بغداد-“القدس العربي”: يتفاعل داخل المشهد العراقي حراك بطيء ولكنه متصاعد بقوة، لمؤشرات رفض الواقع المزري الذي يخيم على البلاد، وتصاعد الدعوات المطالبة بالتغيير، بالتزامن مع ردود أفعال وإجراءات مشددة لقمع وإسكات كل من يتصدى لمظاهر الفساد ويكشف فشل المشروع السياسي برمته.
وفي السنوات الأخيرة، ونتيجة التدهور الحاصل في الخدمات والمستوى المعيشي وتفشي الفساد ونهب المال العام والإدارة الفاشلة، على يد طبقة سياسية هم أغلبها استغلال السلطة، وبعد يأس المواطن من امكانية تحقيق الإصلاح المنشود، فقد تنوعت مظاهر رفض استمرار تردي الأوضاع في العراق، أبرزها التظاهرات المليونية والاعتصامات المطالبة بالإصلاحات التي انطلقت في العاصمة بغداد وبقية المحافظات منذ سنوات، والعزوف الشعبي الواسع عن المشاركة في الانتخابات الأخيرة، إضافة إلى انتقادات المرجعيات الدينية والاجتماعية لأداء القوى السياسية.
إلا أنه في الآونة الأخيرة، برزت ظاهرة بهذا الصدد تستحق الوقوف عندها، وهي العديد من المواقف والتصريحات التي ظهرت عبر وسائل الإعلام والتي تنتقد الواقع المتدهور، من سياسيين وشخصيات عامة مشاركين في العملية السياسية منذ 2003 مما يؤشر بوضوح إلى تنامي رفض التدهور والسعي للتغيير الحقيقي رغم كل محاولات إسكات الأصوات المنتقدة.
فقد أثار قرار (المجلس الأعلى لمكافحة الفساد) بـ”منح المواطنين مهلة أسبوعين لتقديم الأدلة ضد المسؤولين المتهمين بالفساد وبعدها يتم اتخاذ الإجراءات القانونية بحق مطلقي الاتهامات في الإعلام” ردود أفعال واسعة في المجتمع ضد القرار الذي اعتبر محاولة لتكميم الأفواه وإسكات الأصوات التي تكشف الفساد الحكومي. ومن ذلك قول النائب السابق، مشعان الجبوري، عبر شبكة التواصل الاجتماعي إن “مجلس مكافحة الفساد يتوعد مطلقي الاتهامات في الإعلام بالعقاب ان لم يقدموا له ما في حوزتهم من أدلة خلال أسبوعين، وهذا الإعلان يحول مهمة المجلس من مكافحة الفساد إلى منع الحديث عنه!” مشددا على أن “هذا التهديد لا يخيفنا ولن نسكت عن فضحهم ولن نقدم له أدلتنا قبل وضع كبار الفاسدين في السجن”.
“الفاشلون الفاسدون”
وفي هذه الأثناء، يتابع العراقيون، حملة شعواء ضد النائبة عن الحزب الشيوعي هيفاء الأمين، الشيعية المنحدرة من جنوب العراق، التي ملكت الشجاعة لانتقاد أوضاع أهلها في الجنوب وتحميل الحكومات المتعاقبة مسؤولية إهمال هذا الجزء المهم من الوطن.
ورغم الحملة المسعورة التي جوبهت بها تصريحاتها من جانب السياسيين المستفيدين من تردي الأوضاع، واتهامها بالإساءة إلى أهل الجنوب، إلا أنها أصرت على دقة وصفها المنطقة بالمتخلفة وفقا للدراسات والحقائق على الأرض، واصفة منتقديها بـ”الفاشلين الفاسدين” بل عادت وهاجمت مديرات المدارس ووصفتهن بـ”الملايات الحزبيات” اللواتي حولن المدارس إلى حسينيات لممارسة اللطم. وهو اتهام لم يجرؤ أحد قبلها على التطرق له، مع أنه واقع معروف حاليا حيث تسيطر أحزاب الإسلام السياسي على أغلب إدارات المدارس من خلال تكليف أعضاءها الحزبيين بإدارتها وتنفيذ برامجها الخاصة على الطلبة. وترى هيفاء الأمين أن هذا الأمر ينعكس سلبا على الطلبة ويرسخ لديهم عقلية الطائفية وليس القيم الوطنية.
