في مايو 2012 كنت في مهرجان سولوتورن الأدبي في سويسرا، في واحد من اللقاءت الأدبية التي أشارك فيها نادرًا، وغالبًا لأهداف دنيوية محضة، كالرغبة في معرفة مكان جديد لم أكن لأبلغه إلا في مناسبة كتلك، أو تذوق طبق طعام مختلف أو شمة هواء أو تأمل درجة من الأخضر لم أرها من قبل.
ذهبت من قطر حيث أقيم، فتقابلت مع كاتب سوري ـ لا أسميه هنا لأنني لم أستأذنه ـ جاء من مصر، قال لي إنه اطلع على بعض ما أكتب في ‘القدس العربي’ و ‘المصري اليوم’ وإنه يأخذ علينا نحن المصريين أننا مشغولون بالعسكر، على الرغم من أن الإخوان هم الأخطر.
قلت له إن العسكر هم الذين أتوا بالإخوان عبر فبركات معيبة في المرحلة الانتقالية؛ فهم من أصروا على تقديم الانتخابات على الدستور وهم من سمحوا بالأحزاب الدينية في مخالفة فظة للمستقر في أصول الديمقراطية والدستور المصري الذي جمدته الثورة والإعلان الدستوري الذي أصدروه بأنفسهم، وهم مع الإخوان رأي واحد ضد الثوار، وهم معًا يعرفون أسطورة ‘الطرف الثالث’ الذي يمتلك قناصة يتخيرون الناشطين المهمين وسط التجمعات برصاص يصوبونه على القلوب والعيون. ومن وجهة نظرنا أن الجيش هو الأقوى ولهذا نرى أننا يجب أن نتحرر من حكم الجيش أولاً أما الإخوان فحركة المجتمع كفيلة بهم، إما تحملهم على إيمان حقيقي بالتعدد أو تلفظهم.
بعد هذا الحوار بشهر تذوقنا حلاوة حكم الإخوان حتى يوم إزاحة مرسي، والآن ليس لدي من رذيلة الاستكبار ما يكفي للاطمئنان إلى صوابي، وليس عندي من فضيلة التواضع ما يكفي للاعتراف بصواب الزميل السوري. أذكر فقط لجوءنا نحن الاثنين إلى المبالغة ومحاولة فرض ما نعتقد على أنه حقيقة؛ أقول ‘نحن نرى’ على اعتبار أنني أمثل آخرين قد يكونون الشعب كله وقد يكونون قطاع الناشطين الثوريين والكتاب المحسوبين على الثورة. وهو ، من جانبه لم يُقصر، استخدم الـ ‘نحن’ بدون وجه حق فيما أعتقد؛ فلا يمكن للظرف السوري أن ينتج ذلك الاطمئنان إلى الجيش الذي تحدث به الزميل.
الآن من حقه أن يقول لي: أرأيت ما فعل الإخوان بمصر ولم يحمكم سوى الجيش؟ ومن حقي أن أقول له ولكن الجيش عاد، وقد يحكم أو يعيد بنية نظام مبارك، لا شئ إلا لأثبت صواب عدائي لتدخل الجيش في السياسة، وقد أبــالغ في اختيالي فأقول له: وهل رأيت الرفض الشعبي للإخوان؟ ألم أقل لك إن المجتمع كفيل بهم؟!
‘ ‘ ‘
ما حدث كان لابد أن يحدث (يحدث مثله في تونس الآن) وبعيدًا عن أي مدح أو ذم أو إعادة وزيادة فيما ارتكبه الإخوان في الحكم، ما يعنينا الآن هي وقائع الإزاحة. العالم رأى الملايين تخرج ضد الرئيس الإخواني، ولأنه لم يبد تجاوبًا كما تقتضي أصول الحكم الرشيد، تدخل الجيش فصار تدخله مساندة لثورة في خطاب المستفيدين من الخطوة ومناصريهم، وصار انقلابًا في عرف المضارين ومناصريهم، وانقسمت آراء المتابعين المطمئنين لأفكارهم، فهو في عرف البعض ثورة أنقذت بلدًا محوريًا كان يتجه إلى حكم ‘اللادولة’ وفي عرف البعض ما حدث كان انقلابًا لأن الجيش كان عليه أن ينتظر لتكتمل الصورة الناصعة لثورة شعبية، دون النظر إلى التكلفة البشرية لصناعة تلك الصورة المبتغاة.
