أفتح عَيْنًا وأُغْمِضُ عَيْنًا كطفل متكاسل لم يجاوز السنتين.. كطفل ينتظر مَنْ يُوقِظَهُ: يدٌ تشعره بأنّه مركزُ الكون، وشَفَةٌ تمدحه وتقول له أنت عمري وأنت قمري وأنت روحي.. ثمّ وهي تنهي حروفها تقبله عنيفا فيصوت ضجرا ككل صاحب فضل لا يريد أن يُلمَسَ إلاّ بالشّفاه الرائعة. أَظلّ أمثّل دور الطفولة الضّائِعَة بيني وبيني فأفشل ككلّ صباحٍ.. أفشلُ لا لأنّ الطفولة ولّت، بل لأنّي اكتشفت منذ قرابة السّتة العُقود، أنّي لم أعدْ مَرْكز الكون.. أنا لا أدري متى اكتشفتُ أنّي لم أعد في بؤبؤ عين الكون، لكنّ المؤكّد أنّه لا أنا ولا أنت ولا أيّ واحد ممّن يقرأ هذا ويعجبه، أو ممّن يقرأ هذا ولا يعجبه، أنّه في مركز الكون.
اللغة هي الوحيدة التي يمكن أن تجعلك تستردّ حلمك الضائع من أنّك المركز والبقيّة هامش. فيكفي أن تقول: «أنا الآن هنا» حتى يتكدّس الكون بين يديك.. هكذا قال اللّساني الفرنسي إيميل بانفينيست ذات مرّة، وهو يتحدّث عن تملّك المتكلّم للغة بهذه الأدوات اللغويّة التي تسمّى مُشِيراتٍ مقاميَّةً.
«أنا الآن هنا» جملة مفتاح في تملّك الناس للكون يقولها المتكلم البسيط، وهو لا يعي أنّ العالم بزمانه ومكانه وذواته صار ملكا له، وبات يتحدّد بالنسبة إليه. بأبسط الوسائل نتملّك الكون في الحين الذي تدور فيه معارك طاحنة من أجل ذلك: من أجل أن تقول أمّة أو زعيم أو شخص إنّي «أنا الآن هنا»!
الدّول العظمى تخوض حروبها للهيمنة، وتلكم الحروب لها لغة ووسائل تعبير وسيميائيّات: لها أقلامها التي تكتب بها، وهي أسلحة مع فارق أنّ سلاح المنهزم ينكسر ولا يكتب؛ ولها مِدادٌ هي الدماء مع فارق أنّ دماء المنكسر بلا لون، فلا تكتب شيئا؛ ولها أوراقها التي تكتب عليها، وهي «صفحات التاريخ». صحيح أنّ أيّ كتابة تسكت الصراخ والضجيج إلى الأبد لكنّ بعضها يظلّ يحمل صدى مكتوما هو كالأنين يسمع بين الأسطر.. يموت المنكسر وقد دفع ثمن الحجز ولم يبت في صفحات التاريخ ليلة. البشر وَقودُ الحروب يشعلها كبارهم ويحترقون بسعيرها.. لكنْ لصغار البشر أيضا حروبهم الصغيرة، التي تندلع هنا وهناك لأتفه الأسباب.. تتشابك الأيدي ويعلو الصياح ويكثر السِّباب لأتفه الأسباب.
الحروب الكبرى هي خطابٌ سيميولوجيّ انبثقت من حروب يوميّة صغرى هي المعارك اليوميّة. ولنفهم سيميائيّات المعارك الكبرى، يمكن أن ننظر في عيّناتها الصّغرى.. هي أقرب لنا فمعاركنا اليوميّة هي طرازات لمعاركنا الكونيّة. ليس من المعقّد ولا من الصعب أن تجد نفسك في معركة بالكلام، يمكن أن تتطوّر لتصبح معركة بالأيادي، وتنتهي إلى ما يحمد عقباه (بالصُّلح والقُبل)، أو إلى ما لا يحمد عقباه (الإيذاء.. وسوء الإيواء: السجن). أنا لن أتحدّث عن جغرافيا بعينها ولا عن ثقافة بذاتها ؛ غير أنّي سأنقل أمثلتي مضطرا من ثقافتي المحيطة.
الخطاب السيميائي الشّجاريّ هو خطاب جسديّ بامتياز تبدأ الخصومات في تجمّعات بشريّة وهي تجمّعات جسديّة تَتَحَاكُّ فيها الأجساد التي لا تريد أن تتقارب وعادة ما تكون أجسادا متماثلة ولكنّها متنافرة.
الأصواتُ هي الفواعل الأولى للخصومات، ولكن تُسندها الملامِحُ والهيئات والإيمَاءات والإشَارات، أي أنّ مصدر كل خصومة طرازية هو مصدر جَسَدِي ومنتهاها جسدي: رغم أنّ الدوافع ماورَجسديّة: روحيّة بأن تشعر الروح بأنّها خُدشت: لكنّ الخدش فعل استعاريّ يحيل على أنّ للروح أيضا جسدا: إنّها جسدنة لا تنتهي حتى بعد أن تنتهي خصومة الأجساد.
