال الذين عملوا معاً على تذليل مشاكل الاستثمارات الحالية (التركية في إيران خصوصاً). ويبدو في الظاهر على الأقل، أن التعاون الاقتصادي كان الهدف العملي، وصمام الأمان للنقاشات السياسية بين الطرفين.
في الوقت نفسه كانت هنالك اجتماعات الجولة 21 في أستانة، التي تخصّ سوريا، ولم يلتفت إليها الرئيسان في أنقرة، كما لم ينتبه إليها المراقبون عموماً.
جاءت مصادر التوتّر من خلافات حول الموقف والسلوك من حرب غزة أولاً، ثمّ من عملية قصف إيران لمعارضتها البلوشية على الأراضي الباكستانية ثانياً؛ ويمكن إضافة نقطة خلاف ممّا يجري مؤخّراً في العراق ثالثاً؛ في حين يبدو كأنّ هناك تفاهماً متجدداً حول سوريا، غير واضح المعالم تماماً، بعد.
تحوّلت اجتماعات أستانة سابقاً إلى اجتماع رباعي (روسيا- تركيا- إيران- النظام السوري)، وقيل إن مسار أستانة قد يتحوّل إلى ذلك المسار الرباعي، الذي يستثني المعارضة السورية، المحسوبة عموماً على تركيا؛ لكن ذلك لم يحدث. ربّما كان لفشل سياق التطبيع العربي- وهنا التركي خصوصاً- دور رئيسي في ذلك، خصوصاً بعد الطرح التراجيكوميدي للنظام بطلبه انسحاب الأتراك من الأرض السورية.
هنالك نوع من التوافق غير المعلن تماماً بين تركيا وإيران على شؤون شمال العراق وشمال شرق سوريا، لا بدّ أنه يحتاج إلى نوع من التنسيق من أجل التكامل، أو منع التداخلات غير المرغوب فيها
كان من أهمّ ما استُنتج من مزاج لقاء أستانة من قبل بعض السوريين القلقين، أن «نقاط التماس» على تخوم إدلب ثابتة، وسيجري تعزيز الهدوء فيها. وهذا يعني أن طلبات النظام ومعه الروس والإيرانيون في غير أوانها وموسمها، ما يزيد من غموض أسباب تلك السكينة، بخلاف تيسير بعض الأمور الاقتصادية البالغة الحساسية للطرفين. يقترح بعضنا أنّ شؤون شمال سوريا وشرقها، من حلب إلى القامشلي، ومن جرابلس إلى دير الزور، هي لحمة العلاقة واستمرارها.
تهتم تركيا أردوغان بتصفية الجيوب الكردية غرب الفرات: تل رفعت ومنبج؛ ويعترض طريقها ذاك، غياب التوافق مع الولايات المتحدة وروسيا، كليهما أو إحداهما، على ذلك مباشرة، أو بإغماض العين. تهتمّ أيضاً بتوسيع نطاق الضغط على قوات سوريا الديمقراطية، التي تقول إنها غطاء لحزب العمال الكردستاني/ التركي، بعد أن زاد عيار ذلك الضغط في الأشهر الأخيرة، بحيث دمّرت نسبة لا بأس بها من البنية التحتية للإدارة الذاتية وسكان منطقتها، واغتالت عدداً من كوادر قسد، ما زال يتزايد. ذلك كلّه ضمن استراتيجية تركية لا تخفي هدفها حول قيام منطقة آمنة – عازلة على مسافة من حدودها تتراوح بين 30 – 35 كيلومترا، لا توافق الولايات المتحدة على قيامها، ولم تقتنع بإضافتها بعد إلى أية صفقة كبيرة بينها وبين تركيا. من الجهة الإيرانية، عن طريق حرسها الثوري أو الميليشيات المرتبطة به، هنالك اهتمام أيضاً بتأمين المرور الاستراتيجي باتجاه دمشق وجنوب سوريا الغربي، بمحاذاة الجيش الإسرائيلي. تعمل إيران على إشغال قوات سوريا الديمقراطية أيضاً، باستغلال للثغرات التي تفتحها الدعوة – أو الإغراءات – الشيعية في جسد العشائر العربية. يحدث ذلك أيضاً من خلال تدخّل مباشر؛ بعضه من شرق الحدود داخل العراق؛ بقصف أصبح منتظماً للقواعد الأمريكية في الجزيرة.
