كل القصص التشكيلية تبدأ ولا تنتهي أبدا، تتحاور، تتجادل، تلتقى وتتنافر مع متلقيها، تخضع لتقييم الصغار قبل الكبار، يحتفى بها كمنتج فني راق وموروث حضاري مهم، وتهمل في ردهات التاريخ المظلمة وتنسى إلى حين.
مدارس متنوعة وأنماط مختلفة وأساليب متباينة عبر سنوات طويلة من تطور فن الرسم، من الرسم على جدران الكهوف والرسم الأيقوني المسيحي القديم، والفن الإسلامي الهندسي، ومنمنمات الشرق والفن الأوروبي المثالي، ومدارس ما بعد عصر النهضة وما تبعه، إلى أن أصبح الرسم فكرا تشكيليا خالصا، كل هذا يرتكز على قصة ما تحيل إلى فكرة ما، من المباشرة والمحاكاة للحياة والواقع المعاش كطقوس دينية، أو تخليد الأبطال والأحداث الكبرى في التاريخ، ورسم الأساطير إلى رسم الأسطورة الشخصية للفنان وعالمه الداخلي، بإيقاع منتظم منسجم مع الطبيعة الخارجية التي هي مصدره الأول والتجريد والاختزال، الوضوح والغموض، العتمة والنور، العفوية والإتقان، الصوت المرتفع والهمس المنخفض، المتعدد الألوان والمونوكرومي في مناخه كل هذه الثنائيات وأكثر، تجتمع بعضها حسب الحاجة التشكيلية لصناعة حبكة بصرية، يرويها إبراهيم الحسون، قصصا تصدح بالتجريد ولا تنتهي عنده، فربما الوضوح يصبح اللاحق ومن سمات فنه في مرحلة متقدمة من عمل اللوحة عنده، تحمل خصوصيتها وملامحها وموروثها وثقافتها بكل همومها وآمالها في التغريبة السورية الحديثة.
الفنان لا يسمح أبدا بأن يكون السرد من الملامح الرئيسية لأعماله الفنية، رغم تسربه في أعماله الأخيرة، كقصص لمعاناة البشر، كوضوح الغزالة مثلا فهي مرسومة بإتقان أكاديمي ووضوح كبيرين، وتعطي مفارقة مع المفردات الأخرى المبعثرة بكل تلقائية، والمرسومة بعفوية الطفل اللاجئ في مخيمات الانتظار الأبدي، ولأن عنفوان فرشاة الرسم عنده، ورؤيته العميقة للأشياء، تحدث فواصل التصحيح في مناطق مضيئة تربط كل هذه المتناقضات والأفكار المتباينة وتجمعها في وحدة موضوعية واحدة، بخبرة الفنان، وتحيلنا من المباشر إلى الباطني العميق الذي يحتاج إلى خبرة عميقة في النظر والتلقي لمحتويات تشكيلية معاصرة، فهي ملاذ الأرواح القلقة والعارفة بشكل كاف للفكر التشكيلي المعاصر.
خلطة لا يجيدها إلا العارف بأسرار اللون ومتاهاته، تكوينات أنيقة تنضح بها أعمال الفنان السوري إبراهيم الحسون، توازن المبنى مع خطاب معاصر جدا للغة بصرية رفيعة تقف على أرضية صلبة واثقة بخطابها التشكيلي، عند مشاهدة هذه الأعمال تثيرنا المتاهات وتستفزنا المفارقات، وتسعدنا التدرجات، وتستوقفنا تقاطعات الخطوط والخربشات، وتبـــهرنا الأشكال غير المكتملة لسحب هاربة إلى الشــــمال، وبقع متــــناثرة من بقـــايا دماء صغيرة تثــــير دائـــما وأبدا تساؤلات مشروعة، لا تكف عن الإلحاح في استنطاق الأجوبة التي لا يمـــكن إدراكها أثناء المشاهدة لارتفاع أصواتها بالاستغاثة والشكوى، إلا بعد مضي وقت كاف في التأمل والفرجة، عملية استمتاع بصري لعيون مرهقة جدا وقلوب واهية وأرواح مكلومة.
ينتهى العمل الفني عند كل فنان بطريقتين لا ثالث لهما: الأولى المثابرة والعمل المستمر والجهد الاستثنائي، واستخدام كل الإمكانيات والمهارات التي اكتسبها الفنان من الدراسة والتجارب الســــابقة، ويتحمل هذا العمل الحذف والإضافة والصواب والخطأ.
أما الثاني فهو تكريس كل المكتسبات السابقة في ضربات سريعة خاطفة، بما تعرف بالاقتناص، وهذا ما نجح فيه الفنان إلى حد كبير، بملامسات عوالم الإسباني تابيس، والأمريكي سي تومبلي، ومواطنه وليم دي كونغ، كمرتكز أساسي من مرجعيات التجريدية بفكر راق، استطاع تكريس أسلوبه الفني المتميز بين الفنانين العرب الشباب من الموجة الجديدة بعد التغيرات الكبرى في المنطقة العربية.
أجمل ما في تجربة الفنان أن له القدرة على نسيان كل ما اكتسبه من دراسته الأكاديمية، ليرسم بعفوية الأطفال من ذاكرة صافية غير مخدوشة، تستدعي مواضيعها في مشاهد مدهشة من مخزون صور الحرب وفظاعاتها، بخطوط عفوية تقترب من شخوصها في تعبيرية رائعة، وفضاء العمل ممزق ومتصدع وتتخلله مناطق صافية في بعض الأحيان، فارغة من أي لون كأنها أرضية اللوحة، فهي بمثابة مناطق بينية بين الحرب والسلم بين العنف والمحبة، بين الصمت والنطق، وفي جانب آخر يقترب الفنان من حرفية الفنان الماهر بخفة المتدرب والمطلع على أسرار فن الرسم الأكاديمي، وتوظيفها في مناخاته المبتكرة، التي هي مناخات تجريدية متكونة من مناطق معزولة، منها الصاخبة والممتلئة بالخربشات والتصدعات والضربات السريعة للفرشاة، والبقع المتناثرة ومنها المناطق الصافية المتكونة من لون واحد.
إبراهيم الحسون مواليد 1972 حلب، حاصل على شهادة دبلوم الدراسات العليا للفنون الجميلة قسم التصوير الزيتي من جامعة دمشق 1996 أقام أكثر من عشرين معرضا فرديا، والعديد من المشاركات الجماعية في أنحاء العالم، وحاصل على جوائز محلية ودولية آخرها جائزة البردة الدولية عام 2017. أعماله مقتناة لدى مجموعات خاصة، وموزعة في معظم الدول العربية والأجنبية.
٭ تشكيلي من ليبيا