ترهونة الليبية تاريخ عريق عنوانه التضحية والجهاد وحاضر مأساوي

نسرين سليمان
حجم الخط
0

طرابلس ـ «القدس العربي»: ترهونة هي مدينة ذات تاريخ إسلامي غني، وهندسة معمارية رائعة، وثقافة نابضة بالحياة تعكس مساجدها ومتاحفها وقصورها التراث الثقافي المتنوع للمدينة، لها تاريخ طويل في النضال والجهاد وحديثا شهدت على إحدى أسوأ مجازر القرن، حيث سجلت فيها شهادات لجرائم مروعة ملأت أراضيها بالمقابر الجماعية.

تبعد عن العاصمة طرابلس بـ 88 كم إلى الجنوب الشرقي. وتبدأ حدودها الجغرافية من منطقة وادي فم ملغة غربا إلى بركات أوعينى وهما الواقعتان جغرافيا غرب مسلاتة التي تحد ترهونة شرقا ثم من سوق الجمعة -المصابحة- شمالا إلى وادي أوكرة المزاوغة ومرغنة الذي يحد بني وليد جنوبا. تتبع مدينة ترهونة شعبية ترهونة ومسلاتة سابقا وشعبية المرقب حاليا. وترتفع عن مستوى سطح البحر 398 متراً.
وتعتبر المدينة واحدة من أقدم المستقرات البشرية في ليبيا كان يسميها المؤرخون ومنهم هيرودوت في القرن الخامس قبل الميلاد مرتفع إلاهات الجمال، ويطلق على أحد أوديتها المشهورة وادي ترغلات نهر سينيبس، ويصف أرضها بالخصوبة وجودة المحاصيل، ومما قالوه عنها إن نهر سينيبس يجري في أرض قبيلة المكاي وهو ينبع من مرتفع اسمه مرتفع إلاهات الجمال ويصب في البحر وإن هذا المرتفع مغطى بغابات من الأشجار.
تم بناء المدينة على تفتيش وتخطيط من قبل المهندس الإيطالي فيتواليو دي سيسكو، وكانت ترهونة تحتوي على مصفاة نفطية وميناء تصدير وسكة حديدية ومستشفى ومدرسة ومسجد وكنيسة ومديرية أمن والعديد من المباني والمنشآت الأخرى.
وأصل تسمية ترهونة مختلف فيه وهي كلمة أمازيغية، وتعد ترهونة من القبائل الأصلية في ليبيا وترجع أصولها إلى البربرية كما يعتقد الكثيرون وإلى قبائل حمير التي كانت تقطن الجزيرة العربية وهاجرت منها إلى الساحل الأفريقي ما قبل الميلاد.
ورد أول ذكر لترهونة وقبائلها في أقدم كتاب في تاريخ البشرية وهو كتاب التاريخ لهيرودوت المؤرخ الإغريقي، ولقد وصفها هيرودوت ووصف قبائلها وعاداتهم وأشجار الزيتون ووديان المنطقة والقفار التي كانت مخصصة للرعي.

