أكثرية المشاركين في الاحتجاجات السلمية التي بدأت مطلع شهر تشرين الاول (اكتوبر) هذا العام 2019 في بغداد ومدن وسط وجنوب العراق جاء إلى هذه الدنيا وأبصر نورها في ذات السنة التي سقطت فيها بغداد تحت سلطة الاحتلال الأمريكي عام 2003 ، هذه أبرز علامة اثمرت عنها الاحتجاجات،وعلى ذلك لابد من التوقف عندها وتأملها لأن لها دلالة مشرقة، فالمتظاهرون لم يكن بينهم وبين حزب البعث الذي حكم العراق من العام 1968 إلى العام 2003 أي ارتباط تنظيمي، وما من علاقة تجمعهما تحت سقف الولاء والتبعية بأي صيغة من الصيغ والعناوين، وهذا ما منحهم صك البراءة من تهمة الانتماء للبعث أو أنهم من أيتام النظام السابق كما يتم ترديد هذه العبارة من قبل الجيوش الالكترونية لاحزاب السلطة في بغداد بحق أي صوت قد يرتفع احتجاجا على سوء الأوضاع حتى لو لم يكن قد أبصر الحياة ساعة سقوط نظام البعث.
عباس الزيدي الشاب الصغير ابن مدينة الناصرية الذي لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره (مواليد 2005 ) كانت قد تناقلت صفحات الفيسبوك صورته ممدا على الأرض مضرجا بدمائه بعد أن اخترقت رأسه رصاصة قناص يرتدي قيافة عسكرية حكومية. لم يكن عباس الأصغر سنّا من بين مئات المتظاهرين الذين اجتاحوا بصدورهم العارية شوارع العاصمة بغداد والناصرية والبصرة والعمارة والديوانية ومدينة الثورة وهم يهتفون بسقوط نظام الطوائف، فهناك العشرات بمثل عمره وأصغر منه، ممن يطلق عليهم في العراق «جيل البوبجي» نسبة إلى لعبة البوبجي التي يقضون ساعات طويلة وهم يلعبونها عبـر أجهزة الموبايل.
تهمة البعث
مع استمرار التظاهرات تضاعفت أعداد الشباب الذين سقطوا قتلى برصاص قوات مكافحة الشغب والحرس الخاص برئيس الوزراء عادل عبد المهدي الذي يقوده زوج ابنته المقدم ازاد ابراهيم صالح، هذا إضافة إلى مشاركة عناصر تابعة لبعض الفصائل المنضوية إلى الحشد الشعبي مثل سرايا الخراساني ومنظمة بدر وحزب الله العراقي وكتائب سيد الشهداء بهذه المجزرة. وتشير تقارير منظمات حقوق الإنسان أن أعداد القتلى تجاوزت الرقم 350 قتيلا بعد مرور عشرة أيام على بدء التظاهرات، وهناك أكثر من 6000 جريح وعشرات المعتقلين، وهناك قائمة تضم عديد الناشطين الذين تعرضوا للملاحقة ،ومن ثم اختفاءهم عن الوجود بعد اعتقالهم، ولم يعرف مصيرهم مثل الطبيب والناشط ميثم الحلو وعقيل التميمي وفلاح حسن سلوم، وهناك نشطاء آخرون مضى على اختفائهم بعد اعتقالهم من قبل قوات حكومية أكثر من خمسة أعوام مثل الناشط الشاب جلال الشحماني. كما تداولت وسائل إعلام عراقية أن عديد من الإعلاميين والصحافيين والناشطين قد هربوا صوب إقليم كردستان العراق بعد الأيام الثلاثة الأولى من بدء الاحتجاجات عقب حملة اعتقالات طالت العديد من زملائهم الذين تولوا تغطية التظاهرات. كما افادت وكالة شفق نيوز العاملة في العراق بناء على معلومات وصلتها من إعلاميين وناشطين أن «جهات مسلحة داهمت منازل وشقق ناشطين مدنيين وصحافيين ومدونين وكتّاب في العاصمة بغداد، في إجراء لاعتقالهم، مشيرين إلى أن أصابع الاتهام وُجهت إلى أطراف مسلحة تنتمي لميليشيات عراقية موالية لإيران، بعد تنصل الحكومة من عمليات كهذه. وإن هناك قائمة ضمت اكثر من 300 شخص من العاملين في الصحافة العربية والأجنبية لم يسلم منها حتى ممثلون كوميديون في مقدمتهم المخرج والممثل علي فاضل المسؤول عن برنامج «ولاية بطيخ»، الذي كتب على حسابه الموثق على انستغرام أن جهات مجهولة أعدت قائمة بأسماء المدونين والناشطين والصحفيين من اجل تصفيتهم».
