عرف تفكيرنا المعاصر ثلاثة تصورات كبيرة لأساس المجتمع أو بنيته التحتية، تُفسر بنى المجتمع الأخرى استنادا إليها، فلا تتغير دون تغيرها، وتتشكل حول التفسير والتغيير جماعات سياسية.
التصور الأول ماركسي، وهو ينص على أن أساس المجتمع اقتصادي يتمثل في مركب علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج المادية. بنى المجتمع الأخرى، السياسية والفكرية والقانونية وغيرها، مشتقة بهذا القدر أو ذاك من هذا الأساس المادي أو «البنية التحتية».
والتصور الثاني قريب من سابقه في الميل إلى إرجاع المجتمع إلى أساس غير ظاهر للعيان، هو نمط إنتاج وممارسة السلطة العمومية وجملة هياكلها. بنى المجتمع الأخرى تتحدد بهذا الأساس السياسي وتتشكل به، ويتعذر فهمها دون الانطلاق منه. ورغم أننا لا نجد عرضا نسقيا لهذا لتصور، على نحو ما كنا نجد الأساس الاقتصادي معروضا عند ماركس وملخصات ماركسية، إلا أن أولوية السياسي وأساسيته هي مذهب يمكن استخلاص من أعمال مثقفين ومناضلين «ديمقراطيين»، وربما تمثل أعمال برهان غليون الشكل الأبكر له في سورية.
والأساس، وفق التصور الثالث، هو الثقافة أو «العقل»، وأوضاعنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لا تفهم دون إرجاعها إلى هذه البنية التحتية الخفية. هنا أيضا لا نجد عرضا نسقيا لهذا النهج التفسري، لكن يمكن استخلاصه بسهولة أكبر من أعمال مثقفين وناشطين «علمانيين»، منهم أدونيس الذي رأى مؤخرا أن تغيير المجتمع أهم من تغيير النظام في سورية.
ويمكن لكل من هذه التصورات الثلاثة الأساسية أن تصاغ في صورة اختزالية، لا تبالغ فقط في الفاعلية التحديدية للأساس المقرر، وفي قابلية الظواهر الأخرى، «البنى الفوقية»، للاشتقاق منه، وإنما تنزع إلى اختزال الأساس ذاته في صورة مختصرة، فنتكلم على «نمط الإنتاج الرأسمالي» مثلا دون انشغال بمراحله وأطواره التاريخية، أو بتأثير الأوضاع السياسية وموازين القوى الاجتماعية والدولية عليه. يرتد التصور الاقتصادي للمجتمع على هذا النحو إلى آلية تفسيرية اقتصادوية، تقلل من شأن السياسة والفكر والقانون من جهة، ولا تنكب جديا على فهم بنية وتحولات الاقتصادي ذاته من جهة ثانية.
الاختزالية نفسها يمكن أن نراها في التصور السياسي، رغم افتقاره إلى شكل نسقي أو مذهبي. السياسوية هي إرجاع الظواهر الاجتماعية إلى أساس سياسي، فلا يكاد يبقى لتلك الظواهر قوام خاص بها، أو أن تدرس لذاتها. وفي جذر السياسوية كما في جذر الاقتصادوية حاجات كفاحية. فهذه النظرات الاختزالية تبدو مناسبة للتعبئة وبناء قوى سياسية.
ومثل ذلك بخصوص البنية التحتية الثقافية. الثقافوية هي النهج الاختزالي الذي يقوم على اشتقاق الظواهر الاجتماعية من «الثقافة»، بما يغني عن الحاجة إلى دراسة السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية مثلا، وبما لا يكاد يقول شيئا ذا قيمة عن الثقافة ذاتها، يتجاوز عبارات من نوع أصولية وظلامية وقدامة. هذه العبارات أدوات تعبئة وأسلحة حرب، وليست أدوات معرفة.
نريد أن الأصل في الاختزالية في أي من صيغها الثلاثة، الاقتصادوية والسياسوية والثقافوية، هو حاجات العمل وضغط مطالب تغيير الواقع، وما يقتضيه النضال التغييري من تحول في المنظور من السؤال النظري عن الأسباب والشروط، إلى السؤال العملي عن المسؤولية. بعبارة أخرى، المذاهب الثلاثة ليست مجرد مناهج لشرح العمليات الواقعية، وإنما هي أيضا تشكيلات سياسية عملية.