جهاد القبائل

تشتهر ترهونة بتاريخها الإسلامي الغني ومشهدها الثقافي النابض بالحياة، حيث تعتبر المدينة موطناً للعديد من المواقع الإسلامية الهامة والعجائب المعمارية والمعالم الثقافية.
وبلغ سكان المدينة نحو مليون نسمة وتكتسب أهميتها من كونها معقل قبائل ترهونة إحدى أكبر القبائل الليبية على الإطلاق التي تزيد على 63 قبيلة منها أولاد علي، الفرجان، المهادي، الغرارات، الدوائم، الهماملة، أولاد حمد، العوامر، الحواتم، المارغنة، وأولاد معرف، البركات، والعبانات، والمزاوغة، والدراهيب، والحمادات.
استوطن الأمازيغ اللوبيون والفينيقيون الذين أطلق عليهم الرومان ثم العرب تسمية البربر الأراضي التي توجد بها ترهونة اليوم، واستقروا بها منذ أقدم العصور والتحق بهم العرب سواء مع الفتح الإسلامي أو مع غزوات قبائل بني هلال وبني سليم في العهد الفاطمي، وأصبحت ترهونة تتشكل من السكان الحضر وسط المدينة ومن الريفيين وأيضا البدو في ضواحيها الفلاحية.
وشكلت القبائل العربية في ترهونة ركيزة من ركائز العرب في وجه الولاة الأتراك، وخاضوا ضمن قبائل عربية أخرى معارك مشرفة ضد تجبر الأتراك ورغبتهم في السيطرة على الدواخل، وتعتبر ملحمة عمر فحيج الفرجاني الشهيره مثالا لرفض الحكم الأجنبي.
وعندما دخل الإيطاليون إلى ليبيا ساهمت قبائل العرب بترهونة في مواجهة المستعمر البغيض، وتجلت أبرز مساهمتهم الفاعلة في هزيمة القوات الإيطالية في معارك الهاني الشهيرة، حيث كانت لكتيبة قبائل ترهونة مشاركة حاسمة في الدفاع عن طرابلس.
وكان دور مقاتلي ترهونة بارزاً في معركة القرضابية الشهيرة جداً، وكان الجيش مؤلفا من أربعة عشر ألف مقاتل، وحاز الطليان المدافع والرشاشات دوماً فيما امتلك أهل ليبيا قلوبهم العاشقة لهذا التراب الغالي.
ومن ملاحم الجهاد أيضا توجد معركة الأكوام، ومعركة البويرات، ومعركة الداوون، ووادي سرط، ومعلوم أن مساندة مجاهدي ترهونة كانت حاضرة في أغلب معارك الجهاد في المناطق المحيطة بها سواء في النواحي الأربع ومسلاتة، بل وفي معركة القرضابية نفسها ومعركة الهاني، حيث خاض الليبيون كفاحا مريرا ضد الاحتلال الذي سلب من الناس الأرض التي كانت مصدر الرزق الوحيد آنذاك.
يذكر أن ترهونة قسمت في العهد العثماني إلى أربعة أرباع، ويبدو أن هذا التقسيم كان إداريا وأمنيا لتسهيل السيطرة على موارد المنطقة وجباية ضرائبها ولشق الصف ومنع أي تمرد قد يخرج المنطقة عن سيطرتهم، وهذه الأرباع هي ربع أولاد امعرف، ربع أولاد مسلم، ربع الحواتم، وربع الدراهيب.
ولترهونة تاريخ طويل من التأثير الإسلامي ولعبت دوراً أساسياً في انتشار الإسلام في شمال أفريقيا. تضم المدينة عددًا كبيرًا من المواقع الإسلامية التي تعكس تراثها. وكانت مركزًا مهمًا للدراسات الإسلامية والتعلم خلال العصر الذهبي الإسلامي وأنتجت العديد من العلماء والمفكرين المشهورين.
كما أن تاريخها حافل بالبطولات ضد الاستعمار القديم، حيث قدمت المدينة آلاف الشهداء عبر التاريخ ضد أي مستعمر أجنبي، وهو ما يجعلها تقف الآن ضد أي مستعمر جديد.

