إسطنبول–”القدس العربي”: لأول مرة منذ سنوات طويلة صوت حزب الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة التركية بـ”لا” على مذكرة طلبت من خلالها الرئاسة التركية تفويضا لتمديد الإذن القائم للجيش التركي للقيام بعمليات عسكرية في سوريا والعراق، في خطوة غير مسبوقة اعتبرت بمثابة محاولة من الحزب لمغازلة الناخبين الأكراد وتعزيز فرص ضم حزب الشعوب الديمقراطي الكردي لتحالف المعارضة الذي يسعى لإسقاط أردوغان في الانتخابات الرئاسية المقبلة والتي تعتبر أصوات الأكراد “حاسمة” فيها.
والثلاثاء، صوت البرلمان التركي على مذكرة تمديد مهام القوات التركية في سوريا والعراق لمدة عامين، وجرى تمرير المذكرة بدعم نواب حزب العدالة والتنمية الحاكم وشريكه بالحكم حزب الحركة القومية (تحالف الجمهور)، كما صوت بدعم المذكرة حزب الجيد برئاسة ميرال اقشينال المنضوي تحت تحالف المعارضة (تحالف الأمة).
وصوت ضد المذكرة حزب الشعوب الديمقراطي أكبر الأحزاب الممثلة للأكراد وهو أمر اعتيادي حيث صوت الحزب طوال السنوات الماضية ضد عمليات الجيش التركي في سوريا والعراق باعتبار أنها تستهدف بدرجة أساسية التنظيمات المسلحة الكردية وعلى رأسها العمال الكردستاني شمالي العراق، ووحدات حماية الشعب و”قسد” في شمالي سوريا.
لكن المفاجأة الكبرى، كانت في تصويت حزب الشعب الجمهوري ضد المذكرة لأول مرة، في نقطة تحول غير مسبوقة لم تتكشف كافة حيثياتها بعد لكنها تشير إلى مناورة سياسية جرى إقرارها في الساعات الأخيرة سعى من خلالها حزب الشعب الجمهوري لتعزيز فرصه بالإطاحة بأردوغان في الانتخابات الرئاسية المقبلة المقررة منتصف عام 2023 وتضغط المعارضة باتجاه إجرائها بشكل مبكر.
وحتى قبيل 24 ساعة من التصويت، لم يصدر عن حزب الشعب الجمهوري أي تصريح يشير إلى نيته تغيير موقفه التقليدي بالتصويت على دعم العمليات العسكرية في سوريا والعراق، حيث حصلت هذه المذكرات دائماً على دعم كافة الأحزاب التركية باعتبار أنها تتعلق بعمليات الجيش التركي التي تهدف إلى حماية الحدود والأمن القومي والحرب على الإرهاب ومنع إقامة كيان انفصالي على الحدود التركية.
لكن التغيير المفاجئ في موقف الحزب، يعتقد أنه جاء رضوخاً للضغوط التي مارسها عليه حزب الشعوب الديمقراطي الكردي وذلك في محاولة من الشعب الجمهوري للحفاظ على تماسك تحالف المعارضة وكسب أصوات حزب الشعوب الكردي في الانتخابات المقبلة.
فقبيل التصويت بساعات، هدد الرئيس المشارك لحزب الشعوب الديمقراطي مدحت سنجار من أن حزبه لن يقبل أن يكون جزءا من “تحالف سري” وأن من يريد أن يتحالف معه يجب أن يكون ذلك في إطار علني ورسمي، وقال: “أعلنا عن موقفنا من الانتخابات المقبلة، لن نكون على الإطلاق جزءا من التحالفات السرية خلف الأبواب”، ووجه دعوة لأحزاب المعارضة وعلى رأسها أكبر أحزاب المعارضة بالتصويت بـ”لا” على طلب الحكومة تمديد صلاحية عمليات الجيش التركي في سوريا والعراق.
وفي وقت سابق، وجهت الرئيس المشارك لحزب الشعوب الديمقراطي برفين بولدان انتقادات لاذعة للمعارضة ملوحةً بأن حزبها لن يتحالف معه في الانتخابات المقبلة، وقالت: “في المرحلة المقبلة لا ينتظر أحد منا نفس الموقف”، في إشارة إلى أن حزبها لن يقبل دعم مرشحي المعارضة في الانتخابات المقبلة على غرار ما جرى في الانتخابات المحلية عام 2019.
