تطور اللغات واللهجات

دراسة تاريخ اللغات اداة هامة في دراسة تاريخ الأمم ومصدر للكشف عن الكثير من الحقائق التي يجهلها المواطن العادي والتي قد تناقض معتقدات يظنها البعض حقائق لا لبس فيها.
وسبب هذا هو اضمحلال الذاكرة التي يدعي البعض بأنها لاتموت بينما يبين التاريخ ان انتقال الذكريات من جيل الى آخر يقل مع زيادة عدد الاجيال حتى تنتهي في قبور النسيان كما يتغير تفسيرها حسب ناقلها لأغراض شخصية أو دينية أو سياسية. ويفاجأنا عامل آخر في اختفاء الحقائق التاريخية، وهو قلة ما كتب عن بعض المواضيع وحتى في بلدان عرفت بغزارة الكتابة في العصور الوسطى.
لا يعرف الكثيرون مدى التغير الكبير للغات واللهجات والذي قد يكون سريعا أيضا لأسباب تتعلق بالسياسة أو الهجرة أو الاحتلال. فمثلا كانت اللغة التركية في العهد العثماني تختلف عن تلك الحالية بسبب احتواء اللغة التركية العثمانية على عدد كبير جدا من الكلمات العربية وعدد أقل من الكلمات الفارسية ويعزى هذا الى انعدام الحضارة لدى القبائل التركية التي دخلت الشرق الاوسط في العصور الوسطى وكان أول احتكاكها بالحضارة هو مع بغداد التي كانت عاصمة العلم والثقافة آنذاك فاقتبسوا الأحرف الهجائية وكلمات عربية كثيرة جدا كونت أكثر من نصف اللغة التركية العثمانية بالاضافة الى مظاهر أخرى من الحضارة العربية مثل الملبس والمأكل والدين حيث أعتنقت أغلبية القبائل التركية الدين الاسلامي ونمط الحكم حيث اسست السلطنة العثمانية على اساس الخلافة العباسية واستمر الحال على هذا المنوال حتى عهد مصطفى كمال اتاتورك، الذي حكم تركيا بعد انهيار الدولة العثمانية واعلان الجمهورية التركية عام 1922، حيث اراد ابعاد تركيا عن العرب وتقريبها من الغرب فأسس جمعية اللغة التركية عام 1932 لغرض التخلي عن الأحرف الهجائية العربية واستبدالها بالأحرف الهجائية اللاتينية والتخلي عن الكلمات العربية الموجودة في اللغة التركية واحلال كلمات تركية محلها ومع ذلك فأن المطلع على التاريخ التركي يلاحظ بسهولة التأثير الأجنبي الضخم على الحضارة التركية فسنان، أشهر معماري في التاريخ التركي، كان من أوروبا الشرقية وأغلبية رؤساء الوزارة لم يكونوا أتراكا بالاضافة الى اغلبية الصناع المهرة وحتى أشهر الموسيقيين الذي كان عراقيا يدعى عثمان الموصلي وأخيرا رائد الشعر الرومانسي التركي الحديث أهمت هاشم (أحمد هاشم) الذي كان في الحقيقة عراقيا من أسرة الآلوسي الشهيرة مع الأخذ بنظر الأعتبار وجود شكوك كبيرة حول أصول مصطفى كمال اتاتورك التركية نفسه. وهناك مثال آخر وهو كرواتيا، فعندما اعلنت استقلالها عام 1991 من الأتحاد اليوغوسلافي الذي كانت عضوة فيه مع صربيا حاولت كرواتيا الابتعاد عن صربيا بقدر الامكان واحد اشكال هذه المحاولات كان لغويا فكرواتيا وصربيا يشتركان في اللغة فأخذت كرواتيا تحاول تجنب المفردات التي تكثر في اللهجة الصربية. وهناك اللغة الأنكليزية التي بدأت كلهجة المانية لتتغير بسبب هجرة الاسكندنافيين اليها ثم احتلال النورمانديين الناطقين بالفرنسية لها وهي الآن لغة مختلفة عن الألمانية على الرغم من انتمائهما الى نفس العائلة اللغوية.
