تونس ـ «القدس العربي»: تربعت تكرونة القرية الأمازيغية التونسية في أعلى الجبل تراقب بشغف زياتين الساحل التونسي في سهل النفيضة من ولاية سوسة شاهدة على عراقة الإنسان في هذه الأرض المعطاء وعراقة زيتونته التي باتت مصدر خيره باعتبار تنافس البلاد التونسية مع إسبانيا على المرتبة الأولى عالميا في إنتاج وتصدير زيت الزيتون. وتبعد تكرونة 5 كيلومترات عن مدينة النفيضة التابعة لولاية سوسة و100 كيلو متر عن تونس العاصمة باتجاه الجنوب في مكان مرتفع عن سطح البحر كما هو حال عدد من القرى الأمازيغية التونسية التي اختارت الإنعزال والنأي بالنفس عن صراعات الآخرين.
لقد اختار الأمازيغ، ومع تقاطر الفينيقيين ثم الرومان وأخيرا العرب الذين أقبلوا على شمال أفريقيا في هجرات مختلفة بحثا عن الأراضي الخصبة والمراعي غير المتوفرة في جزيرة العرب في عصر ما قبل الثروات النفطية، أن ينعزلوا إما في الكهوف السفلية مثل بلدة مطماطة أو في أعالي الجبال على غرار قرية تكرونة. فظهرت هذه القرى الفريدة من نوعها، أو هذه اللآلئ المتناثرة كما يسميها البعض، في ربوع البلاد، وحفظت الإرث الثقافي والحضاري للأمازيغ في مختلف أنحاء التراب التونسي عبر العصور.
وتروي الأسطورة أن القائد القرطاجي التونسي عبد الملك قرت البرقي (أميلكار) والد القائد القرطاجي حنا بعل (هانيبال) وبعد أن عاد من صقلية وأخمد انتفاضة المرتزقة في تونس، طُلب منه أن يذهب لتوسعة مستعمرات قرطاج في شبه الجزيرة الإيبيرية (إسبانيا والبرتغال) فأخذ معه مشاتل زيتون الساحل التونسي ليقوم بغراستها هناك بحثا عن موارد جديدة لقرطاج من خلال الإستثمار الزراعي في أراض جديدة. ومع الوقت وبفعل زياتين الساحل التونسي المحيطة بقرية تكرونة، والتي تتميز بجودة عالية، تحولت إسبانيا بمرور الزمن إلى بلد منتج ومنافس لتونس في إنتاج زيت الزيتون.
التشبث بالأرض
إن صمود تكرونة بوجه الزمن دليل على تشبث الإنسان الأمازيغي بأرضه وثقافته وحضارته التي لم تستطع الحضارات المتعاقبة على تونس أن تغير منها أو تنهي وجودها تماما. فتكرونة هي متحف قديم للذاكرة بكل ما للكلمة من معنى يختزل كل التاريخ الأمازيغي في ربوع الخضراء، وهو تواجد ضارب في القدم وسابق لكل مكونات التركيبة العرقية التونسية.
ولعل صعوبة التضاريس، وصعوبة الحياة بوجه عام في أعالي الجبل، الذي شيدت تكرونة في قمته شامخة كالنسر في عليائه، يؤكد على مدى صبر وجلد الإنسان الأمازيغي التونسي عبر حقب التاريخ المختلفة. فهو أول من استوطن هذه الربوع وسبق غيره إليها حتى بات البعض يقرن منطقة شمال أفريقيا به في تصرف يراه البعض عنصريا تجاه باقي المكونات الإثنية وعلى رأسها المكون العربي.
فكل بيت في تكرونة هو متحف بحد ذاته يمكن لزائره كتابة أسطر في صفحات التاريخ عن المعمار الأمازيغي في أقصى شمال القارة السمراء ناهيك عن عادات السكان وتقاليدهم الموروثة عن الأسلاف فيما يتعلق بالأكل والملبس وطريقة الحياة بشكل عام. ويقاوم هذا المتحف الأمازيغي ليستمر في قمم الجبال كأعشاش النسور رغم هجرانه من قبل البعض ممن اختاروا النزول من الجبل والاستقرار في المدن والقرى السهلية المجاورة بحثا عن الرفاهية وانخراطا في الحياة العامة.
فحتى القتال في محيط تكرونة بين قوات المحور والحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية، حيث التقى الخصمان في جبهة شمال أفريقية كان مسرحها الأراضي التونسية، لم يدفع سكانها إلى مغادرتها وزاد من تشبثهم بأرضهم. وحتى القصف الذي طالها مرات عديدة أثناء هذه الحرب وأدى إلى تدمير مسجدها والعديد من المنازل لم ينجح في إخلاء القرية من ساكنتها بشكل كامل واقتصر الأمر على قلة قليلة قررت النزول.
كما لم يستطع الاستعمار الفرنسي الذي اعتمد سياسة استيطانية في احتلاله للبلاد التونسية أن يدفع سكان تكرونة إلى مغادرة قريتهم والاستقرار خارجها ولا نجح العثمانيون بدورهم في ذلك. ولا أغراهم قبل ذلك العرب القادمون في هجرات مختلفة من جزيرة العرب بالإنخراط معهم والذوبان في كيانهم الذي ذابت فيه أقوام عديدة مشرقا ومغربا.
الحفاظ على الأصالة
وقد اختلفت الروايات حول أصول سكان تكرونة، فهناك من يؤكد على أنهم وجدوا على هذه الأرض منذ الأزمنة الغابرة ولا يعرف لهم مكان غيره وتعاقبت عليهم جميع الحضارات التي عرفتها تونس من القرطاجيين والرومان والبيزنطيين والأمويين والعباسيين والأغالبة والفاطميين والصنهاجيين الذين أنهى دولتهم غزو بني هلال وبني سليم، وصولا إلى الحفصيين والعثمانيين. ولم يهتموا لسقوط قرطاج ولا هم «ترومنوا» (دخلوا في حضارة الرومان) مع سيطرة روما على شمال أفريقيا، ولا فاجأهم استقلال بني جلدتهم من بني الأغلب عن الخلافة العباسية زمن هارون الرشيد، ولم يعن لهم شيئا تركز الدولة الفاطمية في المهدية غير بعيد عن قريتهم، ولا هجرة الفاطميين من تونس إلى مصر وتأسيسهم للقاهرة ثم إرسالهم لبني هلال لينتقموا من الصنهاجيين الذين استقلوا بحكم القيروان عن الخلافة الفاطمية، كما لا يعتقد أن الصراع العثماني الإسباني في المتوسط والذي انتهى بسيطرة العثمانيين على أغلب ربوع شمال أفريقيا، قد لفت انتباههم.
لقد كان لهم عالمهم الخاص بهم وعاداتهم وتقاليدهم التي تغنيهم على من سواهم شأنهم شأن سكان الكثير من القرى الأمازيغية المتناثرة في ربوع البلاد التونسية التي اعتنقت الإسلام لكنها حافظت على أصالتها بوجه الزمن ومتغيراته وتقلباته المتلاحقة. فلم يرغبوا كثيرا في مخالطة الآخرين خاصة وأن من بينهم غزاة مثل الرومان والبيزنطيين والعثمانيين تعاملوا بصلف وكبرياء مع سكان البلاد خلال حقب من الوهن عرفها التونسيون في تاريخهم وكانت تأتي لاحقة لفترات العز والمجد كتلك التي عرفوها مع القرطاجيين وغيرهم.
ويرى البعض أن سكان تكرونة ينحدرون من قبيلة أمازيغية تحمل نفس الإسم هاجرت إلى الأندلس بعد خضوعها للإمبراطورية الإسلامية واستقرت قرب مدينة مالاغا أو المملكة التي أسسها القرطاجيون في شبه الجزيرة الإيبيرية خلال القرن الرابع قبل الميلاد شأنها شأن مدينة قرطاجنة الإسبانية أو كارتاخينا كما تلفظ بالإسبانية، وكذا مدينة برشلونة المنسوبة إلى عائلة بركا التي ينتمي إليها القائد القرطاجي الشهير هنيبعل. ومع سقوط الأندلس مجددا بيد الإسبان تم طرد المسلمين بداية من القرن السادس عشر للميلاد فهاجر هؤلاء تحت القمع والتعذيب ومحاكم التفتيش، التي فرضها ملكا قشتالة والأراغون، إلى شمال أفريقيا ومن بين هؤلاء قبيلة تكرونة التي استوطنت ذلك الجبل وسط سهول ولاية سوسة.
وفي كل الأحوال تبدو الرواية الأولى هي الأصح وهي تجذر هؤلاء في أرضهم منذ القديم وعدم مغادرتهم لها باعتبار أن عادات وتقاليد أهل تكرونة هي أمازيغية صرفة لا تبدو عليها التأثيرات الأندلسية التي تبدو على القرى الأندلسية التونسية مثل تستور ومجاز الباب وسليمان وغار الملح وقلعة الأندلس وغيرها. وبالتالي فمن المستبعد بالنسبة إلى الكثيرين أن تكون الرواية الثانية واقعية، وكل ما في الأمر هو وجود قرية أخرى في إسبانيا تحمل نفس الإسم وهو ما جعل الأمر يلتبس في أذهان البعض ويتم الحديث عن هجرة وهجرة معاكسة.
