أحدث أخبار المحكمة الجنائية الدولية أنّ مجلس وزراء الحكومة الانتقالية في السودان قرر تسليم المطلوبين في ملف دارفور إلى المحكمة، ولائحة هؤلاء تضمّ دكتاتور البلد السابق عمر البشير ووزير الدفاع الأسبق عبد الرحيم محمد حسين، ووزير الداخلية الأسبق أحمد هارون، وعبد الله بندة أحد قادة الجنجويد؛ وكان زميله علي كوشيب، المطلوب للمحكمة بدوره، قد بادر إلى تسليم نفسه، وهو قيد التوقيف في لاهاي، هولندا، حيث مقرّ الجنائية الدولية. وأن تكون هذه أحدث الأخبار أمر لا يعني أنها الأكثر جاذبية للساسة أو لوسائل الإعلام أو المعلّقين في كثير من بلدان العالم، وخاصة في الديمقراطيات الغربية التي كانت قوى استعمارية أو تظلّ ذات هيمنة تسلطية اقتصادية وسياسية وثقافية إمبريالية الطابع.
وأن ترحب وزارة الخارجية الأمريكية بالقرار السوداني أمر لا يمحو من الذاكرة حقيقة أنّ المحكمة، منذ تأسيسها بموجب ميثاق روما لعام 1998، ظلت رجيمة في ناظر مختلف الإدارات الأمريكية. حتى الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون، الذي صادق على انضمام الولايات المتحدة إلى الميثاق والمحكمة في سنة 2000، اشترط عدم عرض الميثاق على مجلس الشيوخ لإقراره، وبالتالي كان يسيراً على خَلَفه جورج بوش الابن أن يلغي تصديق سلفه كلنتون بعد أقلّ من عام أعقب وصوله إلى البيت الأبيض. هيلاري كلنتون، على رأس الدبلوماسية الأمريكية في رئاسة باراك أوباما الأولى، ابتدعت تخريجة عجيبة لتبرير تملّص الولايات المتحدة من الاعتراف بالمحكمة: طالما أنّ أمريكا هي البلد الوحيد الذي ينشر قواته العسكرية في طول العالم وعرضه، ولديه أكثر من 20 قاعدة عسكرية هنا وهناك في مشارق الأرض ومغاربها، فمن غير العدل أن يوضع جنوده في مصافّ مقاضاة واحدة مع أبناء الدول الأخرى. وبالطبع، ذهب الرئيس السابق دونالد ترامب إلى مدى أبعد حين فرض على المحكمة عقوبات شتى، وحظر على المدعية فاتو بنسودا دخول الولايات المتحدة.
ولم تتغير الحال كثيراً مع عودة الرئيس الجديد جو بايدن إلى المحكمة، وجرى إعادة إنتاج مواقف العداء القديمة ذاتها من خلال التعاطف الأقصى مع حملات دولة الاحتلال الإسرائيلي ضدّ الجنائية الدولية، والاستعانة بالتهمة العتيقة إياها: العداء للسامية. أكثر من هذا، لم يكتفِ بنيامين نتنياهو، رئيس حكومة الاحتلال السابق، بحكاية العداء للسامية؛ بل اتهم بنسودا وقضاتها بشنّ «هجوم شامل» على الديمقراطية الإسرائيلية وعلى «حقّ الشعب اليهودي في العيش داخل إسرائيل»؛ ولم يتردد في التشديد على أنّ ممارسة السيادة الإسرائيلية لا يتوجب أن يعيقها أي قانون دولي أو التزامات جنائية من أي نوع. وليس خافياً أنّ نتنياهو كان في هذا يتكئ على اعتبارات عديدة، تتجاوز ما تتمتع به دولة الاحتلال من حصانة ودلال لدى القوى الكبرى؛ وكان ضمنياً يستذكر حقيقة أولى كبرى هي الاستهانة الأمريكية بكلّ وأيّ ميثاق حول جرائم الحرب والإبادة وانتهاكات حقوق الإنسان، وحقيقة ثانية تشير إلى أنّ الجنائية الدولية لم «تتشاطر» حتى الساعة إلا على نفر من ساسة أفريقيا.