الخطاب السيميائي الشّجاريّ هو خطاب جسديّ بامتياز تبدأ الخصومات في تجمّعات بشريّة وهي تجمّعات جسديّة تَتَحَاكُّ فيها الأجساد التي لا تريد أن تتقارب وعادة ما تكون أجسادا متماثلة ولكنّها متنافرة. المثليّة الجسديّة منفّرة ونابذة لأغلب الناس (وطبعا هي جاذبة لقلّة منهم) والتغاير الجسديّ هو بالعكس من ذلك جالب، وليس نابذا إلاّ للأقلّيّة. لنأخذ سياقا طرازيّا لخصومات منطلقها نبذ التماثل الجسديّة في مشاهد التدافع اليومي، على وسائل النقل في البلدان التي ما يزال النقل اليومي معضلتها ومأساة سوادها الأعظم، لا يوجد له حلّ أو هكذا تقول الأسطورة. يحتشد الناس ويقلّ التواتر المعقول لوسائل النقل ويتدافع الناس على حافلة (باص) أو قطار، لأنّه لن يحملهم جميعا: هو صراعُ ما بعد الطبيعة يعيد الناس إلى طبيعتهم الوحشيّة الأولى.
تبدأ نوايا المعركة قبل حدوثها: كل شخص يقول بينه وبين نفسه عليّ أن أجد مكاني في الحافلة، وسيفكّر بينه وبين نفسه، أنّ هذا غير ممكن بلا تدافع وافتكاك سيفكّر في قدراته الطبيعيّة: قوّته ، بنيته الجسديّة، قدرته على تسديد اللكمات للعدوّ لكن سيفكّر في إمكانات العدوّ.. قبل أن يفكّر الجسد المتنافس في إمكاناته، سيضع في حسبانه فكرة العداوة. في هذه المعركة الطّرازيّة لا يوجد من مساعد إلاّ الجسد ومن معرقل إلاّ الجسد والعدوّ هو كلّ من ليس «أنا» سيقول القويّ: «أنا الآن هنا». «آنُ» أناهُ هي ذلك الوقت الحرج الذي لا يرحم، والذي سيؤخّره عن موعد العمل.. و»هُنا» أناهُ هذا المحتشد من الركاب الذين يفيضون عن أيّ حمل لحافلة واحدة.. تأتي الحافلة، ويا لسوء الحظّ لهذا التأنيث العاثر الذي فيها لأنّها ما تزال موضع تنافس بين الأجساد القويّة. يبدأ التدافع على بوابتيها أو بوابتها الوحيدة، يتنافس تتحاكّ الأجساد في المعابر الضيقة تحتك وتشتعل.. تتعالى الأصوات باختيار ألفاظ هدفها أن يسممّ مزاج الخصم، فيكون الكلام الفاحش والمحرّم، كلام معجمه وتراكيبه سلاحٌ فتّاك يسمّم قبل أن يقتل غيظا. توجد خراطيش من الكلام بقدر ما توجد قنابل، وكلّ محارب من المتحاربين على بوّابة الحافلة، يخبّئ في ذاكرته هذه القنابل الموقوتة إلى يوم التفجير. لكلّ مقام خراطيشه ومتفجّراته الكلاميّة؛ ويعرف كلّ منّا السلاح المناسب للخصم المناسب: يعرف تماما بالتجربة أنّ البعوضة لا تقتل بالرصاصة، ولكن يعرف أيضا أنّ وحشا ديناصوريّا لا يقتل أيضا بالرصاصة. في زمن المشادات القصير يشتغل ذهن المتخاصمين بالحفر في الوجه لمعرفة الأنفس، ثمّ بالجرف والهدم والإزالة والردم والإقبار عملا جنونيّا.
الأيدي تتشابك إنْ فكر أحد الطرفين أنّ رصاص الكلام لا يشفي الغليل، الأيادي تؤمر وكذلك الألسن وتدافع الأجساد عند باب الحافلة: يعرف المنتصر أنّه سينتصر ويعرف المنهزم أنّه سينهزم، لكنّ الأيادي هي مقدّمات متكافئة لحرب جسديّة غير متكافئة. الإيماءات والإشارات تفعل فعلها التحميسي والتحميشي، ويصبح الوجه حمّال دلالة يقدّم تقريرا حربيّا عاجلا عن آخر أطوار المعركة، إذ يقرأ كل شخص على وجه غريمه ما به يدفعه إلى التفكير في المرحلة المقبلة.
اُنظر إلى نفسي المتكاسلة التي تنتظر في يومها صراعا لا تتقنه، وأجد في تاريخي الشخصيّ همجيّة كثيرة فأقفز من الفراش لا ألوي على شيء، إلاّ أنْ أركب قطارا فارغا وحافلة لا حشد فيها، فأنا رجلٌ أضعفتني قراءة الكتب وأجبنتني عن أن أخاصم قبل أن يجبنني الزمان.
أصل باكرا وأهيم في المدينة وحدي مع القطط التي باتت في شوارع لم تنم روائح الأجساد فيها.. عمّا قليل تستيقظ متأخرة أجسادٌ تعيش حربها اليوميّة، من أجل الوصول بعد الوقت.. والخروج قبل الوقت. تُرى ماذا يمتطي الوقت من وسائل حتى يصل في ميعاده؟ ربّما كان هو من يقود القاطرة/الحافلة، فيسير على مهل متى أراد ويسير على عجل متى أراد؛ يمرّ بنا ويرحل عنّا ويترك أيادينا متشابكة وأصواتنا متعالية نصرخ من أجل الوصول قبله وهو قد غادر محطتنا من زمان!
٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
ثقافة الأنا شيء، وثقافة الآخر شيء ثان، وثقافة النحن كأسرة إنسانية، يا د توفيق قريرة، تعليقاً على ترويجك للمثلية الجنسية تحت عنوان (تشابكت الأيدي وعَلَت الأصوات) في مقال نشرته جريدة القدس العربي، والأهم هو لماذا؟!
الإسلام له علاقة بالوقت،
الإسلام والصلوات الخمس في مواعيدها، تعمل على التطبيق العملي لمفهوم الوقت، والإلتزام في ضرورة الإنجاز في وقت محدد،
لأهمية الوقت، وبدون الوقت لا يمكن قيام إقتصاد، يكون من خلاله المنافسة في أي سوق حر، لتوفير حاجة أي إنسان أو أسرة من خدمات ومنتجات يومية.
لاحظت مشكلة موظف النظام البيروقراطي، هو فلسفة فكره، لا يوجد فيها مفهوم الوقت أو الإنجاز، في وقت محدّد، فالمزاجية الانتقائية، مشكلة المشاكل مع دلوعة أمه، التي حاولت وصفه في مقالك،
والذي لم تستطع تمييز الفرق بين التدافع عن الصراع، ففي التدافع لن تقتل منافسك، ولكن في الصراع ستقتل منافسك حتى لو كان أخ لك مثل أولاد نبي الله (آدم) الذكور،
أول كلمة في لغة القرآن هي إقرأ، والقراءة التي تتعلق بنص، يجب أن يكون لها تأويل واحد في السياق الزمني والمكاني،
عكس قراءة أي صورة، خصوصاً عندما تكون خارج سياق فكر الرّاسم.
لأن على أرض الواقع،
فهم لغة أي صورة، بواسطة ابن الصحراء،
يختلف اختلاف كلّي عن طريقة فهم ابن الريف،
يختلف اختلاف كلّي عن طريقة فهم ابن أي مدينة،
والسبب أن أدوات الفهم تختلف، تؤدي إلى فهم مختلف،
وهنا إشكالية من لم يفهم حكمة، لا تسأل عالم من نجد عن حكم الربا، ولا تسأل عالم من اليمن عن حكم القات،
مثل ابن باز أو الشنقيطي استاذه، عندما قبل تبرير تغشيشه للطلبة في امتحانات الجامعة الإسلامية، ولم يعاقبه على ذلك.
فالإشكالية هي طريقة فهم الشنقيطي لنص الحديث النبوي، وكيف قام بتأويله، ولا حول ولا قوة إلا بالله،
وكيف فهم ابن باز نص الحديث بعده، وكيف قام بتأويله، لعدم إصدار عقوبة بحق الشنقيطي، ولا حول ولا قوة إلا بالله،
فهل أي إنسان له مثل هذا الاستيعاب،
يحق أن يكون له أي مكان في إدارة أو حوكمة، أي مؤسسة لها علاقة بالتعليم أو التدريب أو التأهيل أو القانون أو الفتوى، بخصوص الإنسان أو الأسرة أو الشركة في أجواء سوق العولمة والإقتصاد الرقمي/الإليكتروني بعد عام 2019؟!??
??????
محاولة صحفية جريئة وغير مباشرة في الاعتراف بالمثلية بعد سقوط الشعر من جلد الذات المعمدة باللسان الملتوي أو عميرة ؛ نقلات (حضارية ) غير مألوفة وسط غابة من أشباه معادلات من مثل (1+1 =1) أو (2+2=13) ؛ والحساب الدقيق على الشاطر اللي نيته مو عاطلة !!!!!!!!
الله يكون بعون هدول القراء العرب المساكين من هيدي (الكتابات) التي يبدو فيها كاتبها أنه كأبي الجعل الذي دخل إلى عش زنابير في عز الظهيرة وهو يعتقد أنه دخل إلى عشه ولم يعد يعرف كيف يخرج منه سوى بمخارج لسان منتحلة من هناك وهناك وموضوعة في غير محالها كيفما اتفق!!!؟؟؟
شكرا جزيلا أستاذ…نص متميز