وصف ما حدث لا أهمية له، لأنه ليس سوى اقتيات بائس على التاريخ، لكن المهم والخطير حقًا هو أن كلا الطرفين يضع تصورًا للمستقبل بناء على وصفه المنقوص لما حدث، وكلا التصورين على خطأ لأن المستقبل تصنعه حركة الفاعلين على الأرض، فما تنتظره مصر ليس طريق الديمقراطية المفروش بالحرير ولا طريق الاستبداد المفروش بالشوك.
‘ ‘ ‘
كل من يحاول وصف النمر سوف سيخفق؛ إما لأنه أعمى يصف الموضع الذي لمسه، أو لأنه لم ير وسمع بالنمر فوصف نمرًا من ذاكرته أو لأنه رأى النمر وعمــــد إلى الإدلاء بأوصاف خروف.
والتاريخ لا يعبأ بكل هذا؛ فقد وصل إلى هذا الموضع، وسيمضي في وجهة تحددها خمس قوى بالمجتمع المصري، أربع منها فاعلة: الإسلام السياسي، الثوار، الجيش، و طبقة الرأسمالية. والقوة الخامسه هي الصفر الكبير لأكثر من نصف عدد السكان الذي يستطيع كل من الأربعة الفاعلين أن يتحدث باسمه ويتوهم أن الأغلبية في جيبه، والصفر قام بهذا الدور في صندوق الانتخابات فأعطى الإخوان حجمًا متعاظمًا ثم ارتد صفرًا بعد التصويت فتعروا من الشعبية اللحظية التي حصلوا عليها. هـــذه هي حسابات المعضلة المصرية على افتراض تنحيــــة العوامل الخارجية، ليس لأن الخارج غير موجود، بل لأنه لا يعمل إلا عبر حلفائه في الداخل.
الإخوان لديهم ثمانون عامًا من التنظيم السري الناجح وعامًا واحدًا من الحكم الفاشل، يبحثون هم وفصائل الإسلام السياسي عن سلطة فوق زمنية وشرعية لا تبلى، تستمد دوامها من دوام الله. والثوار اليساريون والليبراليون لديهم مائتي عام من التنوير وسبع سنوات من النضال الصريح توجته لحظة 25 يناير ، ولديهم تطلعهم المطلق إلى الحرية الذي لم يتحقق ولذلك كانوا ضد حكم العسكر ثم ضد الإخوان ولم يغير اصطفاف 30 يونيو موقفهم من الطرفين.رجال الأعمال لديهم الطبقة الملتحقة بهم من كبار موظفيهم ويبحثون عن استقرار أموالهم من خلال إعادة شرعية ‘وضع اليد’ لنظام مبارك الذي اصطنعهم اصطناعًا، والجيش لديه السلاح ولديه تاريخه الاحترافي الطويل، انحيازاته ليست رهينة للقادة وانتماءاتهم فحسب، وهم أنفسهم يعرفون أن توازنهم على ظهر الوحش محكوم بقبول قاعدة عريضة من الضباط الشباب انتماؤهم لعائلاتهم وأصولهم الطبقية أقوى وأحدث عهدًا من علاقات القادة بأصولهم. وتجارب الجيش متفاوتة’ فهو الذي قام بانقلاب في 23 يوليو زبلغ به الجماهير في الصباح لكنه بعد شهر واحد أعطى من العدالة الاجتماعية ما تعطيه الثورات عادة فصار ثورة، وهو الذي حمى مبارك ثلاثين عامًا وهو الذي أوصل الإخوان للحكم، وأخيرًا هو الذي رجح كفة الاحتجاجات الشعبية قاطعًا الطريق على فوضى لا تحتملها مصر.
هذه هي عناصر التجربة التي تتفاعل في المعمل المصري وما يحدد النتائج الكيميائية هي مقادير العناصر وبيئة التفاعل، ودرجة التداخل بين عنصر وعنصر. وكل من يصف المستقبل بناء على حذف أحد عناصر المعادلة لصالح عنصر آخر أو يغفل التداخل بين العناصر سيكون ما يصفه أي شئ غير نمر المستقبل الذي يتحرك.
احسنت