تشومسكي والوباء: كورونا وديكتاتورية السوق!

حجم الخط
2

تعددت قراءات المفكرين حول وباء كورونا المستجد، منذ ظهوره في مدينة ووهان الصينية في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، ثمّ تفشيه في ما بعد في أغلب دول العالم، لكنها، في الغالب على ما يبدو، تتفق على أنه حتى لو كان طبيعياً، أي أن الإنسان لم يتدخل في تعديل جيناته، فإن النظام الرأسمالي المتوحش يتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية في ظهوره، أو على الأقل، في تفادي أخطاره، فهو لم يتخذ التدابير الكافية للوقاية منه، ولم يمنع مسببات ظهوره، لأن هذا النظام، في الحقيقة، اختزل وظيفته في مراكمة الأرباح وتضخيم الثروة، بدون أن يأبه بحياة الإنسان وصحته، ولا بالطبيعة وقوانينها، من هؤلاء المفكرين، الفيلسوف وعالم اللسانيات نعوم تشومسكي (1928)، الذي طالما كانت رؤيته حول الأحداث الكبرى، تتسم بالموضوعية، وتتحرى الدقة، فضلا عن أنّه لا يحابي أحداً في قراءاته، لأنّ هدفه في الأخير، كشف الحقيقة، وبالتالي خدمة الإنسانية.
في قراءته المتميزة لما جرى، وصف تشومسكي الحدث بالمرعب والخطير، معتبراً تخلي الإدارة الأمريكية عن مسؤولياتها في إنقاذ الناس، والتقليل من معاناتهم، بالخيانة والجريمة، لأنها إدارة، باختصار شديد، تسعى إلى إرضاء قلة من رجال المال والأعمال، بدون أن يخفي توجسه من أن تتخذ حالة الاستثناء كذريعة للتضحية بالديمقراطية، والحد من حريات الناس بعد الوباء، مشيرًا إلى أن أزمة كورونا ما هي إلا أزمة عابرة؛ فالتعافي منها مسألة وقت فقط، كما يخبرنا تاريخ الأوبئة، لكن هناك أزمات أخطر، وأي تأخير في معالجتها، فإنها ستقود البشرية إلى الكارثة.

وباء ديكتاتورية السوق

كعادته، يستبعد تشومسكي تفسير المؤامرة في ظهور الوباء جملة وتفصيلا من قراءته، واصفاً هذا الفيروس بأنه «خطير بما فيه الكفاية»، لافتاً النظر في الوقت ذاته، إلى أنّ وباء كورونا كان متوقعاً ظهوره منذ وقت طويل، لاسيما بعد ظهور وباء سارس عام 2003، الذي كان بمثابة جرس إنذار لأمريكا والعالم، من أجل الاستعداد لمثل هذا الوضع المستجد، إلا أن الاستجابة السريعة من طرف الإدارة الأمريكية استعداداً لمواجهة تفشي الوباء كانت مفتقدة. ويُرجع عدم الاستجابة إلى العديد من الأسباب لعل أبرزها: أخلاقيات السوق، التي لا تؤمن إلا بتعظيم الأرباح، فإشارات السوق، بحسب تشومسكي، كانت تعتقد بأنه لا يوجد ربح من وراء هذا الأمر، في هذا الصدد يقول: «إشارات السوق كانت خاطئة، سلمنا مصائرنا لشركات الأدوية، وهي ديكتاتوريات اسمها المؤسسات الخاصة، التي لا تخضع للمساءلة»، وبما أن هذه الشركات لا تلتفت إلى صحة الإنسان، ولا تقيم لها وزناً، همها الأول والأخير هو تضخيم الربح فقط؛ فمن الطبيعي أن ترى الأولوية في « صناعة كريمات جديدة للجسم»، على إيجاد لقاح لإنقاذ البشر من الانقراض، لأنها، ببساطة، تجدها أكثر ربحاً.
وهذه هي النتيجة الحتمية للأيديولوجية النيوليبرالية «الطاعون الجديد»، الساعية إلى إبعاد الحكومة، وتمجيد قوانين السوق الصارمة، لأنها تتصور أنّ «الحكومة هي المشكلة»، والحل يكمن في إبعادها، أو بالأحرى التخلص منها، ومن ثمّ، «تسليم القرارات إلى ديكتاتورية خاصة لا تخضع للمساءلة»، كما كان يرافع بذلك رونالد ريغان ومارغريت ثاتشر في ثمانينيات القرن الماضي.