وفي انتخابات آذار/مارس 2019 المحلية دعم حزب الشعوب الديمقراطي الكردي مرشحي تحالف المعارضة وذلك من خلال تحالف غير معلن حيث لم يكن حزب الشعوب الديمقراطي جزءا رسميا ومعلنا من “تحالف الأمة”، وبفضل هذا التحالف نجحت المعارضة في الفوز بانتخابات رئاسة بلديات كبرى أبرزها أنقرة وإسطنبول لأول مرة منذ نحو عقدين من سيطرة العدالة والتنمية.
ويواجه حزب الشعوب الديمقراطي اتهامات وملاحقات واسعة من الحكومة التركية بتهمة أنه يمثل “الجناح والغطاء السياسي” لتنظيم بي كا كا المصنف إرهابياً، وعلى الرغم من نفي الحزب إلا أن أحزاب المعارضة تخشى التحالف رسمياً معه خشية اتهامها من قبل العدالة والتنمية وأردوغان بالتحالف مع “داعمي الإرهاب”، إلا أن الحزب الذي قبل التحالف غير المعلن في الانتخابات البلدية عام 2019 يرفض بشكل مطلق تكرار هذا السيناريو ويشترط التحالف الكامل والمعلن في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
ويعتقد أن تصويت حزب الشعب الجمهوري ضد مذكرة العمليات العسكرية في سوريا والعراق جاء تحت ضغط وشروط حزب الشعوب الديمقراطي، حيث يسعى لتقديم تطمينات وضمانات للحزب الكردي في محاولة للتوصل إلى تصور نهائي حول دعم الشعوب الديمقراطي لمرشح تحالف المعارضة للانتخابات الرئاسية المقبلة.
لكن في المقابل، تبدو خطوة الشعب الجمهوري مغامرة سياسية كبيرة حيث بدأ أردوغان بتوجيه اتهامات للحزب بالرضوخ لشروط الشعوب الديمقراطي والوقوف ضد المصالح الوطنية والقومية، وقال أمام الكتلة البرلمانية للحزب الحاكم، الأربعاء، إن المذكرة أمر اعتيادي من 76 مذكرة مررها البرلمان التركي في العقود الماضية لمحاربة الإرهاب والتنظيمات الانفصالية، وأضاف: “الشعب الجمهوري أصبح لعبة بيد الشعوب الديمقراطي وانصياعه له بات يهدد الأمن القومي التركي”.
وبينما تساهم خطوة الشعب الجمهوري في منحه أصوات شريحة مهمة من الناخبين من أصول كردية وشرائح صغيرة أخرى، تصعب مهمته في اجتذاب أصوات شريحة أكبر من القوميين والمحافظين الأتراك الذي يعتبرون معارضة العمليات في سوريا والعراق والتحالف مع الشعوب الديمقراطي “مواقف غير قومية”.
إلا أن الحسابات المتعلقة بالانتخابات الرئاسية المقبلة ما زالت معقدة للغاية في ظل التكهنات المختلفة حول الشكل النهائي للتحالفات والتي تحمل في طياتها سيناريوهات مختلفة يمكن أن تقلب المشهد رأسا على عقب وتعيد خلط الأوراق مجدداً وبالتالي إعادة الحسابات إلى نقطة الصفر.
وبينما يرى مراقبون أن خطوة الشعب الجمهوري جاءت في إطار اتفاق مع حزب الجيد انطلاقاً من لعبة “تقاسم الأدوار” وذلك بأن يصوت الشعب الجمهوري ضد المذكرة لكسب أصوات الأكراد واليساريين، ويصوت حليفه حزب الجيد مع المذكرة لكسب أصوات القوميين والمحافظين- يرى مراقبون آخرون أن هذه الخطوة تظهر تزايد الخلافات بين الحزبين وهو ما قد يفتح الباب أمام تغيير جوهري في خريطة التحالفات ستكشفها الأيام المقبلة.