السلطة وقعت في حرج بالغ لم تستطع أن تداريه حتى بالتزييف لأن غالبية من سقطوا برصاص أجهزتها الأمنية كانوا من العرب الشيعة الذين تدعي أنها جاءت إلى السلطة لأجل إنصاف مظلوميتهم التي تسبب بها النظام البعثي (السني) حسب زعمها، بذلك تولت بنفسها تعرية نفسها، وأزاحت بيديها الملطخة بدماء أبناء المذهب الذي تدعي انتماءها له والدفاع عنه كل الشعارات التي روجتها طيلة الأعوام الماضية حول عزمها على بناء بلد ديمقراطي يوفر الحرية والكرامة لمواطنيه ويعوضهم عن الحرمان الذي عانوه طيلة العقود الماضية. لم تصمد هذه الأكاذيب منذ اليوم الأول للتظاهرات، فاستنفرت أجهزتها القمعية المعروفة منها والمستترة، فنزل إلى الشوارع العشرات من عناصرها، بعضهم كان سافر الوجه، والكثير منهم كان ملثما أو مقنّعا، واعتلى عديد القناصين أسطح المباني الحكومية المرتفعة، وبدأوا في قنص المتظاهرين بإصابات مباشرة في الرأس والصدر.
مسؤولية المستشارين
رئيس الوزراء عادل عبد المهدي اختار اسوأ الحلول في التعامل مع المتظاهرين وذلك باستخدم القمع والعنف المفرط، متجاهلا ما يمتلكه الجيل الجديد من آليات في العمل تمكنه من إيصال صوته خلال ثوان معدودة إلى أبعد نقطة في الكرة الأرضية، ولن يجدي نفعا معه أسلوب قطع الإنترت لعزله عن العالم، وهذا يعكس مدى سذاجة طاقم المستشارين من شعراء وكتاب ومثقفين وإعلاميين استعان بهم رئيس مجلس الوزراء عبد المهدي ورئيس الجمهورية برهم صالح ورئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي.
فشلت خطابات رئيس الحكومة عادل عبد المهدي بالتغطية على من تورط بعمليات قتل المتظاهرين، ولم تنفع كل الأساليب التي سبق أن مارستها السلطات الحكومية طيلة الأعوام الماضية بالتستر على المجرمين الفعليين وإخفاء معالم جرائمهم، رغم أنها لجأت منذ اليوم الثاني للتظاهرات وكما اعتادت أن تفعل حكومة الملالي في طهران إلى قطع شبكة الإنترنت نهائيا عن جميع مدن العراق، وأوقفت عمل مواقع التواصل الاجتماعي مثل الفيسبوك وتويتر، في محاولة يائسة منها لمنع وصول مقاطع الفيديو والصور التي التقطها المتظاهرون ومصورو الوكالات والمواقع الإخبارية والتي تظهر حجم العنف والوحشية التي مورست بحق المتظاهرين السلميين، ولم يبق لديها سوى أن تدفع بعناصر تابعة لها ليندسوا بين المتظاهرين ويرددوا شعارات وعبارات تسحب المحتوى الوطني للتظاهرات إلى مستنقع الطائفية لترمي بكرة النار من حضنها إلى المدن ذات الأغلبية العربية السنية (موصل، الأنبار، صلاح الدين ) وهذا ما اتقنت ممارسته منذ أحداث العنف الطائفي التي شهدتها البلاد في العامين 2007 – 2008 بعد تفجير مرقد الأمامين العسكريين في سامراء بتاريخ 22 شباط (فبراير) 2006.
جيل لم يقرأ رأس المال
مقابل هذه الصورة الوحشية التي خلفتها أجهزة السلطة الأمنية وميليشياتها رسم الشباب الغض ملحمة بطولية لم يكن يتوقعها أي مراقب للأوضاع في العراق، ولم يكن يخطر على البال أن هذا الجيل يمكن أن يكون على هذه الدرجة العالية من الوعي الوطني بإصراره على الدفاع عن حقه في الحياة ببسالة قل نظيرها لدى الأجيال التي سبقته، بهذا السياق كتب أحد الناشطين من البصرة على صفحته في الفيسبوك منشورا تم تداوله بشكل واسع تضمن قراءة ذكية في توصيف المحتجين الشباب إذ قال: «هذا جيل لم يقرأ (رأس المال) لماركس ولا (فلسفتنا) لمحمد باقر الصدر، ولا (في سبيل البعث) لميشيل عفلق. وأضاف، هذا الجيل العدمي، لم يتذوق الحياة ليخاف عليها، يعرف لعبة البوبجي أكثر من تاريخ حزب الدعوة، ويهتم بشحن موبايله أكثر من اهتمامه بأسعار النفط. هذا الجيل، غير معني بما حدث، لكنه معني بما سيحدث. لا أموال في جيبه، وليس هناك ما يشغل به وقته، دراسته غير معترف بها في العالم، ويشح لديه الكهرباء والماء، لم يتذوق خوف صدام، قد ينفعل قليلاً معكم، لأنه تربى على ما ينشر في الفيسبوك، حيث لا منع على معلومة، ولا حظر على فكرة، هذا الجيل لا سبيل للسيطرة عليه، وإن شئتم السيطرة عليه، فهذا لن يحدث إلا باعطائه وطناً يليق به. ليست لديه أموال ليخاف عليها، ولا حياة لذيذة، ولا مستقبل، اصنعوا له هذه العناصر، وستكون له مخرجات منطقية، لتتحاوروا معه، عدا هذا، سيكون هذا الجيل أشد غضباً، وأشد انفعالاً، ولن تقف أمامه أي محاذير».
