تكشف العملية السياسية في العراق يوماً بعد يوم، عن فشل الأحزاب العراقية في أسلوب استخدامها لمعطيات الديمقراطية، للوصول للسلطة، حيث أن أقل ما يمكن أن توصف به، بأنها عملية فاشلة غير منتجة، وقائمة على التنافس الطائفي والعرقي واستخدام السلاح والتزوير في التصويت في الانتخابات، وانقطاع صلتها بالقاعدة الشعبية، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار اتساع رقعة رفض العراقيين الواضح في المشاركة في الانتخابات البرلمانية التي جرت أخيراً.
فعلى الرغم من التفاؤل المفرط الذي رافق وصول قيادة عراقية جديدة، للبدء في تشكيل حكومة تكنوقراط مستقلة، والإرادة المُعلنة في البدء بتصحيح مسار الدولة الجديدة، من خلال القضاء على الفساد والطائفية، والتبعية للقوى الإقليمية النافذة، إلا أن النتائج المؤسفة المخيبة للآمال الناتجة من مباحثات رئيس الوزراء العراقي مع الأحزاب السياسية لتشكيل الحكومة، والتساؤلات المشروعة عن طبيعة تدخل الأحزاب الحاكمة في اختياراته، وفرض مرشحين معينين لتسلّم حقائب وزارية، يجعل من احتمال حدوث تغيير نوعي في مسار العملية السياسية، عن طريق تشكيل حكومة من خارج الأحزاب السياسية، وعدم الرضوخ لضغوطها، والاعتماد على كفاءات من خارج المنظومة السياسية أمراً مستحيلاً، وهذا ما يعني استمرار أزمة بناء الدولة في غياب تركيبتها الاجتماعية العابرة للطوائف ووضعها الاقتصادي في محاربة الفساد.
وهنا لا بد من الرجوع قليلاً إلى الوراء، والتذكير بأن فكرة بناء الدولة من خلال نخبة «التكنوقراط» التي تعود في بدايتها إلى رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، كانت نتيجة لضغط الشارع المنتفض ضد الفساد، وغياب مؤسسات الدولة المستقلة الراعية لجميع العراقيين، على الرغم من فشل تطبيقها، حيث لم تر هذه الفكرة النور، نتيجة لتشبث الأحزاب النافذة بالحقائب الوزارية الرئيسية، وتبعية العملية السياسية لأجندات الدول المؤثرة في العراق. وبمعزل عمّا إذا سينجح رئيس الوزراء الحالي عادل عبد المهدي أم لا، يبدو أن النظام السياسي العراقي عازم، من خلال تصريحات الطاقم الرئاسي، إلى تصحيح مسار المشهد السياسي والاجتماعي للمرحلة المقبلة، من خلال التأكيد على التزامه في القضاء على الفساد وإقامة علاقات مستقلة مع المحيط الإقليمي والدولي على المستويات السياسية والاقتصادية، وأن هذه الرؤى قد لا تتعدى في مضمونها حزمة من الأمنيات، إذا لم تتم معالجتها جذريا بموضوعية ووطنية، بعيدة عن التدخل الواضح للكتل الطائفية الرئيسية التي تسيطر على المشهد السياسي العراقي، الأمر الذي يجعل من الصعوبة تنفيذ هذه النوايا الرسمية المعلنة من أعلى قمة هرم السلطة التنفيذية، لإعادة العراق إلى حالته الطبيعية، وإبعاده بالتالي عن خطر التقسيم وإرهاب المليشيات وعودة «تنظيم الدولة» الإرهابي، الذي لم ينته بعد. حيث سهلت الطائفية والفساد وطريقة التمييز من خلال حكم العراقيين بمكيالين، وجوده وانتشاره في المناطق السنية.
