عمان – «القدس العربي»: صعب جداً تحديد أو ترسيم التقنية التي تؤدي إلى «تسمين وتغذية» الفريق الذي يطـلق على نفسه لـقب «المعارضـة الخـارجية».
منذ عقود، وطوال سنوات، لم يسمع الأردني إطلاقاً في تراثيات المعارضة والاعتراض والاحتجاج، عن أي معارض في الخارج لا على صعيد منظمات ولا حتى أفراد. اليوم، ثمة مجموعة من الأشخاص تنتحل هذه الصفة يومياً، وتمارس باسترخاء كل فعاليات «البث». وأغلب هؤلاء، بإقرار نخبة من كبار المسؤولين، أشخاص وأفراد غاضبون أو حانقون لسبب ما، أو تمكن بعضهم من الحصول على لجوء سياسي في مكان ما، وإن كان بعضهم الآخر يحمل الصفة «مرتبطاً سابقاً» بالأجهزة الرسمية.
في كل حال، ثمة ضجيج في الحالة الاجتماعية والمكوناتية الأردنية وغبار وفوضى يتم التوقيع عليها اليوم باسم المعارضة الخارجية. وهي حالة، بصرف النظر عن هوية أو خطاب عناصرها وأفرادها، يمكن القول وببساطة إنها ليست مسبوقة إطلاقاً؛ لأن أطر الاعتراض والمعارضة في الداخل كانت في الماضي متاحة للجميع.
يشغل ما يبثه معارضون في الخارج العديد من الشرائح الاجتماعية، وفي داخل الإطار النخبوي وغرف القرار العميق تتراكم الاجتهادات التي تتخيل بأن المعطيات والمعلومات وأحياناً الوثائق، التي تؤدي إلى تسمين تلك الخطابات بالخارج وبهدف تسمين المناخ في الداخل، تنتج عن عملية تسريب.
في الأفق نفسه اجتهادات في مسألة التسريب. لكن بسبب هوس الرأي العام المنصاتي وميل المواطن التلقائي والعشوائي لقضاء وقت طويل على وسائط التواصل، تتسلل روايات المعارضين بالخارج وقصصهم وحكاياتهم إلى مجتمع معروف أصلاً بأنه ينقل الأخبار بكثافة وكفاءة، وفي كثير من الأحيان بدون توزينها أو حتى تدقيقها، وبصرف النظر عن مصداقيتها.
أين ذهبت «الخلطة» القديمة؟.. غاضبون وكاظمون للغيظ في اتجاهات أفقية
سألت «القدس العربي» مباشرة مسؤولاً في المنظومة الأمنية عن التقييم الرسمي لظاهرة المعارضة في الخارج، فجاء الرد بأنها غير مهمة ولا تشغل دوائر القرار ولا تتمتع بأي مصداقية، وقدرات طاقمها على البث والفبركة والافتراء قد تكون مطلوبة أحياناً لإضعاف الرواية السلبية.
طبعاً، ذلك منطق بيروقراطي أمني لا مجال لمناقشته، لكنه يخلو من الأفق السياسي والمهني الإعلامي، خصوصاً وأن روايات ما يسمى بمعارضي الخارج تتسلل في كل الأقنية، لا بل تغري شخصيات عامة أو موظفين غاضبين بالتسريب والتغذية. بكل حال، يقدر سياسي بخبرة عميقة مثل الدكتور ممدوح العبادي، بأن منصات ووسائط التواصل الاجتماعي سلاح يفرز التحديات، وأصبح عبئاً فعلاً على أي رواية منقوصة للحكومة، والتحديات التي يفرضها انسياب الروايات والمعلومات تقنياً اليوم، سياسية ووطنية بامتياز، تعني بكل بساطة أن إدارة الشؤون العامة من قبل أي حكومة بتقنيات الماضي لم تعد خياراً منتجاً.
يوافق عن بعد، سياسي متحرك مثل الدكتور مروان المعشر على مثل هذا الاستنتاج وبدون ترتيب أو تنسيق، فيما يعتقد راصدون مهنيون بأن أسوأ ما في الخطاب الحكومي مرحلياً هو ضعف المبادرة، وفوراً إلى بناء الرواية صلبة ومتماسكة ومقنعة بدلاً من، أو ترد، على أي رواية سلبية. ويشغل موضوع الافتراءات والفبركات والسلبيات على المنصات جميع مؤسسات القرار في الدولة العميقة وتلك الأقل عمقاً.