آثار منسية

وتضم ترهونة عدداً من المعالم السياحية كما يوجد بها العديد من مواقع المستوطنات الرومانية التي لم يتم مسحها كما تتعرض العديد من المواقع الأثرية للعبث ولم تجر حفريات في أي من المواقع المكتشفة حيث اكتشف العلماء وجود عدد من القصور والفيلات الرومانية فيها.
واكتشفت فيها أرضيات موازييك ومصانع فخار وعدد من المقتنيات الأثرية، كما توجد بالمدينة أيضا معابد قديمة كمعبد آمون وتوجد آثار كنيسة قديمة ترجع للعهد البيزنطي، كما توجد كنيسة أخرى كاثوليكية ما زالت قائمة بالخضراء ترجع للعهد الإيطالي، وتوجد مقبرة للطائفة اليهودية التي نزلت بالمدينة بعد استيلاء الإسبان على الأندلس وعاشت بها حتى خمسينات القرن الماضي.
وتوجد في المدينة أيضا منحوتات جدارية على الصخور لحيوانات عاشت في ليبيا قديما ترجع لفترة ما قبل التاريخ، كما تم اكتشاف عدد من النقوش والكتابات وأعداد كبيرة من الكهوف والمنازل المنحوتة في الجبال كمساكن للإنسان الليبي القديم لفترات ترجع إلى ما قبل التاريخ.
وفي ترهونة آبار رومانية قديمة وهي فريدة من نوعها تعرف بالسانية منها سانية الرمادية بالمنيزلة- قرب دوغة وسانية عيسى على طريق الخضراء، وسانية أخرى شمال قرية ابيار مجي، وهي آبار أسطوانية الشكل بعمق يزيد على 30 م تقريبا وقطر يزيد على مترين وجوانبها مرصعة بأحجار كبيرة بيضاء لا يفصلها ملاط وتلحق بها سواق منحوتة من الحجارة الكبيرة.
وعندما احتل الطليان المنطقة صادروا أغلب الأراضي الخصبة التي استوطنها الرومان في مراحل تاريخية سابقة وقامت شركات حكومية إيطالية بضخ استثمارت في القطاع الزراعي وتحول معظم السكان من حياة البدو إلى الاستقرار وزراعة الأرض، فعرفت المنطقة بإنتاج زيت الزيتون، والفواكه والحبوب والإنتاج الحيواني. كما كانت جبال ترهونة مصدرا لإنتاج نبات الحلفا والتي كانت معدة للتصدير لإنتاج أجود أنواع الورق. ومنذ الخمسينيات لم يعد في ترهونة بدو رحل، إلا أنهم لم يتركوا حرفة الرعي وقد استعملوا الرعاة المستأجرين من دول الجوار الأفارقة، وقد استبدلت الإبل بسيارات النقل الخفيف وحديثا السيارات الطاوية، وقد رحل هؤلاء البدو إلى المناطق الزراعية القريبة من مدينة ترهونة التي كانت تسمى البويرات أو ترهونة السوق، كما لا يزال يسميها كبار السن.
ورغم المعالم الأثرية العديدة في ترهونة إلا أنه لا يوجد نشاط سياحي يذكر بالمدينة التي بقيت كنوزها مجهولة لدى المهتمين بسياحة الآثار والمواقع التاريخية. ويعود السبب إلى السياسة التي دأبت عليها الحكومات الليبية المتعاقبة والمتمثلة في الاعتماد على مداخيل النفط دون سواه وإهمال باقي القطاعات ومنها قطاع السياحة. فلم يتم تشييد الفنادق والمطاعم والأماكن الترفيهية والمتاحف وغيرها مما يحتاجه النشاط السياحي.
وتعتبر ترهونة وثيقة الصلة بطرابلس وبمدن الساحل غرباً عموماً وتاريخها يرتبط بتاريخ هذه المدن الليبية، بل إنها حظيت بشواهد أثرية في غاية الأهمية تعود إلى العصور ما قبل التاريخ ومنها النقوش الصخرية في أبيار مجي وكذلك النقوش على تل صخري قرب عين الشرشارة يطلق عليه سيدي غريب، وهذه النقوش تشدك بعظمتها وعراقتها وتأخذك الأسئلة والدهشة بعيداً أين هم؟ كهوفهم وأدواتهم وحيواناتهم، إلى أين مضوا؟

هيمنة قرطاجة

كانت ترهونة شهيرة كمنطقة استيطان واستغلال زراعة منذ العهد الفينيقي ـ البونيقي ـ القرطاجي ـ والعهد النوميدي -والروماني أيضاً، فقد وقعت هذه المنطقة تحت هيمنة قرطاجة وفرضت عليها الضرائب التي قدرها المؤرخون بربع المحصول ونصفه في فترات الحروب، كما أن مملكة نوميديا استولت عليها في عام 152 ق .م وشجع ملوكها أعمال الزراعة وتطويرها. وفي ترهونة اليوم الكثير من بقايا المزارع المحصنة ذات القصور ـ والمعاصر والسدود – والصهاريج التي تعود إلى العهود الرومانية، وهذا وذاك يدل على جودتها وخصوبتها ووفرة محاصيلها وثرائها وازدهارها ورفعتها قديماً وحديثاً.
وتعد الهندسة المعمارية في ترهونة مزيجا من الأساليب الإسلامية والبربرية، مع العديد من الهياكل الرائعة التي تعرض التراث الثقافي الغني للمدينة.
ويعتبر مسجد ترهونة الكبير أحد أهم المباني، ويقع في وسط المدينة. يتميز المسجد بقبة ومئذنة رائعة ومزينة بأشكال معقدة من الخط الإسلامي والأنماط الهندسية، تم تزيين المسجد من الداخل بالرخام الجميل ويضم مجموعة من المخطوطات الإسلامية القديمة.