ومن جانب آخر، لم يكن قرار استبعاد النائب المثير للجدل فائق الشيخ علي عن رئاسة اللجنة القانونية البرلمانية، حدثا عاديا للمتابعين. إذ أن العارفين بأوضاع المعارضة العراقية قبل 2003 يعلمون أن الشيخ علي كان له دور مؤثر في تأجيج الرأي العام ضد النظام السابق من خلال إبراز سلبياته ومساوئه عبر مئات اللقاءات الصحافية في القنوات الفضائية ووسائل الإعلام والتي كانت لها أهمية كبيرة في تهيئة الرأي العام لقبول احتلال العراق وإسقاط النظام فيه. إلا أن ذلك التاريخ من المواقف الجريئة لم يشفع له عند صناع القرار، في أعقاب سلسلة من الانتقادات التي وجهها لأداء السياسيين في السلطة الذين أهملوا احتياجات المواطنين وانشغلوا بالصراع على المناصب والامتيازات. وكان آخر مواقفه عندما وصف في لقاء تلفزيوني فترة حكم الرئيس العراقي الأسبق أحمد حسن البكر بانها أفضل من الحكم الحالي، وهو ما أثار ضده حملة هجوم شرسة واتهامات له بتمجيد فترة حكم البعث، رغم أنه من أشد المعادين له، وهو الأمر الذي أدى به إلى تكرار مهاجمة منتقديه والإصرار على موقفه.
انتقادات واتهامات
وكانت أبرز الانتقادات الموجهة للشخصيات التي تنتقد مساوئ العملية السياسية، اتهام النائب محمد الصيهود عضو كتلة القانون التي يقودها نوري المالكي، بعض الشخصيات بتمجيد نظام حزب البعث خلال حواراتهم التلفزيونية والصحافية، معتبرا أن ذلك “يندرج ضمن محاولات إسقاط العملية السياسية في البلاد وتشتيت الرأي العام وزعزعة الأمن!”. ورغم أن الصيهود أقر بأن فشل الطبقة السياسية الحالية في تقديم الخدمات وعدم الارتقاء بالتعليم والصحة وعدم المحافظة على أمن البلد وسيادته، وانتشار البطالة والفقر، هي أسباب لتلك المطالبات والمواقف، إلا انه أكد ان هذا التحدي خطير وعلى القائمين بالعملية السياسية إجهاض هذا المشروع الذي ستكون له تداعيات خطيرة، حسب رأيه.
وتؤشر حالة النائب فائق الشيخ علي والنائبة هيفاء الأمين وشخصيات أخرى مشابهة تتصدى للفساد والفشل، إلى أن صناع القرار السياسي في البلد لا يعيرون أي اهتمام لتاريخ أي شخصية مهما كانت مواقفها وخدماتها للعملية السياسية الحالية، إذا ما تجاوزت الخطوط الحمراء في المس بمصالح القوى المهيمنة على السلطة وانتقادها وكشف عيوبها، ولذا فقد تمت معاقبة الشيخ علي بابعاده عن رئاسة اللجنة القانونية، وسط تهديدات بسحب الثقة عنه وعن هيفاء الأمين، وإحالتهما إلى المحاكم.
إخفاقات البرلمان
وفي موقف آخر يعبر عن اليأس من فشل البرلمان في إنقاذ الموصل من مأساتها وأزماتها المتراكمة منذ تحريرها من تنظيم “داعش” عام 2017 دعا رئيس تحالف القرار العراقي، النائب أسامة النجيفي، سكان محافظة نينوى إلى “الدفاع عن حقهم”.
وقال في تغريدة له على تويتر: “أخفق مجلس النواب في حماية نينوى من سرطان الفساد والدور الآن على شعب نينوى للدفاع عن حقه في الحياة الحرة الكريمة في عراق آمن”. وأضاف “لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فلا ترضوا بما يراد لكم من سوء”.
وجاء موقف النجيفي بعد إخفاق البرلمان في مناقشة حل مجلس محافظة نينوى، بسبب صراع القوى والكتل السياسية على حكومتها المحلية، الذي وصل إلى حد تبادل الاتهامات فيما بينها بالفساد ودفع ملايين الدولارات للفوز بمنصب المحافظ. كما أن النجيفي الذي ترأس اللجنة التحقيقية البرلمانية حول أوضاع الموصل، التي رفعت توصيات إلى البرلمان لإصلاح أوضاع المحافظة المتدهورة، وجه انتقادات لبعض القوى السياسية التي أفشلت تلك التوصيات لتحقيق أهداف سياسية خاصة بها.