وما أشبه اليوم بالبارحة، حين طرح رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي رؤيته لعراق ما بعد «تنظيم الدولة»، عندما أبدى رغبته بتصحيح أخطاء النظام الطائفي، بالقضاء على الفساد والطائفية وإنهاء جريمة تقسيم العراقيين إثنياً، في ظل حوار جدي بين جميع المكونات لقيام مصالحة مجتمعية لعراق ما بعد تحرير الموصل، هدفها إعادة الاستقرار وتعويض النازحين المتضررين، من خلال عدم السماح بعودة المظاهر الشاذة التي كانت سائدة في العراق، في مرحلة ما قبل احتلال التنظيم المتطرف للمدن، لكن من المؤسف وعلى الرغم من هذه الرؤى الرسمية المبشرة بالخير، يبدو واضحا ان استمرار حضور الطائفية والقومية بقوة في صراع تشكيل الحكومات العراقية منذ 2003، هو العائق الرئيسي لإصلاح بناء الدولة، حيث ترجمت آليات تشكيل الحكومة الحالية وكسابقاتها، قدرة الائتلافات الرئيسية، العربية بشكلها الطائفي ـ السني الشيعي، والقومي الكردي في تقرير طبيعة الدولة، حيث كان للتكتلات الشيعية النصيب الأوفر في الحصول على أكبر عدد من مقاعد مجلس النواب، وبالتالي استمرار جعل العملية السياسية الوطنية والديمقراطية، رهينة لتشكيل الحكومة الجديدة، ومن ثم إكمال جريمة هدم الدولة الوطنية العراقية، توافقا مع ما يتمناه البعض من الأعداء والأشقاء لبقاء العراق في الخريطة الشرق أوسطية، حيث ترجمت تصريحات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي العلنية في رده عن سؤال يتعلق بمستقبل العراق، في ان «الدولة التي تهدم لن تعود مرة أخرى» عن حقيقة توافقه وانسجامه مع تصريحات «الأشقاء» والأعداء الأخرى غير المعلنة القابعة في الخفاء. من هنا لم يبق أمام العراقيين سوى البدء بإعادة بناء الدولة العراقية لرد اعتبار العراق المغلوب على أمره، من تأثير أعدائه وزيف تنبؤات بعض أشقائه. فالعراق باق بوجود إرادة شعبية تتيح إلى من له الثقافة الوطنية في شرف تمثيله، فثمة إرادة وطنية عراقية شعبية عابرة للطوائف لتعزيز أواصر التعايش السلمي، واحترام مقدساتهم وحصر السلاح بيد الدولة، وعدم رهن إرادة العراقيين بالخارج في ما يخص القضايا والمصالح الوطنية، والعمل بإرادة وطنية وقرار عراقي مستقل، ومحاربة الفساد، وإبعاد مؤسسات ودوائر الدولة عن التدخلات السياسية والمحاصصة، وتحقيق العدالة وتكافؤ الفرص، والاعتماد على العناصر الكفوءة لإدارة العمل باستقلالية ومهنية. لا شك ان التحدي الأكبر الذي سيواجه رئيس الوزراء الجديد، هو بناء دولة المواطنة الحاضنة لكل العراقيين، وعودة النخبة السياسية إلى الانتماء الوطني، بغض النظر عن الولاءات المذهبية والقومية. من هنا تبدو عملية إعادة تصحيح مسار الدولة أكثر تعقيداً وغموضاً، نظرا لاستمرار تأثير الأجندات الخارجية وخطورة أطماعها القومية التاريخية، على الرغم من التطورات الإيجابية الأخيرة للعملية السياسية في العراق من طبيعة العلاقة الأمريكية ـ الإيرانية وقدرتها على التأثير على التدخل الإيراني في العراق والمنطقة، من خلال بدء الحزمة الثانية من العقوبات وأثرها في إعادة ترتيب التحالفات الإقليمية المؤثرة على المشهد السياسي والاجتماعي العراقي من جهة أخرى.
*كاتب عراقي
أعتقد بأن الشعب العراقي أصبح أكثر وعياً بعدما ضحكت عليه ولسنوات عديدة عمائم إيران!! ولا حول ولا قوة الا بالله