اما فيما يخص منطقة الشرق العربي، ففي خلال السنوات الخمسين الماضية مثلا تغيرت لهجة بغداد من ناحية الكلمات والنغمة الى درجة ان بغداديا من خمسينات القرن العشرين سيعتقد ان اللهجة الحالية في بغداد ليست بغدادية على الاطلاق بل من احدى قرى جنوب العراق. ان الافلام السينمائية والتلفزيون وغيرها من وسائل الاعلام قامت لسبب ما باختلاق تاريخ خيالي عن بغداد زمن العباسيين بالأزياء الخلابة ذات الألوان لسكانها البالغ عددهم الملايين (حسب تصورهم) بينما في الحقيقة لا يمكن ان يكون قد تجاوز مائة وخمسين الفا آنذاك لمعرفتنا بحجم بغداد القديمة بسبب مواقع ابوابها القديمة المعروفة. ولا ينكر أحد مكانة بغداد ايام العباسيين، فقد كانت عاصمة العلم والحضارة في العالم آنذاك وأغناها ثروة وهي التي كانت عاصمة للعالم الاسلامي لفترة أطول من أية مدينة أخرى ولكن كان هذا في العصر العباسي أي في العصور الوسطى ولذلك فانها لم تكن افضل من مدن العالم الحديث التي كل منها الآن أكثر رفاهية من بغداد آنذاك. ولكن ماذا عن لغة سكان بغداد ابان الحكم العباسي؟
اذا اخذنا وسائل الاعلام مأخذ الجد فاننا سنفترض ان سكان بغداد كانوا يتكلمون اللغة العربية الفصحى وبدون اية اخطاء في القواعد واللفظ، أي انهم كانوا بالغي التعليم، وبالتالي فقد كانوا أكثر تعليما من سكان العراق الحاليين. ولكن هل هذا معقول.
لا يلاحظ الدارسون كم تغيرت لهجة بغداد على مدى العصور بسبب الهجرة اليها أو احتلالها أو لتأثيرات سياسية ولكنهم يزيدون في عدم ملاحظتهم عندما لا يقارنون لهجات المدن العراقية الأخرى التي كانت وثيقة الصلة ببغداد وخاصة تلك التي لم تكن هدفا لموجات المهاجرين مثل بغداد والتجمعات التي بقيت منعزلة نسبيا في المدن التي سكن فيها مهاجرون مثل البصرة وبغداد نفسها. فمثلا ان التجمعات المسيحية الموجودة في البصرة وبغداد لا تتكلم اللهجة السائدة في مدنها بل لهجة مشتركة وكذلك التجمعات اليهودية في نفس المدينتين. واما منطقة الأعظمية الشهيرة في بغداد فقد كانت في بداية القرن العشرين ضاحية لبغداد وتكلم سكانها آنذاك لهجة قريبة من لهجات المسيحيين واليهود ثم تغيرت لهجة الأعظمية عندما احاطت بها بغداد. ان المجتمعات المسيحية واليهودية في بغداد والبصرة ومنطقة الأعظمية امتازت دائما بعزلة نسبية عن محيطها الاجتماعي مما جعلها اقل تعرضا للتغييرات اللغوية وتمتاز لهجاتها بقربها الشديد من لهجة سكان مدينة الموصل الحالية. ولكن لماذا تختلف لهجة الموصل عن بقية لهجات أغلبية المدن العراقية؟ انه من المعروف ان الدولة العباسية كانت تحد من دخول القبائل العربية الى العراق من شبه الجزيرة العربية وكان هذا عاملا هاما في الحد من الغارات على السكان المحليين وتخريب المزارع ودخول اللهجة القبلية الى العراق ولكن عندما احتل المغول التركمان الهمج بغداد عام 1258 وانهوا الخلافة العباسية اصبح العراق مفتوحا على مصراعيه ومستباحا، فدخلت القبائل العربية من جنوب العراق جالبة معها لهجاتها واستمر زحفهم تدريجيا نحو الشمال ليصل تأثيرهم اللغوي الى بغداد الا ان هذا التأثير لم يدخل الى الموصل الواقعة في أقصى شمال العراق كما انه لم يخترق التجمعات المسيحية واليهودية الضيقة في البصرة وبغداد. وهذا يدل ان لهجة الموصل الحالية هي من بقايا لهجات العراق في العصر العباسي وان لهجة بغداد القديمة كانت كثيرة الشبه بها وبذلك فلو انتقل مواطن بغدادي حالي في الزمن الى بغداد العصر العباسي وتكلم مع مواطن منها فسيعتقد انه يتكلم مع مواطن من مدينة الموصل الحالية.

الموصل – العراق
[email protected]

زيد خلدون جميل

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية