محمود عبد الغنيلا نقول للناس، بهذه المختارات، اقرؤوا الشاعر عبد الكريم كاصد. ربما بتوجيه هذا الأمر لن يقرؤوه أبدا.بل نقول لهم فقط: تأملوا كلمات هذا الشاعر الذي يعذبه النطق. أنظروا كيف يتأمل النقوش الموجودة في السجادة، بينما آخرون يقلبون السجادة بعنف. لكن قبل ذلك للنظر إلى سيرته، لنعرف، باختصار شديد، أين ولد، وماذا كتب.ولد الشاعر عبد الكريم كاصد في مدينة البصرة. عند ولادته كان اسمه ينتظره. هذا هو اللغز الأهم. والشك حول تناغم الاسم وحامله يعود إلى تلك الشكوك الكلاسيكية التي لا ينفعنا التحديق فيها مطولا. لنتذكر هنا ربط عبد الكبير الخطيبي بين اسمه الذي كان ينتظره وهو يحمل له قدر الكتابة (الخطابة). قراءة عبد الكريم كاصد تفرض قراءة اسمه. وإلا ستكون أيها القارئ مثل أولئك الفلكيين الذين لم ينظروا إلى النجوم قط، حسب تعبير بورخيس. البصرة هي ما جعلت قصيدة كاصد: عاطفة، وحنينا، ومتعة، وواقعا أيضا.من المحتمل أن نقع في خطأ كثير الشيوع، ذاك الذي يربط بتعسف بين الشاعر والطفل. كثيرا ما حصل ذلك مع السياب على الخصوص ، الذي أكثر من الحنين. لكن كاصد ، وبمهارة خاصة، يلعب في خيال القارئ. يشده من ثوبه ويردعه حتى لا يتبع الطفل، ويعود إلى رشده، إلى الصورة كجمال خالص. الطفل هنا يلهو أيضا، بل يمارس أكثر الألعاب التباسا وخطورة: تذويت الطبيعة. كتبت الناقدة فاطمة المحسن عن ديوان ‘ الحقائب’ قائلة بأنه يضم مجموعة قصائد تتنبأ بما حدث لكاصد، و لجيل من العراقيين الهائمين في المنافي. وقتها استقر كاصد في باريس ونسي حقائبه في مستودع المطار. ولم يعد إليها إلا بعد فترة طويلة، بعد أن غطى الغبار الحقائب. آه، تلك الحقائب. العودة العودة إلى الحقائب، يشبه العودة إلى الطفولة، إلى البصرة، إلى الزمن الذي انقضى. ويمكن لكلمة ‘ عودة’ أن تكون مفيدة جدا لنا ونحن نقرأ كاصد. فالإنسان يكون مسلحا بأقوى العواطف وهو يعود إلى ما خلفه وراءه. ولعلنا ، يوما بعد يوم، ندرك أن الأشياء الأولى، ووقائع البداية، هي الحقيقة. وما تلاها فقط تكرار وخداع. فعد إلى حقائبك أيها الشاعر. عد.ـ 2 ـ رغم كل هذه المثابرة، يمر عبد الكريم كاصد مثل النيزك في سماء الشعر العربي. ورغم مجموعاته الشعرية التي طبعت في هذا البلد أو ذاك، ورغم ترجماته التي عرف بها منذ ترجمته للشاعر الفرنسي جاك بريفير، بقي عبد الكريم اسما شعريا تغلفه الظلال. لكن هذه الظلال نفسها هي التي تدل عليه. فهذا القلب الممزق بالمنفى، وهذه اللغة التي تقول كل أنواع الرغبات، تلك العلامات الباهرة الدالة على الحياة، هي التي تقود الضوء إلى الظلال التي تحيط بقصيدة عبد الكريم كاصد. وكل من لم يلج هذه الظلال بعد، عليه أن يفعل منذ الآن، بعد هذه المختارات الشعرية التي خص بها الشاعر ‘ بيت الشعر’ في المغرب، ليقرأ اللغة وهي في أرفع الاستعمالات، وليرى الصورة الشعرية وهي تفشي السر، وليقف عند الفكرة وهي تجتنب غلاء كلفة المجاز. وأخيرا ليدرك بالملموس ما معنى أن يتموضع الشاعر في المكان المناسب ليرصد العالم الذي يخوض فيه الإنسان تجربته الغامضة. عبد الكريم يفعل ذلك، وباقتدار. لكن، منذ متى و النيزك يمر مسرعا ويترك آثارا مثل هذه؟ هل تجربته في الترجمة، التي هي حياة على تخوم اللغات، هي من كان وراء ذلك؟ هل بلده العراق، الذي خلفه وراءه يحترق، ويموت وينهض مثل طروادة، هو من سرب إليه مهارة اللغة الخائفة والفعالة؟ هل تلك الجسور التي تنقصف أمام ناظره، وقد أثرت فيه بليغا، هي التي جعلت الفكرة ورمزها يلعبان تلك اللعبة اللذيذة؟ هل ثقافة الشاعر، وهي غزيرة، هي من جعل قصيدته تقول وفي نفس الآن ينقصها ما لم يقل؟ كل ذلك مجتمعا جعل من كاصد هذا الشاعر الذي نقرأه اليوم ، في هذه المختارات. هذا الشاعر الذي يخلط التجربة الذاتية، الوقائعية، بكل تقاليد الشعر القوية التي يصعب على الشاعر زعزعتها. تلك التقاليد الصارمة، التي لم تأسر أجناسا أدبية أخرى كالرواية مثلا. وهي ما يجعل الشاعر يبدو كمن يقف في أسفل الجبل، خائفا من خطوة الصعود الأولى. إننا على الرغم من كل الأعمال الشعرية المتراكمة لم نعرف ولم نفهم بعد ما هي القصيدة. وهي ما تزال كما كانت بالنسبة للشعراء الأوائلـ 3 ـالقصيدة ، في تجربة كاصد، هي ما يكتبه الشاعر حين تغادره يده وهو نائم.إنه شاعر شديد الشبه بذلك الشخص الذي يذهب إلى سوق الأشياء المستعملة ويختار أجمل ما تداولته الأيدي، ثم يعود به إلى بيته، ويضعه في زاوية من البيت تليق به، فيظهر وكأنه صنع هذا الصباح. إنه شاعر يميزه نوع من العتاقة الملفتة. ولعل ما قاله سعدي يوسف عنه يدل على ذلك: ‘ إننا نتذوق في شعر عبد الكريم كاصد أحياناً ذلك الطعم النادر للنبيذ العتيق’. وهذه العتاقة لم تخرج عن إطار الشعر، فقد تشرب كاصد منذ بداياته من عوالم شعراء العالم، قديما وحديثا. ـ 4 ـ جزء مهم من شعر الشاعر عبد الكريم كاصد مضى كغيره، بلا سميع ولا سامع. فالإعلام لعب لعبته الخبيثة مع هذا الشاعر الذكي، الموهوب والقادر. غير أن عبد الكريم مرتاح في هامشه. وقصائده، التي لا تجلس باكية، تزداد قوة وذكاء وقدرة، مثل شاعرها، الذي امتهن الوشاية بأحلامه إلى عقله الباطن، كما كتب في إحدى قصائده. والحقيقة أن عبد الكريم لم يرسم يوماً صورة للشاعر إلا وكان فيها مهزوما، مخطئا ومنفيا. لا يملك حقلا، ولا حلبة، ولا بندقية صيد ليمارس هواية قتل الاشباح، إضافة إلى المرض المستديم: قصر النظر. يقول عبد الكريم كاصد أن كثيرا من الأشياء من الداخل يمكن أن تصل إلى الخارج، وكثيرا من الأشياء من الخارج يمكن أن تصل إلى الداخل. وهنا نعثر على وجهين من وجوه الحقيقة. وجه الداخل ووجه الخارج. ولا مكان هنا لأية جدلية. فللداخل حياته وللخارج حياته. وكل وجه هو الحقيقة (أو هو الحقيقي) في إبعاد تام للفظة ‘ الزائف’. وعيون عبد الكريم المجهدة تراقب كل ذلك بلا ضيق ولا تعب ولا شكوى، لأن الشاعر جاور حقول ‘ جاك بريفير’ و’ سان جون بيرس’ و’ يانيس ريتسوس’ من خلال الترجمة، أو من خلال مجاراتهم في الحلبة.