رغم اطمئنان قلة من الشعراء العرب إلى اختياراتهم الجمالية، المؤطرة أساسا بمقولات الحداثة، ورغم اقتناعها بانزياح مساراتهم الحضارية عن مضارب السلطات التقليدية وأبراج مراقبتها، إلا أنها مع ذلك، تصاب بحالة اكتئاب وجودي، حال تذكرها لضراوة البؤس الثقافي المخيم على فضاءاتهم الثقافية، حيث لا تلبث أوهام الطمأنينة الحداثية، أن تتبخر بتواز مع الكشف عن سراب القناعات. ذلك هو الاستنتاج الذي لا نتردد في الأخذ به، كلما حاولنا ضبط خصوصية القول الشعري العربي، من خلال الإحاطة بالسياقات الناظمة لمحيطه المعرفي والجمالي، بعيدا عن المقولة المؤشرة على تطابق مكونات العمل الخارجية ومكوناته الداخلية. ونعني بها المقولة المحيلة على قانون الانعكاس، التي يأخذ فيها العمل الشعري شكل مرآة، تنعكس عليها ظلال المعيش، فالإقرار بخضوع التلقي الشعري لخصوصية المناخ الثقافي السائد والمهيمن، لا يتنافى مطلقا مع ضرورة الإقرار بجدوى تلك المسافة المفاهيمية، الفاصلة بين آلية اشتغال جمالية «العمل» وآلية اشتغال مقومات المعيش. علما بأن جدلية هذه المسافة تظل جد مهمشة في أوساط التلقي العربي، كي تبقى التوجهات الحداثية، عاجزة عن إسماع صوتها المعرفي في فضاءات مسكونة بهوس خصوصية منغلقة، ومسيجة بأشواك الهوية وموانعها، خصوصية، لها هندسة سجن مطوق بتهاليل الفردوس، وأهوال الجحيم. وهي وضعية تضيق معها سبل استشراف آفاق تحديث الكتابة الشعرية وقراءاتها، كي تنحصر حدودها ضمن مجال مغلق، بالكاد يتسع لنسبة محدودة من النخب الثقافية. ما يعني، أن تفعيل سؤال التحديث الشعري، يظل رغم كل هذه العقود المتتالية من التجريب والتوظيف، مطاردا بمعيقاته الذاتية والموضوعية، حيث لا مناص من طرح تساؤل آخر، لا يقل التباسا وتعقيدا، يتمحور حول الشريحة المعنية فعليا بإشكالياته، باعتبار أن سؤال التحديث الشعري، غير مندرج بتاتا ضمن الأولويات الثقافية والحضارية التي ينشغل بها الزمن العربي، بل غالبا ما ينظر إليه بعين الحيطة والتوجس، نتيجة ما يطاله من تشكيك، من قبل دواليب السلط التراثية ورموزها، التي تعتبر كل نزوع لفك الارتباط بالموروث الشعري، ضربا من الانسلاخ المشبوه عن مقومات الهوية.
ولعل من أبرز تداعيات هذه الوضعية المأساوية، تضخم ظاهرة الخطاب التنظيري، بموازاة الضمور الملموس لحصيلة المنجز الشعري، ذلك أن تشغيل الآلة التنظيرية، متاح بالقوة والفعل لكل التواقين إلى التخلص من هيمنة الموروث، فيما يظل تحقيق الطفرة الشعرية، وقفا على أقلية من النخب الإبداعية، التي تجد نفسها مكرهة على معايشة يتمها الفادح في دياجير الهوامش القصية والمنسية، فيما تستمر المؤسسات الوصية على «ثوابت الهوية !» في ممارسة اكتساحها لفضاءات القول الشعري، عبر تزكيتها اللامشروطة لكل المحتشدين تحت مظلتها. وإذا كان من الضروري التوقف عند بعض هذه الثوابت، فيمكن اختزالها في ظاهرة هيمنة المكون النظمي/التطريبي، بما هو «قالب» جاهز سلفا، و»سلك» معد، للتوليف بين دلالات الوحدات المادية أو الرمزية المنتظمة فيه. وفي السياق ذاته، يمكن استحضار التعاريف التي تطالعنا بها القواميس العربية القديمة لمفهوم النظم، على غرار ما هو وارد في «لسان العرب» من قبيل- «نظمت اللؤلؤ أي جمعته في السلك.. ومنه نظمت الشعر، حيث سننتبه إلى أن هذا القياس الذي تقترن فيه دلالة النظم الشعري، بالخيط المؤلف بين حبات اللؤلؤ والخرز، ليس في واقع الأمر، سوى ضرب من الإسقاط التمويهي، الذي تأخذ فيه الكلمات، شكل أحجار كريمة، «ثمينة» و»نادرة» لا مجال للقارئ كي يشكك في قيمتها وفي أهميتها. والحال أن جمالية الوحدات اللغوية المنتظمة في النسق الشعري، لا يمكن أن تحظى بميزة اللؤلؤ، إلا عند ارتقائها إلى مستوى جمالية وشعرية السلك/ الناظم لها. بمعنى أن تكون مترتبة عنه، بالقدر الذي يكون هو أيضا مترتبا عنها، بدل أن تجبر على الانتظام فيه، بوصفه قالبا جاهزا، ومعدا سلفا لتنظيم حركيتها.