عقدت اجتماعات مقنعة لمناقشة تحديات التواصل، ووضعت خطط وبرامج وتشريعات وقيود، وتم تفعيل قانون الجرائم الإلكترونية، لكن العبادي وآخرين يلاحظون بأن أصل المواجهات هو مع تفاعلات التقنيات. ولا فائدة من وضع قيود فقط، ولا فائدة من بقاء الارتجال الرسمي، وعلى الحكومة أن تتصرف. سمعت «القدس العربي» هذه العبارات من أحد مسؤولي الديوان الملكي تعليقاً على فوضى المنصات وتلك الروايات التي تلوكها ألسن المجتمع ويقترحها معارضون في المنفى لديهم أحياناً حسابات شخصية أو يبالغون في لعبة المناكفة والتسالي.
الأهم أن السنوات القليلة الماضية سجلت سابقة في المشهد السياسي الأردني، عنوانها وجود ما يسمى بالمعارضة الخارجية. لكن تلك السابقة ليست يتيمة، فبوصلة الأردن الدبلوماسية أيضاً حائرة بلا تحالف صلب أو حقيقي أو تمحور مفهوم وواضح، الأمر الذي يلاحظه الجميع. وبعد أزمة كورونا تتبدد نسبة كبيرة من إنجاز غير مسبوق حددته الدولة في بواكير المواجهة على أعتاب أزمة مع الشارع لها طابع اقتصادي أغلب الأحيان، ومناكف، ومرتبط بملفي الإصلاح والفساد أحياناً أخرى.
ويحفل الشارع الأردني بالحراكات بعد سنوات من احتوائها فعلاً وبكفاءة، عبر المواجهة الذكية لتداعيات مرحلة الربيع العربي. ثمة في الأفق حراكات عشائرية وأخرى جهوية وغيرها قطاعية ورابعة حزبية وخامسة نقابية.
عدد الأشخاص الغاضبين يزيد في زوايا المجتمع، ورئيس الوزراء الأسبق طاهر المصري حذر رئيس الوزراء عمر الرزاز من أجراءات وسياسات يمكن أن تغذي وتزيد في عدد الغاضبين، لأن عدد كاظمي الغضب ليس بسيطاً في الشرائح الاجتماعية والسياسية.
وبعيداً عن الحراكات، تشعر طبقة من رجال الدولة بالإقصاء وتعاني منه، ورجل وعجوز سياسي مخضرم من وزن الدكتور عبد السلام المجالي بدأ يتحدث لزواره عن ذلك. في الأثناء، سوابق تحصل لأول مرة، مثل إغلاق نقابة ضخمة، والاستمرار في الاشتباك لشيطنة التيار الإسلامي، ومغامرات حكومية وتنفيذية مراهقة في عدة أرجاء ومستفزة، وإغضاب لطبقات لم يسبق لها أن غضبت أو أغضبت، وحوارات غائبة، إضافة إلى اعتقال نساء في الشارع لأول مرة.
لم يعد سراً في الحالة الأردنية وفي ظل الحكومات المتعاقبة وإخفاقها في الالتزام بمضمون ونص الرؤيا المرجعية، أن المخاوف وسط الطبقة السياسية تزيد من تقليد السيناريو المصري في جزئية الحريات العامة أو غيرها، وقد انطلق جرس الإنذار الأول عندما جرح حراكيون غاضبون مشاعر جميع الأردنيين باستنساخ هتافات لا مبرر لاستنساخها، وسبق أن سمعت في المشهد السوري.
هذه تحولات تشغل بصمت جميع أركان المستوى السياسي والاجتماعي الأردني، ولا يتحدث عنها معنيون علناً؛ حرصاً وترفعاً، لكنها موجودة وتدفع الجميع نحو سؤال غريب: أين تلك الخلطة والتركيبة الأردنية الكلاسيكية القديمة التي تعود عليها الجميع؟