ترهونة الحديثة

عرف في ترهونة الحديثة لقب الكانيات وهو اسم قبلي يعود لعائلة من ترهونة تحمل لقب الكاني، برز على سطح المشهد في المدينة عام 2012 إثر مقتل أحد أفرادها على يد مجموعة مسلحة، ما دفع إخوته وباقي أفراد العائلة إلى الانتقام من أسرة أخرى بالمدينة بالهجوم على بيوت أفرادها وقتلهم بصورة جماعية، بل وقتل أطفالهم ونسائهم أيضا، قبل أن يتحولوا إلى حلفاء للواء المتقاعد خليفة حفتر ومشاركين في جرائمه.
ومنذ نهاية العام 2012 برز اسم محسن الكاني وإخوته الخمسة، الذين استولوا، بمساعدة من أفراد قبيلتهم، على مقر أبرز كتائب معمر القذافي في المنطقة، والمعروفة باسم كتيبة الأوفياء، والتي كانت إلى ذلك الوقت تتوفر على عدد من الآليات الثقيلة والأسلحة الخفيفة والمتوسطة.
وشكل الكانيات رأس حربة هجوم حفتر على طرابلس، إذ كانت أولى الميليشيات التي استجابت لأوامره وهاجمت مناطق قصر بن غشير ووادي الربيع ومحيط مطار طرابلس القديم، واستمرت في السيطرة عليها حتى انهيار قوة حفتر، وانسحابها منها.
سيطرَ الكانيات على مدينة ترهونة تدريجيًا وصولًا لعام 2015 وحكموها بقوّة السلاح، مرتكبين فيها جرائم ما زالت تتكشف حتى اليوم؛ من المقابر الجماعية، والإخفاء القسري للعشرات، وقتل النساء والأطفال.
وتعد المقابر الإرث المروع لعهد الإرهاب الذي استمر قرابة 8 سنوات والذي فرضته على المدينة عائلة محلية هي عائلة الكاني والميليشيا التي شكلوها.
وبحلول ذلك الوقت، كان الإخوة الكاني قد أسسوا دولتهم الصغيرة في ترهونة وحولها حتى أنهم سيطروا على الشرطة النظامية، وأداروا إمبراطورية تجارية، وفرضوا الضرائب على مصنع الأسمنت في المنطقة والشركات المحلية الأخرى، وقاموا ببناء مركز تجاري وإدارة بعض المشاريع المشروعة بما في ذلك محلات غسيل الملابس وأمنوا الحماية لتجار المخدرات وللمهاجرين الذين مروا عبر أراضيهم في طريقهم من الصحراء إلى ساحل البحر المتوسط مقابل المال.
وقالت منظمة «هيومن رايتس ووتش» الحقوقية إن المجموعة المسلحة كانت خلال هذه السنوات «تخطف وتحتجز وتقتل وتخفي أشخاصا يعارضونها أو يشتبه بأنهم يفعلون ذلك». وأفادت شهادات عدة بأن الأمر وصل بهم إلى استخدام أسود لبث الذعر.
وتواجه ميليشيا الكانيات اتهامات بدفن مواطنين من ترهونة ومدن قريبة منها وهم على قيد الحياة.
ورغم مضي سنوات على خروجهم منها إلا أن مئات المواطنين ما زالوا في عداد المفقودين بينما ظل آخرون كجثث مجهولة الهوية، حيث أعلنت الهيئة العامة للبحث والتعرف على المفقودين أنه وبعد إجراء عملية المطابقة للنتائج باستخدام تقنية الحمض النووي، تم التعرف على 180 جثة منتشلة من المقابر الجماعية بترهونة حتى الآن فقط، بالإضافة إلى حالات متفرقة من قضايا أخرى.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية