تقترب مصر من تعويم جديد للجنيه، وتتزاحم المؤشرات التي تدفع بهذا الاتجاه، وآخرها رفع الحد الأدنى لأجور العاملين بالجهاز الإداري للدولة إلى ستة آلاف جنيه، وهي الزيادة التي اعتاد المصريون أن يلتهمها التضخم في فترة وجيزة، ففي عهد الرئيس مرسي كان الحد الأدنى يمثل أكثر قليلاً من مئة دولار أمريكي، وهو ليس بعيداً عن القيمة المعادلة للزيادة الأخيرة، وحسب المؤشرات التي تخص السوق السوداء، فإن الدخل الشهري لن يصل إلى مئة دولار في النهاية.
المشكلة ليست في تعويم الدولار من حيث المبدأ، وما يمارسه المصريون من حنين إلى قيمة الجنيه المرتفعة، لا يعني أي شيء، ففي إيطاليا، كان الدولار الأمريكي يقترب من 1800 ليرة قبل فرض اليورو عملة للبلاد، والأزمة الحقيقية التي تكمن وراء المشهد هو قدرة مصر على توفير الدولار في السوق من الأساس.
بعد أن تضخمت خزائن الجيش ومؤسساته، أصبحت مالية مصر في وضع مؤسف للغاية، فهل يمكن للجيش أن يعمل بمعادلته الاقتصادية خارج الحدود؟ الإجابة الطبيعية هي النفي
للحصول على الدولار، بوصفه العملة السائدة في التداولات عالمياً، يتوجب على الدولة أن تقوم بالتصدير، أو الاقتراض، والتصدير مفهوم واسع، فالسياحة والعمالة المهاجرة تدرج ضمن التصدير، لأنها تؤدي إلى دخول العملات الأجنبية في السوق المحلي، وما يحدث عملياً، هو تراجع قدرة مصر على التصدير، والبقاء عند مستويات مرتفعة من الاستهلاك، والهدف من أي برامج لإصلاح الأوضاع الاقتصادية يتمثل في التخفيف من الاستهلاك، فالدائنون ليسوا مستعدين لتمويل رفاهية، أو أمان، أو استقرار أي شعب إلى ما لا نهاية. الفرضية الأساسية التي دفعت الحكومة المصرية إلى الإفراط في الاقتراض تمثلت في تصور قائم لديها، أن مصر أكبر من أن تسقط، وأنه لا يمكن لأحد أن يسمح لمصر بالسقوط، وهذا صحيح إلى حد ما، فمصر ليست الأرجنتين التي تقع في طرف العالم، ولكن التجربة التاريخية لتضخم المديونية المصرية في القرن التاسع عشر، وفي ظروف مشابهة، تمثلت في التوسع في البنية التحتية على حساب تعزيز الأنشطة الاقتصادية، انتهت بصورة مؤسفة مع تقدم القوات البريطانية لاحتلال البلاد والسيطرة على مواردها. شبكة الطرقات التي أضيفت لمصر تجني الأموال من خلال الرسوم المفروضة، ولكنها للأسف بالجنيه المصري، بمعنى أنها تستخدم لإعادة ترتيب الهيكل الطبقي في مصر، والإخلال بالتوزيع القائم للدخل، أما الدولار فلا يمكن تحصيله من غير التصدير، ولذلك لجأت الحكومة المصرية إلى تصدير محاصيل استراتيجية للحصول على العملة الصعبة، وهو الأمر الذي أدى إلى ارتفاع أسعارها محلياً بصورة ضربت الطبقات الفقيرة، وفي المقابل، لم تمتلك مصر التمويل اللازم من الدولار لاستيراد بعض السلع الضرورية، وأصبح المستوردون يطوفون في الأسواق من أجل تدبر الدولارات لاستمرار أعمالهم.