وأن تبقى بلا عقاب ولا حساب جرائمُ الجيوش الأمريكية والإسرائيلية والاستعمارية القديمة/ الحديثة، والجرائم المعاصرة في أفغانستان والعراق وفلسطين وسوريا، ويسرح مجرم حرب مثل بشار الأسد طليقاً يوغل كلّ يوم في دماء السوريين، ومثله الميليشيات المذهبية والجهادية على اختلاف ولاءاتها وعقائدها؛ وأن تظلّ الجنائية الدولية عاجزة عن تثبيت مبدأ الحدّ الأدنى ضدّ الإفلات من العقاب، لأسباب تتصل أوّلاً بتواطؤ القوى العظمى في مجلس الأمن الدولي على بعثرة المسؤولية وتبديد الحساب… كل هذه، وسواها، اعتبارات لا تلغي أهمية المحكمة من زاوية أنها إنجاز متقدم على طريق إحقاق الحقوق حتى في حدود دنيا، ولا تنتقص من أهمية دنوّ المحكمة من ساعة وضع البشير وأمثاله في قفص الاتهام والمحاكمة. بعد لأيٍ، وشدّ وجذب كما يتوجب التذكير، لأنّ المحكمة، في غمرة يأسها من استكمال ملف دارفور، قررت حفظ التحقيقات، وأحالت الملفّ إلى مجلس الأمن الدولي (كما فعلت سابقاً، مراراً في الواقع، لأنّ السودان، قبل كينيا وجيبوتي ومالي والكونغو وتشاد، لم تتعاون مع المحكمة في القبض على البشير).
أن تظلّ الجنائية الدولية عاجزة عن تثبيت مبدأ الحدّ الأدنى ضدّ الإفلات من العقاب، لأسباب تتصل أوّلاً بتواطؤ القوى العظمى في مجلس الأمن الدولي على بعثرة المسؤولية وتبديد الحساب، أمر لا يلغي أهمية المحكمة وأنها إنجاز متقدم على طريق إحقاق الحقوق حتى في حدود دنيا
ثمة، إلى هذا، اختبار ميداني واجهته المحكمة في صيف 2015 وكان معيارياً في نهاية المطاف؛ حين كانت دولة مثل جنوب أفريقيا، ذات ماضٍ كفاحي وحقوقي عريق ينتمي إلى إرث نلسون مانديلا ومناهضة نظام الأبارتيد العنصري الصريح، قد امتنعت عن تنفيذ أمر الجنائية الدولية وسمحت للبشير أن يزور البلاد ويشارك في قمة الاتحاد الأفريقي ويغادرها آمناً. ذلك الصدام لم يكن قضائياً، في أوّل المطاف مثل نهايته، بين حاكم انقلابي دكتاتوري مطلوب للمثول أمام قضاء أممي؛ وبين القاضي هانز فابريشيوس الذي أصدر مذكرة التحفظ على البشير، ويُعرف في جنوب أفريقيا بالشجاعة والرصانة والقرارات التاريخية. لقد كانت صداماً بين المؤسسة القضائية في البلد، التي طبّقت القانون واحترمت الدستور؛ وبين السلطة التنفيذية، ممثلة بالرئاسة أوّلاً، التي اعتبرت أنّ البشير رئيس قائم على رأس عمله، وهو ضيف البلد و»منظمة الوحدة الأفريقية» وهو لهذا يتمتع بحصانة لا يجوز المساس بها.