طراز معماري متميز
لقد تم تشييد مباني تكرونة بالحجارة الجبلية على الطريقة الأمازيغية حيث الغرف ذات السقف النصف دائري التي تحيط بفناء في شكل ساحة صغيرة، وانعكس ضيق المساحة التي بنيت عليها تكرونة في أعلى الجبل على المنازل فتم إنشاؤها ضيقة حتى يتسع المكان إلى الجميع. فكأن البناة الأوائل كان ينتابهم شعور بوجود خطر داهم دفعهم إلى التزاحم والتراص والحرص على حماية الجميع داخل تلك القلعة الحصينة استعدادا للتصدي إلى الغزاة الذين قد يأتون من أي اتجاه باعتبار أن القرية تشرف على جميع الاتجاهات وكأنها جزيرة مرتفعة وسط السهول المنبسطة يمكن من خلالها رؤية القادمين من مسافات بعيدة في الأفق المترامي.
وقد أصبحت الكثير من منازل تكرونة مهجورة اليوم بعد أن تغير نسق الحياة وانتهى عصر المرابطة في الحصون وأصبح الكل يعيش في ظل دولة عصرية يشارك فيها الجميع. وأصبح بعض أبناء تكرونة يفضلون شراء البيوت في المدن الكبرى على البقاء وترميم منازل الأجداد في ظل صعوبة إيصال مواد البناء إلى عش النسور في أعالي الجبال. فالشاحنات والحافلات المحملة بمواد البناء لا يمكنها الصعود إلى الأعلى وبالتالي لسائل أن يتساءل كيف بنيت تلك البيوت في الماضي من دون رافعات آلية متطورة وبالوسائل البدائية؟
وجهة واعدة
ورغم الإهمال الذي تعاني منه فإن تكرونة تستقطب سياحا تونسيين وأجانب من الأوروبيين للإطلاع على المخزون الثقافي والحضاري للقرية ولزيارة معالمها على غرار مقام الولي الصالح سيدي عبد القادر. وأيضا لنيل نصيب من كرم ضيافة أهل تكرونة الذين يقدمون لضيفهم خبزا ساخنا ولذيذا صنع لتوه في الأفران التقليدية وزيت الزيتون التونسي الرفيع ذو الجودة العالية. كما يمكن تناول الأكلات التي تطبخ من مؤونة الحبوب السنوية على غرار الكسكسي والمحمصة إذا رغب أحد سكان القرية في المضي قدما في إكرام ضيفه.
لكن زائر تكرونة هو زائر غير مقيم لأن الدولة التونسية لم تفكر جديا في جعلها قبلة سياحية ببناء أماكن للإيواء رغم قربها من مدن سياحية هامة مثل الحمامات وسوسة والمنستير والمهدية. كما لم تفكر الدولة جديا في صيانتها والمحافظة عليها وهو ما جعل المستثمرين الخواص يولونها أهمية من خلال اقتناء بعض البيوت لترميمها وإعادة استغلالها سياحيا بغاية الربح.
وللإشارة فإن تكرونة تستقطب مخرجي الأعمال الفنية للسينما والتلفزيونات حيث تم فيها تصوير أفلام ومسلسلات ووثائقيات عديدة لما في أزقتها وبيوتها من طابع معماري خاص واستثنائي يميزها عن غيرها. وبالتالي كان على الدولة أن تفكر في تطويرها وجعلها قبلة السينمائيين من مختلف أنحاء العالم من خلال العناية بمسالكها وطلاء جدران بيوتها ومبانيها وتجميل أزقتها وتوفير أماكن للمبيت والإقامة بالنسبة لفرق العمل.
وللإشارة فقد أنجبت تكرونة عديد المشاهير منهم المناضل والسياسي التونسي، وزير الداخلية زمن الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة إدريس قيقة الذي كان أول من أبلغ ملك البلاد محمد الأمين بإلغاء تونس للنظام الملكي سنة 1957 وإعلان الجمهورية بقرار من المجلس التأسيسي الذين كان يسيطر عليه الوزير الأكبر الحبيب بورقيبة ورفاقه في الحزب الحر الدستوري. كما أنجبت ومن العائلة ذاتها، الأديب التونسي الطاهر قيقة الذي قال عن قريته متغنيا «تكرونة هي الجبل، هي الرّيف، هي الجامع والزّاوية والمقبرة والصّخور المتناثرة بين المنازل، يعُرف أهل القرية بالشدّة والصّلابة اللتين جبلوا عليهما مع الأنفة وعزّة النّفس والشّموخ.. تكرونة هي المنبت».