إن ما يُعذب رجب طيب اردوغان يطيب لنا، ولهذا تُحدث الاضطرابات في تركيا عندنا شعورا بالارتياح. ويوجد من يضبطون شعورهم ويوجد من يعبرون علنا عن شماتتهم به ويقترحون ارسال رحلة بحرية لمساعدة المتظاهرين في ميدان تقسيم. وأنا أقترح ان نفحص عن الامر المشترك بين مشكلات تركيا ومشكلاتنا، فنحن لا يختلف بعضنا عن بعض كما نريد ان نؤمن، ولهذا فان المقارنة قد تساعدنا على ان نفهم أنفسنا. إن الاتراك في تركيا مثل اليهود في اسرائيل يتأرجحون بين توجهات علمانية وديمقراطية وليبرالية، وبين توجهات دينية وتسلطية ومحافظة. إن نظام حكمنا في بعض المجالات أقل ليبرالية من النظام في تركيا والعكس صحيح في مجالات كثيرة اخرى. ولا يوجد في تركيا رجال دين رؤساء تختارهم المؤسسات السياسية العلمانية، لكنهم يعملون من اجل تغليب (شريعتنا) بحسب تفسير واحدة من الطوائف الدينية الارثوذكسية. وفي تركيا لا يرشقون بالحجارة امرأة مكشوفة الذراعين تتنزه في حي متدين. إن القسم الذي يتمسك بالتوجهات الليبرالية عندنا هو الأكثر غنى وثقافة بين السكان، وعندهم، عندهم ايضا، يسعى المثقفون والاغنياء وراء هذه التصورات. وهنا وهناك ايضا أخذت تتضاءل نسبة المنتمين الى القسم العلماني الليبرالي بسبب الفرق في نسب الولادة. ويؤثر التغير السكاني في طبيعة السلطة ولهذا يخشى العلمانيون هناك ايضا من فقدان تأثيرهم ومن استبداد رجال الدين وعملائهم السياسيين، وهم هنا ايضا على شفا يأس. إن المواجهة بين هذين التوجهين واقعة منذ بدأت الحركتان القوميتان الصهيونية السياسية والتركية الحديثة، فقد ولدت كلتاهما عن هزائم، أما الصهيونية فعن هزيمة الاندماج في اوروبا، بحيث تبين لمفكريها أن التنوير غير قادر على ان يهزم معاداة السامية واقترحوا حل الدولة القومية اليهودية. وولدت القومية التركية الحديثة من ازمة هزيمة الدولة العثمانية المتعددة القوميات، وانطوى الاتراك في المنطقة التي هي قاعدتهم القومية في مهد تراثهم وانشأوا دولة كمالية تستلهم الدول القومية الاوروبية. وهم مثلنا يتخبطون في مسألة هويتهم ايضا، فهل الاتراك هم فقط من تكون اللغة التركية هي لغتهم الأم، وديانتهم هي الاسلام السني، أم أن اليونان والأرمن والاكراد والاتراك الشيعة هم أتراك ايضا؟ وقد حل الاتراك هذه المعضلة بـ’ترحيل’ ملايين اليونانيين، والمذبحة الجماعية للأرمن لا تزال تذكر، لكنهم ظلوا عالقين مع الاكراد الذين يشكلون نسبة لا يستهان بها. وكانوا يدعونهم عشرات السنين ‘اتراكا جبليين’ وقمعوا محاولاتهم التمسك بلغتهم واقامة قدر من الحكم الذاتي الثقافي. وطردنا نحن مئات آلاف الفلسطينيين ومحونا مئات القرى عن وجه الارض وحظرنا على الباقين معنا الحفاظ على ذاكرتهم التاريخية. وقد أثر ‘الترحيل’ في تركيا واليونان في عدد من قادة الصهيونية، فاقترحوا تبني هذا النموذج، ويوجد اليوم ايضا من يفكر فيه. لم يتحرر التصور التاريخي لهاتين الأمتين من صلتهما بالماضي. أما هم فالحديث عن صلتهم بالماضي الاستعماري العثماني وأما نحن فبمملكة اسرائيل على عهد داود وسليمان والاسكندر يناي. وحديث عندنا وعندهم رد فعل على الحضارة الغربية وشوق الى نهضة ثقافية قومية تتخلص من الركام الغربي. وفي الحالين يلقى هذا الشوق الى النهضة الواقع الشديد الوطأة فالنماء الاقتصادي والقوة العسكرية مشروطان بصلة وثيقة بالغرب الذي لا تتفق قيمه مع الشريعة اليهودية والشريعة الاسلامية. وكان يمكن ان نفترض انه لولا نظر الغرب المراقب لتحولت اسرائيل وتركيا الى نظامي استبداد قوميين كاملين. يحكم اردوغان على اسرائيل من دون ان يعرف كما ينبغي تاريخ الشعب اليهودي وفي تجاهل للعوامل القسرية الكبيرة التي تؤثر في سلوكها، ونفهم نحن تركيا بعيون النادلين في الفنادق ‘التي تشمل كل شيء’. فعدم الفهم ايضا هو القاسم المشترك بيننا.