هذا الشاعر نظرته مصوبة جيدا على إخائه، أو بعبارة أصح على صوابه الفائت.ـ 5 ـلكن علينا التساؤل عن الهامش الذي أتت منه هذه القصائد. الهامش الذي لا يحدث لأي شاعر وإن يكن في معمعانه. الهامش مكان الشاعر المفضل لمراقبة العالم. إن الهوامش هي على الدوام في خدمة الحياة كما تقول ‘ ألفريدة يلينيك’. كما أنها (الهوامش) تقدم كنزا هاما: مراقبة تلك الحياة التي تكون دائما في مكان آخر (ميلان كونديرا). في مكان لا يوجد فيه الكاتب (أ.يلينيك). على كل حال، عبد الكريم كاصد يرى الحياة أفضل من هناك، الهامش.لا يترك الشاعر أثرا لأدواته في قصائده. فهو شاعر لا يخطو خطوة بلا استشارة الطبيب شيخ فيينا ‘ فرويد’ عن الأحلام ورموزها . كما أنه يستشير رفيقه الدائم: السحر والسحرة، كأنه شخص قادم من ظلام الأساطير ليسكن في غابة نفسه حاملا في يده فانوسا، فيصيح ولا يجيبه سوى الصدى. الشاعر كان وسيبقى عابرا لمملكة الموت، وعندما يعود إلى عالم الناس، مودعا المقابر و بواباتها، يجد أمامه سياجا يفصله عنهم (الناس). فيبقى أمام القبور وأزهاره في يده، ويتردد في داخله صوته. للشاعر علاقة خاصة بأمكنته: منازله، شوارعه، ضواحيه، طرقه الطويلة والقصيرة. كل هذه الأماكن تبعد مثل النجوم. وعندما يريد العودة إليها تنثره الريح في الطرقات ويلهو به الصبية. وفجيعته تحصل لأن ذاكرته ليست على ما يرام. فهو يشك حتى في كونه كان في تلك الأمكنة. الذاكرة بعثرتها رياح السنين وعواصف المسافة. لذلك تراه يقرفص على العتبات معذبا، حزينا، باكيا، لا تبوح له شفة أو تلوح له يد. وأول مهامه، عندما ينهض، وضع الأزهار على قبر من يحب. إننا أمام شاعر منازله من تراب، أثوابه من تراب، وسدرته من تراب. لكنه لا يترك أثرا في التراب. وعلامته في العالم هي القصيدة. نتبعها فنجد فيها ما لا يمكن أن نجده في مكان آخر. وما نجده لا يعاني من الانحباس، بل يمكن أن ينطلق في أي وقت. في هذه المختارات قصيدة من ‘ الديوان المغربي’ عن عبد الله العروي ‘ إلى عبد الله العروي (إثر قراءة سفره الضخم: مجمل تاريخ المغرب)’ وقصائد أخرى عن محمد شكري، ومحمد زفزاف، ويوسف بن تاشفين، وساحة جامع الفناء، ومدينة طنجة، وسلا، وأمكنة مغربية أخرى أحبها الشاعر أيما حب. فرحلة سعيدة أيها القارئ.ملحوظة: جزء من المقدمة التي خص بها محمود عبد الغني مختارات الشاعر عبد الكريم كاصد التي ستصدر عن منشورات ‘ بيت الشعر’ في المغرب.