مع تطوّر حرب غزة، ودخول حزب الله المحدود فيها، إضافة إلى مشاغلات الحوثي في البحر الأحمر، أصبح للتحرّش الإيراني مباشرة أو بشكل غير مباشر، بالقوات الأمريكية شرق الفرات مضامين إضافية، لا ينزعج منها الروس، بانتظار دورهم في القطاف. هناك ما يصل ويجمع بين ما يجري في شمال العراق وشمال شرق سوريا، هو وجود الولايات المتحدة وتركيا وإيران والسلطات الكردية على طرفي الحدود. فإيران تهتمّ بإبعاد معارضتها الكردية عن حدودها، وقد تحقق لها ذلك مؤخّراً عن طريق تعاون الحكومة العراقية وجنوحها للأمان. وهي إذ تهتمّ أيضاً بمحاولة تقليم أظافر حكومة الإقليم، واستثمار الانقسامات فيه، فقد لجأت إلى الحكاية المتكررة حول وجود «الموساد» هناك، والتذرّع به للقيام بقصف موقع مدني يحمل أهمية خاصة للإقليم واقتصاده بصواريخ مدمّرة. لتركيا كذلك اهتمامات قوية ووجود عسكري في شمال العراق، يراقب معسكرات حزب العمال في جبال قنديل، ويضغط عليها عسكرياً بين فترة وأخرى. وإذا كانت تقوم بذلك وحدها، إلّا أنها تعلم جيّداً أن مصالحها تتقاطع مباشرة مع المصالح الإيرانية.
هنالك إذن نوع من التوافق غير المعلن تماماً بين البلدين على شؤون شمال العراق وشمال شرق سوريا، لا بدّ أنه يحتاج إلى نوع من التنسيق من أجل التكامل، أو من أجل منع التداخلات غير المرغوب فيها، وحتى يتمّ الحفاظ على الهارموني ما بين مصالح تركيا- وأمنها القومي الذي يستهدف الكرد من جهة، وتعديل بنية شمال سوريا كلّها، وإحراج القوات الأمريكية وضرب هيبتها وعزيمتها؛ ومصالح إيران في إبقاء «خطّ الشام» مفتوحاً، والضغط الميداني على الولايات المتحدة عن طريق أدواتها في سوريا والعراق، الذي لا يصل إلى غايته ومُناه إلّا بالوصول إلى تخوم القوات الإسرائيلية في الجنوب الغربي. تأتي صواريخ ومسيّرات من الشمال والغرب تستهدف قسد، وأخرى من الجنوب والشرق تستهدف الوجود الأمريكي، لتجتمع في سماء الجزيرة السورية في أوركسترا واحدة.
لطالما سعت الولايات المتحدة إلى تبديد الهواجس التركية المزمنة، وأوضحت موقفها الرافض لقيام «كيان كردي مستقل» على الحدود السورية مع تركيا؛ ولم تدعم أيّ ربط مباشر بين المناطق الكردية في شرق الفرات وغربه سابقاً. وكان لمواقفها تلك دور حاسم في بعض المراحل السابقة. صحيح أن الولايات المتحدة لم تقنع بشكل قاطع كلّ الأطراف أنها لا تؤيّد تقسيم سوريا أو تجزئتها، لأنها لم تهتمّ بذلك بالمستوى الذي يستحقه، وسايرت بعض القوى، بل ربّما أفسدتها بمسايرتها أيضاً؛ لكنّ ذلك (تأكيد الوقوف مع سوريا الموحّدة) لم يحقق أهدافه بشكل ناجز.
هنالك نوع من المغامرة الحدّية في طرح أفكار تطوير الحوكمة المحلية، الذي يؤيّده الغرب عموماً، في ملاقاة غير مباشرة لمسار أستانة، بنيوية واستراتيجية. تعتمد هذه الأفكار على قَلب عقلية التسوية رأساً على عقب، وبناء مسار لها يتطوّر من الأسفل إلى الأعلى، بحيث تقوم مجالس محليّة هي أقرب ما يمكن إلى التعبير الديمقراطي، تبدأ بحلّ مشاكلها وتقضي حاجاتها، لتتواصل لاحقاً وفي كلّ مكان لتشكيل الدولة المستقبلية. ولو لم تنجح تلك الخريطة بشكل كامل، سيكون لها من النفوذ ما يؤثّر ويفعل في العملية السياسية وتحقيق الانتقال لاحقاً. يطمح أصحاب تلك الفكرة إلى انتشار تطبيقها في» الكانتونات» كلّها في ما بعد، بما في ذلك كانتون نظام الأسد المتهتّك أساساً.
تلك التطبيقات للحوكمة المحلية، يمكن لها من ناحية أخرى أن تتعمّق أو تتأصّل وتستقرّ حتى تصبح عائقاً أمام عملية توحيد البلاد في المستقبل، لذلك تحتاج إلى جلوس القوى صاحبة المصلحة، أو تملك أسهماً في القضية السورية، والتفاهم بأكبر درجة ممكنة. هذا يشمل تفاهماً أمريكياً – أوروبياً مع تركيا سوف يدعمه قليلاً إقرار حكومة اردوغان لدخول السويد في حلف الناتو، مع تمرير صفقة طائرات إف 16، في حين ينبغي تقليص الطموحات الإيرانية وإجبارها على التراجع إلى الوراء.. ذلك قد يساعد على تبريد الالتهابات التي تتفجّر كلّ يوم وتخيف السوريين كلّهم. وما يفاقم من هذا الخوف، تسهيل حالة العراق له، تلك التي تمحو الحدود الإيرانية مع سوريا وضمنها، حتى الرقبة والرأس!
كاتب سوري