الكلام الذي كتبه الناشط البصراوي يشير إلى أن جميع المتظاهرين مازالوا في مرحلة الطهىر والبراءة على عكس أجيال سبقتهم لوثتها الايديولوجيات والعقائد الحزبية، واختلطت لديها معاني الخيانة بالوطنية ولم تعد بوصلتها تشير إلى طريق واضح، إنما أوصلت البلاد إلى طريق مسدود بحواجز كونكريتية، يقف عند منافذها قيادات وزعامات ميليشياوية سبق لهم أن اصطفوا مع الجيش والحرس الثوري الإيراني ضد جيش بلدهم في الحرب العراقية الإيرانية (1980- 1988 ) وتلطخت أياديهم بدماء أبناء جلدتهم، فيا للقدر اللعين الذي جاء بهم ليقتلوا أبناء الذين قاتلوهم ثمانية أعوام عند حدود الشرقية للعراق.
ليس هناك من حقيقة أقسى وأشد مرارة من أن تستمر مطحنة الموت في دورانها لتحصد رصاصات القتلة أرواح الآباء بين الخنادق وبعد أربعين عاما يقتلون أبناءهم وأحفادهم في قلب العاصمة بغداد ووسط شوارع مدن الجنوب والوسط.
كان قرار تعيين مسؤول ميليشيا الحشد الشعبي فالح الفياض رئيس لجنة التحقيق المكلفة بمعرفة القناصة الذين تسببوا بقتل المتظاهرين وعدد من القوات الأمنية من أكثر القرارات إثارة للسخرية، وبمثل هذا الإجراء تكون السلطة قد أعادت انتاج أغبى القرارات التي سبق أن لجأت اليها أنظمة أخرى في عدد من بلدان الشرق الأوسط والعالم الثالث، عندما أوكلت رئاسة لجان التحقيق إلى مسؤولين حكوميين مشتبه بتورطهم بعمليات قتل المتظاهرين أو خصومها من السياسيين مثلما هو الحال مع فالح الفياض، بذلك تكون السلطة التي يرأسها عبد المهدي قد أوقعت نفسها في شراك نصبته لنفسها بنفسها، خاصة بعد الخطاب المتلفز الذي القاه فالح الفياض في مؤتمر صحافي تتوعد فيه المتظاهرين بأقسى العقوبات من بعد أن اتهمهم بالتآمر والتخابر مع جهات خارجية.
البحث عن الهوية الوطنية
إن الشباب المتظاهرعبّر بشعاراته عن تطلعات العراقيين ورغبتهم بالخلاص من تبعية بلادهم وربط مصيرها بمصير نظام ملالي طهران الذي تسبب بإشعال فتنة طائفية وحروب داخلية في أكثر من بلد عربي مثل سوريا واليمن ولبنان والبحرين والعراق. وكانت شعاراتهم واضحة في تأكيد هذا المطلب إضافة إلى أسباب أخرى دفعتهم للخروج في مقدمتها انعدام فرص العمل أمامهم خاصة من يحملون شهادات جامعية، وارتفاع معدل البطالة بين الشباب إلى ما يتجاوز 30% ، وهناك 9 ملايين من اصل 40 مليونا يعيشون تحت خط الفقر، وهذه المعلومات سبق أن وردت في تقرير أصدره البنك الدولي، والذي أشار في فقراته الأخرى أن منزلا من بين كل ستة منازل يعاني من انعدام الأمن الغذائي.
بعد ستة عشر عاما على حكم العراق من قبل احزاب الاسلام السياسي الشيعي وشركائها من ساسة السنة وبقية القوميات والأديان أصبحت البلاد أمام واقع جديد ينذر بتصادم جدي مع النظام ومؤسساته رأس حربته جيل شاب بات يمثل مأزقا حقيقيا أمام هذه المجموعة الفاسدة التي تتحصن في المنطقة الخضراء ولم يعد لديها أي خيار للنجاة من القارب الذاهب إلى الغرق سوى أن تخضع لإرادة المتظاهرين أو تواجه معركة حقيقية سوف تتسع دائرة المنتفضين في داخلها يوما بعد يوم وتزداد شوكتهم شجاعة من بعد أن حطموا حواجز الخوف والرعب بصدورهم العارية.
كاتب عراقي
“إن الشباب المتظاهر عبّر بشعاراته عن تطلعات العراقيين ورغبتهم بالخلاص من تبعية بلادهم وربط مصيرها بمصير نظام ملالي طهران” إهـ : المهم هو بعدم سيطرة معممين لهذه التظاهرات!! ولا حول ولا قوة الا بالله