السير نحو الهاوية

انتقد تشومسكي بحدّة الأداء الكارثي للإدارة الأمريكية مع جائحة كورونا، أداء أظهر مدى عجز أمريكا، ومدى هشاشة نظامها الصحي، وهي القوة الأولى في العالم، التي من المفروض أن تساعد الآخرين، وتمد لهم يد العون، لا أن تخنقهم وتضيق عليهم بمزيد من العقوبات، هذا العجز ليس مقصوراً في التّحكم في الجائحة وحسب، إنما تعدى ذلك إلى رعاية المرضى والمصابين، في أمور بسيطة مثل إجراء التّحاليل الطبية، وتوفير ما يكفي من الأسِرّة في المستشفيات، هذا معناه «أنّ النّظام الصّحي ينهارُ»، بسبب «عدم وجود إدارة متماسكة»، ومهتمة بالناس، ونتاج السياسة اللامبالية لترامب، فهو «لا يكترث إلا بسلطته والاستحقاقات الانتخابية»، وآخر ما يفكر فيه هو المخاطر التي تعصف بالبشرية، كالتلوث البيئي، والاحتباس الحراري، والأوبئة الفتاكة، كما أن وجود مثل هذا الشخص على رأس أكبر دولة في العالم هو، في حد ذاته، أكبر تهديد للعالم، فـ«منذ انتخاب ترامب، يمكن رؤية ثلاثة أشياء: تهديد الحرب النووية، وتهديد الاحتباس الحراري، وتدهور الديمقراطية».

انتقد تشومسكي بحدّة الأداء الكارثي للإدارة الأمريكية مع جائحة كورونا، أداء أظهر مدى عجز أمريكا، ومدى هشاشة نظامها الصحي، وهي القوة الأولى في العالم، التي من المفروض أن تساعد الآخرين، وتمد لهم يد العون، لا أن تخنقهم وتضيق عليهم بمزيد من العقوبات.

وعليه، فإن النتيجة المأساوية التي تنتظر الأمريكيين في الأيام المقبلة، بحسب تشومسكي، هي فقدان السيطرة على الوباء، وأن أمريكا، بجبروتها وغطرستها، تقف عاجزة في مواجهة مثل هذه الكوارث، إذ يقول: «يبدو أن الوباء خرج عن سيطرتنا، وأننا لسنا مستعدين لمواجهته»، فالرئيس قام بتفكيك آلية الوقاية من الأوبئة بشكل كامل، «من خلال إلغاء تمويل وتجريد كل جزء ذي صلة بالحكومة، وتنفيذ تعليمات أسياد شركته بجدية، لإلغاء القوانين التي تعيق الأرباح أثناء إنقاذ الأرواح»، وهذا ديدن زعماء أمريكا منذ أربعين سنة، فالأمر الذي أحسنوا القيام به هو: «تكديس الأموال في خزائن الأثرياء وقادة رجال الأعمال»، وترامب ليس استثناء من هذه القاعدة، باعتباره نتاجاً لهذه البيئة الاجتماعية المريضة، فكانت النّتيجة النّهائية هي الكارثة والسير إلى الهاوية.
على أي حال، ما حدث قد حدث، واليوم ينبغي النظر إلى المستقبل، لأنه سيكون هناك، بلا شك، تعاف من الوباء، لكن ما بعده سيكون أخطر على البشرية من الوضع الراهن، ليس من الناحية السياسية والاقتصادية وحسب، بل حتى الاجتماعية، وقد يكون هذا الوباء «علامةَ تحذير ودرساً للبشرية» لما هو آت، لذا يجب معالجة الأخطاء والتصدي للمخاطر، قبل فوات الأوان، بالبحث «في الجذور التي قد تؤدي إلى الأزمات، التي ربما تكون أسوأ مما نواجهه اليوم».
صحيح أن الأمر صعب، بالنظر إلى عيوب العالم العميقة، واختلال نظامه الاقتصادي والاجتماعي، يصف تشومسكي هذا الواقع بالقول: فـ»العالم معيب، وليس قوياً بما فيه الكفاية للتخلص من الخصائص العميقة المختلة في النظام الاقتصادي والاجتماعي العالمي كله»، لكن مع ذلك يجب العمل على تغييره، و»استبداله بنظام عالمي إنساني، كي يكون هناك مستقبل للبشرية قابل للبقاء».

تدهور الديمقراطية

لا يستبعد تشومسكي من أن تؤدي حالة الطوارئ التي سنها العديد من الحكومات، كإجراءٍ للوقاية والحماية من هذا الفيروس، من قبيل إغلاق الحدود، وحظر التجوال، واستخدام الجيش في تطبيق العزل العام في بعض الدول، إلى تدهور في الديمقراطية، والنزوع، من ثمّ، إلى أنظمة أكثر شموليةً واستبداداً، ما يجعل الديمقراطية في خطر، معرباً، في الوقت ذاته، عن تخوفه من أن تُستغل صدمة الفيروس، من أجل زيادة تحكم «القلة القليلة، أسياد النيوليبرالية»، من خلال دول قوية، عنيفة واستبدادية. أما في ما يخص إذا ما دخل العالم إلى عصر المراقبة الرقمية، لاسيما بعد استعانة العديد من الدول بالتكنولوجيا، لمراقبة السكان من أجل مكافحة الفيروس، فيرى أن التكنولوجيا أضحت جزءاً من حياتنا، في المنزل أو في مكان العمل، وكل شيء بات اليوم مربوطاً بعالم الإنترنت، غير أنّ المشكلة لا تطرح من هذه الزاوية، بل من ناحية أن المعلومات التي تذهب إلى «غوغل وفيسبوك والحكومة»، التي يتم توظيفها في ما بعد في مراقبة الناس، ورصد تحركاتهم، وهذا الواقع، في اعتقاد تشومسكي، نعيشه الآن، ولا ننتظر المستقبل لكي نكتشفه.
من هنا، يدعو إلى ضرورة الحذر من سطوة شركات التكنولوجيا، التي تسعى جاهدة للسيطرة على حياة الناس، من خلال بياناتهم (المعلومات)، في انتهاك صارخ للخصوصية، ما يجعل «الأمر مشابهاً لما هو قائم في الصين»، النموذج الذي يُمتدح كثيراً هذه الأيام، كونه استطاع أن يحقق ما عجز عنه الآخرون، حيث توجد أنظمة رقابة رقمية متطورة، تراقب الناس في أي مكان، معرضةً من يرتكب أي خطأ للمساءلة والعقوبة. على صعيد آخر، يرفض تشومسكي تلك الأطروحة التي تربط فعالية أداء الحكومات في التصدي للفيروس بالاستبداد، في حين تربط الفشل بالديمقراطية، رابطاً النجاح أو العجز بمدى فعالية المجتمع، أو عطالته، إذ يقول:»يبدو أنّ الخاصية المميزة في التعامل مع هذا الوباء لا تطرح بصيغة، ما إذا كان المجتمع ديمقراطياً أم استبدادياً»، على أن التمييز يكون في ما إذا «كان المجتمع فاعلا أم معطلا»، مؤكداً على أنّ الديمقراطية، في الواقع، هي السبيل الوحيد للتغلب على هذه الأزمة، أو غيرها، شريطة أن يمتلك الجمهور مصيره بيده.

يكفي ألا نفقد الأمل

على الرّغم من المخاطر العالمية، وعلى الرّغم من الخطاب التشاؤمي الطاغي في العالم، غير أن تشومسكي ما زال يؤمن بالناس وقدراتهم، حيث يدعوهم إلى ضرورة التفاؤل، والتمسك بالأمل، وإلى التسلح بالإيمان والإرادة، وذلك بالعمل على إيجاد الطريق الصحيح، والبحث عن وسائل جديدة، لترميم الأخطاء وإصلاح الأضرار، لـ«يبنوا عالماً جديداً قابلا للعيش فيه»، حيث يرى بأنّ ذلك ليس مستحيلا: «يكفي ألا نفقد الأمل» .

٭ كاتب جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Jamal:

    وباء كورونا العالمي 2020 والأزمة المالية والاقتصادية العالمية 2008 هي مجرد أمثلة ناصعة على أهمية التنسيق الاجتماعي وتخلي الأفراد طواعية عن جزء من حرياتهم في مقابل تحقيق الخير المشترك للمجتمع ككل. أخلاق السوق والأسرة والوزارة والمجتمع أمر ليس ترفي بل هو أساس النظام الاجتماعي العام في الأجل الطويل، ومن السخف التقليل من أهمية “الآداب والثقافة العامة” مقابل أحلام وحريات المراهقين والمراهقات.

  2. يقول هاله:

    طرح رائع وبالفعل التكنولوجيا اليوم تشكل تهديدا على حياتنا كونها تطغى على كل جوانب حياتنا .. بل ويمكن القول انها اصبحت تتحكم في حياتنا بطريق غير مباشر!

إشترك في قائمتنا البريدية