حركات متشددة
وليس خافيا موقف المرجعية الشيعية العليا في النجف من العملية السياسية، حيث حفلت خطبها الأسبوعية وتصريحاتها بانتقادات لاذعة لأداء القوى السياسية وإهمالها مصالح العباد وسوء الإدارة والفساد المالي، ووصلت مواقفها الغاضبة إلى الإعلان عن التوقف عن تناول القضايا السياسية في خطب ممثلي المرجعية، جراء عدم الاستجابة لها، كما توقفت عن استقبال أي شخصية سياسية منذ سنوات، إلا ان كل ذلك يبدو انه لم يكن كافيا لبعض الجهات الشيعية.
وفي هذا السياق، برزت مؤخرا حركات وتجمعات ذات صبغة وأهداف دينية، عمدت إلى انتقاد المرجعية الشيعية واتهامها بالتواطؤ مع النخبة السياسية الفاسدة.
ويتابع أهالي جنوب العراق، هذه الأيام، أخبار جماعة دينية سرية تطلق على نفسها ” المولوية” وهي حركة شيعية تضم الآلاف ممن ينتقدون العملية السياسية ومواقف المرجعية منها، مما أدى إلى قيام الأجهزة الأمنية بحملة اعتقالات للعديد من المنتمين لهذه الحركة بتهمة “الوقوف ضد أفكار المرجعية الدينية وزعزعة الأمن”.
وتفيد مصادر مطلعة في جنوب العراق لـ”القدس العربي” أن حركة “المولوية” تضم آلاف الأشخاص الذين يدعون إلى عدم الانصياع إلى المرجعية الدينية والسياسية والرجوع إلى العقل في القضايا الدينية والحياتية، كما تروج بأنها تهيء لظهور “المهدي المنتظر” الذي سينشر العدل وينهي الظلم، وفق العقيدة الشيعية. وهذه ليست الحركة الأولى المعارضة للسلطة الدينية والسياسية في العراق منذ 2003 بل سبقتها حركات أخرى منها “جند السماء” و”أنصار المهدي” تلتقي كلها على ضرورة تنقية المذهب من الأخطاء وإصلاح العملية السياسية. وقد قوبلت كلها بحزم من قبل الأجهزة الأمنية والأحزاب والمرجعيات الشيعية. وترى المصادر أن سبب نشوء هذه الحركات هو تراكم سلبيات العملية السياسية وفقدان الأمل في إمكانية إصلاحها، إضافة إلى قيام بعض رجال الدين والسياسيين بكشف تورط بعض الأحزاب الدينية في قضايا فساد ودعم سياسيين فاسدين.
ولم تكن ظاهرة نشوء تنظيم “الدولة الإسلامية” (2014 – 2017) بعيدة عن هذا الأمر، حيث ساهمت الطائفية والأوضاع السيئة في بعض المناطق من البلد في ترسيخ التنظيم وانتشاره لفترة محدودة فيها ورغم اعتباره تنظيما إرهابيا طائفيا، ولكنه تمكن من ضم الآلاف من الشباب إليه، بعد خداعهم بقدرته على إحداث التغيير المطلوب وإصلاح الأوضاع في البلد، ما يعكس حجم الإحباط واليأس لدى شريحة واسعة من العراقيين.
ويتفق العراقيون على ان تنامي حالات رفض استمرار تدهور الأوضاع في العراق بكافة أشكالها، هي إفرازات طبيعية لتدهور الأوضاع في البلد في ظل عملية سياسية عرجاء، يركز صناع القرار فيها على تحقيق المكاسب الشخصية وتنفيذ أجندات، أكثر من الاهتمام بخدمة الشعب. وهو ما يدفع الكثير وبضمنهم بعض المنخرطين في العملية السياسية، إلى النأي بأنفسهم عن مساوئها، عبر نقدها علنا في وسائل الإعلام، رغم كل محاولات اسكاتها عبر إجراءات رادعة متنوعة، وهي مواقف شجاعة متصاعدة تلقى استحسانا وتنال احترام العراقيين بالتأكيد.