على مستوى آخر، أبدى بعض منظّري حزب «المؤتمر الوطني الأفريقي» غضبهم لأنّ هذه الحكمة لا تمارس سلطاتها إلا على القادة الأفارقة، وتتحامل على الدول الفقيرة وحدها، وهذا صحيح، بالطبع؛ وهي أداة من أدوات الإمبريالية المعاصرة، وفي هذا كثير من الخطل، حتى إذا كان جوهر الحجة سليماً من حيث مآلات عمل المحكمة، وليس من حيث تكوينها أو نظامها الداخلي. لافت، إلى هذا، أنّ الهجوم على المحكمة كان بمثابة طعن ضمني بنزاهة القضاء في جنوب أفريقيا أوّلاً؛ وكذلك ـ ولعله تفصيل لم يكن أقلّ خطورة ـ بمثابة تراجع عن خطّ أخلاقي في العلاقات الدولية، استنّه مانديلا وقامت ركيزته الكبرى على ضرورة ربط السياسة الخارجية بمعايير حقوق الإنسان.
وهذه سطور لا تحمل، البتة، أيّ مقدار من التعاطف مع البشير، وتسلّم استطراداً بأنه جدير بالمثول أمام المحكمة، وترى في القرار السوداني الأخير خطوة دبلوماسية وسياسية وقضائية صائبة تقرّب البلد أكثر من مجتمعات القانون والمحاسبة وطيّ صفحات الإفلات من العقاب. غير أنّ ما كان سيعطي الجنائية الدولية مصداقية أكبر، وأشدّ وضوحاً وعدلاً ومساواة، ويُسقط عن الممارسة بأسرها صفات النفاق والانتقائية والكيل بعشرات المكاييل المتباينة؛ لو حدث أن سُجّلت سابقة أولى ضدّ كبار مجرمي الحرب قبل صغارهم، في الأنظمة الديمقراطية والمتقدّمة قبل تلك الشمولية أو النامية أو الفقيرة من طراز أوغندا والكونغو وأفريقيا الوسطى والسودان. ثمة، في طليعة الأمثلة على عتاة مجرمي الحرب الكبار، الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن في غزو العراق وأفغانستان، ورئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير في الملفات ذاتها؛ ورؤساء حكومات الاحتلال من بنيامين نتنياهو وإيهود أولمرت وأرييل شارون، إلى إيهود باراك وإسحق شامير وإسحق رابين ومناحيم بيغن…
قد تبدو مطالبة كهذه أقرب إلى أضغاث أحلام، غير أنها من حيث المبدأ تظلّ معياراً واجب المناقشة في كلّ تقييم لأعمال الجنائية الدولية؛ فمساندة المحكمة خيار أخلاقي وسياسي وحقوقي، ومثله خيار وضعها على محكّ الكيل بمكاييل متماثلة، حتى إذا عزّ التنفيذ وماطل المنفذون وهيمن النفاق و»التشاطر» على الضعفاء وحدهم.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
شكرًا أخي صبحي حديدي. أتذكر أنه عندما حصلت الجرائم في دافور كنت على خلاف مع بعض المجموعات اليسارية هنا في ألمانيا وكالعادة كانوا يتفلسفون عن الإمبريالية الأمريكية ويبررون بذلك جرائم البشير وشبيحة الجنجويد ضد الشعب السوداني في دافور. يومها لم أكن أتصور أن نفس الخلاف بيننا سيحدث حول الثورة السورية وشبيحة بشار الأسد والإحتلال الإيراني والروسي. لم أكن أتوقع يومها أيضًا أن البشير سيواجه المحكمة الدولية يوماًما وخاصة بعد إستقباله في جنوب أفريقا. أما وقد جاء اليوم الذي يقف فيه الظالم أمام المحكمة الدولية، فكلنا أنل أن الأمر داته يينطبق على بشار الأسد يومًاما ولكل ظالم يوم. ماعدا دلك المقال رائع جدًا ياأخي صبحي حديدي.