لم يعد فشل البرنامج الاقتصادي خافياً على أحد في مصر، والمؤشرات الإيجابية القليلة التي تقاطرت في المرحلة الأخيرة، ارتبطت بالحرب على غزة، ولكن مع تكلفة سياسية باهظة، فالحديث عن المعابر والتهجير جرى توظيفه سياسياً من أجل إظهار صورة مصر المؤثرة التي يمكن ترجمتها في مكتسبات اقتصادية، ولكن ذلك عادةً ما لا يعمل لوقت طويل، ولا يمكن أن يشكل حلاً لأي أزمة اقتصادية، والحرب توشك على نهايتها، فإن الفرضية المتعلقة بدور مصر وضرورة تمويل اقتصادها لتتمكن من أدائه ستعود إلى الوراء، وستبقى الاستحقاقات قائمة وأفضل ما يمكن تحقيقه هو تأجيلها وجدولتها، من غير تقديم حلول جذرية. المشكلة أن الاقتصاد المصري لا يمكن أن يولد في ظل الظروف القائمة، من حيث القيمة المضافة التي تجعله مشاركاً فعالاً في الاقتصاد العالمي، فالمنسوجات المصرية التي كانت على جودة عالية، تراجعت بصورة كبيرة، والمصريون أنفسهم يبحثون عن منتجات تركية ارتقى بمستواها القطاع الخاص، مستفيداً من تسهيلات الدولة، والثروة السمكية التي كانت إحدى الدعايات الكبيرة للحكومة في مصر، أخفقت بصورة جعلت المصريين يستبعدون الأسماك من طاولة طعامهم. عملية هندسة الأوضاع الطبقية والانحرافات، التي حدثت في توزيع الدخل أسفرت عن عملية تجفيف لحيوية الاقتصاد المصري، وكأن اقتصاد الجيش شيء منفصل عن اقتصاد مصر، وبعد أن تضخمت خزائن الجيش ومؤسساته، أصبحت مالية مصر في وضع مؤسف للغاية، فهل يمكن للجيش أن يعمل بمعادلته الاقتصادية خارج الحدود؟ الإجابة الطبيعية هي النفي. على حافة الهاوية الاقتصادية يمكن لمصر أن تجد مخرجاً ما، فتكلفة القوى البشرية مع التراجع الكبير في سعر الجنيه المصري أصبحت مغرية لأي مستثمر خارجي حقيقي، وليس المستثمر العقاري الذي يعمل على الهامش بين التكلفة والعائد، ويمكنه أن ينسحب برأسماله في أي وقت، ويستلزم ذلك خروج الجيش بصورة شبه فورية من الاقتصاد، وإتاحة الطريق للمشاريع التي يمكن أن تجد أمامها فضاءً للتصدير، وفي المقابل، ومع وقف المشروعات الكبرى ذات الطبيعة الاستنزافية، التي تضرب معادلة الإنتاج والاستهلاك في مصر، يتم استثمار القروض في توفير شبكة انتقالية من الحماية الاجتماعية والدعم بصورة منهجية.
القرار الاقتصادي لا يمكن أن يناط بشخصيات عسكرية، فكثير من طلبة الاقتصاد أنفسهم ينتهون من دراستهم من غير الإلمام الكافي بأمور، مثل أسعار الصرف والمعروض من النقد في السوق، فكيف يمكن أن ينفرد الجيش بقرارات تحول اقتصادي مرتقبة؟ وكيف يمكن أن تتراجع آليات النقد ليصبح المتاح هو تأييد القرار الرسمي بشدة أو قوة أو حماس، وليس مناقشته أو فهمه أو تحليله. مصر أكبر من أن تسقط اقتصادياً، ولكن السؤال، هل هي أكبر من أن تنهض؟ وكيف يمكن أن تنهض بحمولة ثقيلة من المديونية تبددت في مشروعات بنية تحتية لاقتصاد لا يظهر أنه سيخرج بقوام يستطيع أن يحمل بلداً مثل مصر.
كاتب أردني