وإلحاحنا على الشرط الموضوعي، الذي يرتقي بالوحدات المعجمية إلى جمالية وقيمة الأحجار الكريمة، يحيلنا ضمنيا على جمالية التشكيل اللغوي، بالمفهوم الحداثي للكلمة، حيث تمارس دلالات الوحدات اللغوية انصهارها اللامتوقع والفجائي، في بعضها، بعيدا عن أي استحضار عشوائي لسلطة النظم التقليدي، بما يساهم في بلوة شعرية مغايرة، منفتحة على آفاق اللامتناهي، ومتجاوزة لمنطق الأنساق النظمية، واشتراطاتها التطريبية الصرفة. بخلاف الوحدات اللغوية المقيدة بإكراهات النظم، الذي تتلخص وظيفته، في استحضار ما يكفي من المقومات البيانية، التي تحفل بها ذاكرة البلاغة العربية، بما هي معادلات مسكوكة، يستدعي طرفها الأول طرفها الثاني، على ضوء مقتضيات الغرض و»المناسبة». وهو السياق الذي يستنفر فيه «الناظم» خبرته في نحته لتشكيلاته البيانية، انطلاقا من النماذج البلاغية، التي تنوء بثقلها الذاكرة التراثية، وأيضا انطلاقا من مراعاة انسجام هذه التشكيلات مع متطلبات «الغرض» المنصوص عليها في المدونة النقدية التراثية. بمعنى أن المتلقي المتمرس بقراءة الشعر أو سماعه، سيجد نفسه بصدد حالة من الانتشاء المؤقت والعابر، قوامه لعب لغوي، بشحنات إيقاعية لحفنة من العناصر الحاضرة في الذاكرة، أي ذلك اللعب البياني، الذي يحاول عبثا، إقحام سكونية الزمن النظمي في حركية زمن الشعر الموسومة بتقطعاتها وتحولاتها. بما تعنيه هذه المحاولة من دلالة قدحية وتحريفية، مفادها الزج بعناصر لا شعرية «لا علاقة لها مطلقا بنظم اللؤلؤ» في خانة القول الشعري. وهو لعمري ضرب من النصب اللاإبداعي، الذي يستثمر في «التلقي العام» والساذج، نزوعه الغريزي للاستجابة إلى الإيقاعات الطربية، التي لا تكف عن أرجحة دواخله، أينما حل وارتحل. كما أنه في الوقت نفسه، ضرب من التنويم الإيقاعي الذي يغرق المتلقي ذاته في طقس النوستالجيا البلاغية، بدل أن يحفزه على ممارسة فعل التأمل الشعري والمساءلة الجمالية، دون أن يمنعنا ذلك من استثناء بعض التجارب الخبيرة بتوظف التقنية التطريبية، ضمن سياق دلالي، قد يروم الإيماء بها لزمن ما، من أزمنة القول الشعري. كما قد يروم بها نسف هذه التقنية جملة وتفصيلا، عبر تحميلها لدلالات مضادة، يفضي إلى تفكيك مرجعيتها، بما هي حمولة إرث غنائي قابل للتوالد، دون أن تلوح باحتمال ظهور أي استشراف دلالي، متميز بمغايرته وجدته.
وهنا تحديدا يمكن استحضار الحد الأدنى من عقلانية الرؤية الشعرية للعالم، التي مفادها، أن الأدوات القديمة، غالبا ما تكون مسكونة بأرواح منتوجها. ومهما حاولنا تجديدها، فإنها حتما ستعيد إنتاج المادة نفسها، ضدا من أي جمالية تطريبية من شأنها ترقيص الجسد، كي يظل حيث هو مراوحا مكانه، إلى أن يرتد مغلوبا على عقبيه، خاوي الوفاض من أي دلالة جمالية أو تأملية تذكر.
شاعر وكاتب مغربي