نظرية البنية التحتية الماركسية هي الإيديولوجية التي تكونت حولها تنظيمات شيوعية، ومنهج المادية التاريخية الذي يشتق البنية الفوقية من الأساس الاقتصادي، هو «العلم» الذي كان يشكل الأساس العقدي للتنظيمات الشيوعية. «المسؤول» هنا هو البرجوازية التابعة أو علاقة التبعية/ الامبريالية. في الأصل، ظهر الفكر الماركسي ذاته، ومنهج المادية التاريخية في إطار صعود حركة الطبقة العاملة ومطالبها التحررية في القرن 19. كذلك ولدت الثقافوية في غمار النضال السياسي، وليس في نطاق «الثقافة». هذا ظاهر في مؤلفات محمد عابد الجابري الباكرة، وهي أعمال مؤسسة في هذا التيار، وكانت محاولة للإجابة على سؤال التعثر العربي. وفي سورية ولد التيار الثقافوي في سياق النضال ضد الإسلاميين، وفي مواجهة تيارات علمانية وإسلامية معارضة للنظام، وهذا وقت كان هؤلاء كلهم يسحقون (ثمانينات القرن العشرين وما بعدها). وهو ما أسبغ على هذا النضال طابعا نخبويا معاديا للعامة والديمقراطية. آباء هذا التيار السوريون. الجماعة لم يقولوا كلمة واحدة، ولو تلميحا، عن مذبحة حماه قبل جيل، أو عن مذبحة تدمر قبلها، أو حتى عن اعتقال يساريين. لهم بالمقابل نصوص «شجاعة» في التهجم على مثقفين وناشطين معارضين للنظام.
«المسؤول» هنا هو الأصولية.
وليس خارج حاجات النضال ولد تصور السياسة كأساس. لدينا سجل يسهل بناؤه وتوضيحه هنا في السياق السوري، هو أحد أوجه سجل الاعتراض السياسي على طغيان النظام الأسدي منذ سبعينات القرن العشرين. السياسوية حركة عملية أيضا. وربما لأن نصيب النضال الفعلي كبير هنا، لم تجر بلورة تصور نسقي لنظرة البنية التحتية السياسية. فخلافا للنظرية الثقافوية في المجتمع والسياسية، وقد كانت الظروف السياسية والمؤسسية مناسبة لها على الدوام (كانت مؤاتية أيضا لنظرية البنية التحتية الاقتصادية، وإن بقدر أقل)، كان أكثر من قد يشتغلون على بناء العقيدة السياسوية في سجون أو مناف.
«المسؤول» هنا هو «الاستبداد».
ما نريده أن لكل من الاقتصادية والسياسوية والثقافوية وجهين: وجه عملي يتمثل في ظهور حركة سياسية واضحة المعالم بهذا القدر أو ذلك، ووجه معرفي يتمثل في تفسير اختزالي للواقع ببنية تحتية: الاقتصاد، الثقافة، السياسة. الاختزالية وليدة تغلب حاجات التعبئة على مطالب المعرفة، لكن هذا التوتر بين المعرفة والسياسة قاد في كل الحالات إلى تدهور التيارات المعنية، فلا هي اليوم قوى سياسية مؤثرة، ولا هي أطر لإنتاج معرفة متجددة.
ما نراه اليوم على ضوء تجارب أكثر من جيلين هو أن نجوع العمل التغييري يدعو، بالأحرى، إلى مقاومة مستمرة للاختزالية، والجمع بين العمل التحرري ومعرفة متغيرة. ولا نتصور أن يتأتى هذا دون توليد مستمر لأدواتنا النظرية أثناء العمل لتغيير الواقع، وإعادة تسديد العمل على ضوء ما نبني ونستصلح من أدوات، ومراجعة العمل والأدوات معا على ضوء القيم التحررية الملهمة لكفاح الجموع. ليس هناك بنيات تحتية ثابتة، لا لزوم لهذا الافتراض، لكن هناك ميادين استراتيجية للعمل التحرري.
وليس «تغيير النظام» أهم هذه الميادين في سورية اليوم لأن «السياسة» تفسر كل شيء آخر، ولكن لأن نمط إنتاجها وممارستها هو مصدر الإعاقة العامة، ومنبع التأبيد واللاتغير.
ياسين الحاج صالح