يا عالم يا ناس انتم تركزون كل اللوم على ديكتاتور من مثل عمر البشير وجرائمه التي اجترمها بحق الأبرياء من الشعب السوداني ، وتغفلون عن حقيقة ان هكذا ديكتاتور ليس أكثر من مأجور لدى اسياده في الغرب ينفذ ما يأمرونه به لكي يبقى الشعب العربي خانعا للغرب بشكل غير مباشر عن طريق هكذا ديكتاتور – فاللوم إذن يجب أن يوضع على كل من المأجور والآجِر على حد سواء !!!؟؟
أخي الشاهد نتفق معك في هذا ونعرف أنهم مأجورون للغرب ولهذا نحن نريد محاكمتهم ليعرف كل المأجورين والذين يتأمرون على الوطن بحماية الغرب كبشار الأسد مثلًا ستكون نهايتهم وخيمة مهما حاولوا الإحتماء بهذه الدول والإحتلالات بشكل مباشر أو غير مباشر. لن ينفهم سيء وعليهم أن يكون قادة من أجل والوطن عندها سنحميهم كشعوب من هذه العواقب الوخيمة والتي يستحقونها. إذًا بدلًا من أن نلوم الغرب نريد أن يكونوا مخلصين للوطن والشعوب قبل كل شيء.
كما كتبتُ، قبل حوالي سنتين، تعقيبا على التقرير السياسي تحت العنوان، «مؤيدون للبشير يتظاهرون رفضا للأصوات المطالبة بتسليمه للجنائية الدولية» (١٦ تشرين الثاني/نوفمبر ٢٠١٩)،
مما لا شك فيه، أنا ضد كل شي يتعلق بالطاغية المخلوع عمر البشير كمثل كل الطغاة المستبدين في وطننا العربي المنتهَك من كل الجهات.. ولكني، في الآن ذاته، أرفض تسليمه بالعنو إلى ما يُسمَّى بـ«المحكمة الجنائية الدولية» ICC رفضا قاطعا، لأسباب ليس لها مساس إلا بتحقيق العدالة الحقيقية بالحذافير وليس غير ذلك.. أقول هذا بالتحديد والتشديد لأن هكذا «محكمةً» ليست سوى مؤسسة إمبريالية واستعمارية لا تركز إلا على الطغاة المدانين بجرائم حرب وإبادة من البلدان المستعمَرة (تحت ذريعة تحقيق «العدالة» الزائفة)، من جهة أولى.. غير أنها، من جهة أخرى، تتغاضى تغاضيا كليا عن نظائر مدانين بجرائم حرب وإبادة أفظع بكثير من البلدان المستعمِرة كمثل توني بلير وجورج بوش (الأب والابن) وأمثالهم من كافة الصهاينة كمناحيم بيغن وإسحق شامير وأرييل شارون وبنيامين نتنياهو، وغيرهم كثيرون.. !!
أختي أصال أبسال، ليست المسألة أم نعارض أو نوافق فنحن لانملك القرار ، وطبعًا معك حق ولاخلاف على هذا الرأي. لكن هم صعاليك هذا الزمان يستخدمههم الغرب لتحقيق مصالحة ويتركهم يقومون بجرائمهم وعندما تنتهي صلاحيتهم يستهدمهم كورقة يستر بها عورته. وكما كتبت للأخ الشاهد، هذا درس لهؤلاء المستبدين الذين يعتقدون أن حماية الغرب لهم ستنفعهم وبها يستطيعون إرتكاب الجرائم هو وهم، ولن تنفعهم ومن لايستند إلى السعب ومصلحة الوطن ستون نهايته وخيمة ولن تنفعة حماية الإحتلالات المباشرة أو غير المباشرة.
يشكر الأخ صبحي حديدي على مقاله ، لكنني أتفق كل الاتفاق مع الأخت آصال أبسال خاصة وأن في كلامها تذكيرا للعالم المغبون بأن المحكمة الجنائية الدولية ليست فقط لمجرمي العالم “الثالث” بل كذلك لمجرمي العالم “الأول” والعالم “الثاني” أو أي عالم آخر ،، وأيضا أتفق مع ما جاء في تعليق الأخ الشاهد من هذا الخصوص ،،