تلقي آداب ما بعد الاستعمار ومداخل دراسته

عندما يقرأ سكان الشعوب أدبا مقاوما للاستعمار، بلغة المستعمر نفسها، أو يشاهده ممسرحا أو متلفزا، أو يستمع إليه إذاعة، فإن الرهبة تزول من نفسه إزاء المستعمر السامي المتعالي، ما ينزع القيمة عن المعيار الاستعماري، ويضعها في إطارها المحلي، وهو ما يؤدي في النهاية إلى إزاحة المركزية المهيمنة لفكرة المعيار ذاتها.

إن استخدام لغة المستعمر أدبيا، وإعادة تدوير وتحوير مفرداتها، وتكوين شيفرات جديدة لها، وتقديم كل ذلك إلى القارئ الغربي أو المحلي، الذي يعرف اللغة الأجنبية؛ يؤدي في النهاية إلى إدراك الفروقات بين الدلالات، وكثير ما تكون مفارقات ساخرة، وبعض المفردات تحمل معاني مزدوجة، ما يثري النصوص. كما أن هذه النصوص أوجدت تعبيرات من ثقافاتها الشفاهية أو المحلية أو القومية، كما استخدمت تقنيات بلاغية ومقولات سياسية جديدة، وصاغت مصطلحات ذات حمولة دلالية مختلفة، أي أنها أضافت إلى الإنكليزية من موروثها الشفاهي، بما جعل الإنكليزية أكثر ثراء في مصطلحاتها، وصارت نصوصا تفيض بما هو مختلف عن دلالات لغة المستعمر الأصلية، بما يمكن تسميته المقاومة باللغة.  وقد تم وضع مداخل نقدية تستجيب لما تطرحه النصوص الإبداعية لآداب ما بعد الاستعمار، وقد حصرها مؤلفو كتاب “الإمبراطورية ترد بالكتابة ” في أربعة مداخل أساسية:

– المدخل القومي أو الإقليمي: الذي يسلط الضوء على سمات محددة لثقافة قومية أو إقليمية معينة. وتلك تنظر إلى أن النصوص بوصفها معبرة عن الثقافة القومية، على مستوى اللغة والعادات والتقاليد والروابط المشتركة، التي تجمع شعبا في إطار قومية واحدة، ناطقة بلسان واحد، على قدر كبير من التجانس الثقافي.

– المدخل العرقي: الذي يرصد سمات معينة تشترك فيها آداب قومية متنوعة، كما هو الحال في الميراث العرقي المشترك في آداب الأفارقة، وهو المدخل المسمى “الكتابة السوداء”. وهنا نلاحظ أن هذا اللون من الكتابة جاء صدى ورد فعل لكتابة معادية تتمثل في الكتابة التي تعلي الجنس الأبيض، وتنتصر لثقافته، وتحتقر الأعراق الملونة. فالمصطلح هنا يكرس لمعارضة هذا الاستعلاء اللاإنساني، وهو يجمع في طياته أشكالا أدبية عدة (شعر، وسرد، ودراما، وبحوث)، مثلما يعبر عن العرق الأسود، الذي هو متنوع في قومياته ومكوناته الثقافية أيضا.

– المدخل المقارن: الذي يسعى لدرس خصائص لغوية وتاريخية وثقافية معينة يشترك فيها أدبان أو أكثر من آداب ما بعد الاستعمار. وهو نابع من الآداب المقارنة، التي تناقش ظواهر لغوية أو ثقافية أو أدبية داخل جنس أدبي واحد، عبر لغتين مختلفتين أو بلغة واحدة، مع اختلاف التوجهات، كأن يناقش صورة المستعمر المقدمة في الروايات الإنكليزية في حقبة الاستعمار مع مثيلاتها في حقبة ما بعد الاستعمار، أو مناقشة استخدام اللغة جماليا بين أدباء المهجر والأدباء الأصليين.

– مدخل مقارن ولكنه أكثر شمولية، إذ يؤكد خصائص من قبيل الهجنة والتوفيقية بوصفهما من الخصائص المكونة لكل آداب ما بعد الاستعمار.

أداب ما بعد الاستعمار تعكس بصورة مباشرة الواقع الاجتماعي، بكل تقاطعاته الثقافية والنفسية والدينية والاجتماعية

ويمكن الجمع بين هذه المداخل أو بين بعضها أو الاكتفاء بواحد. كما يمكن تحليل النص الأدبي أو عدة نصوص لأديب واحد ضمن المناهج الشكلانية الأدبية: البنيوية والسرد، والتأويل، والسيموطيقا، بجانب النقد الثقافي والاجتماعي والنفسي. فالقضية هي كيف يكون المنهج كاشفا للنص، مجليا ما فيه من إشارات وشيفرات؟ خاصة النصوص المعبرة عن حياة الشعوب المهمشة، المجهولة للقارئ الغربي والشرقي، على السواء، تلك الشعوب التي مات تاريخها، وخمد ذكرها، بسبب آفتين: آفة الاحتلال الأجنبي في الماضي، ونظرته إلى هؤلاء على أنهم ليسوا بشرا أو هم يعيشون في حياة بدائية لا تستحق أن يهتم بها كثيرا الرجل الأبيض المتحضر، مثلما رأينا تعامل المحتل الأجنبي مع الهنود الحمر في أمريكا الشمالية أو السكان الأصليين في أستراليا وأمريكا الجنوبية. والآفة الثانية تأخر هذه الشعوب وسقوطها بعد الاستقلال تحت براثن حكم متسلط فاسد، على نحو ما نجد في البلدان الإفريقية، التي تنازع فيها العسكر الحكم وتسابقوا على الانقلابات، وأثقلوا البلاد بالديون، وتسببوا في مجاعات عظيمة وفاقة شديدة.

إن آداب ما بعد الاستعمار خاصة السردية منها، تعكس بصورة مباشرة الواقع الاجتماعي، بكل تقاطعاته الثقافية والنفسية والدينية والاجتماعية، لذا فهو حقل خصب في الدراسات الإنسانية المتعلقة بالهوية، والساعية إلى فهم أكثر لدينامية العلاقة بين أبناء المجتمع في منطقة معينة. فقد أضحت نظرية الهوية ودراساتها تعتني بالنماذج الفردية المقدمة في أشكال السرد المختلفة، بقدر عنايتها بتحليل السلوكيات والأنشطة الجماعية.

وتلك قضية مهمة، لأن الأعمال السردية تتناول دوما شخصية أو عدة شخصيات في منطقة ما من المجتمع، ومن ثم تركز الضوء عليها بوصفها نماذج اجتماعية، تحمل موروثات ثقافية تبدو في حواراتها وحركتها وتفاعلاتها مع الأحداث.

صحيح أن العمل الإبداعي السردي هو نشاط يقوم به الأديب، بشكل فردي، ولكنه يظل في النهاية وثيقة اجتماعية/ ثقافية/ فكرية، تقدم صورة مقربة عن شخصيات أو فئات أو شرائح من المجتمع. وهنا يأتي دور الدراسات النقدية والاجتماعية معا، إذا نظرت بعين فاحصة لكل المنتج السردي، ساعية إلى دراسته من منظور ثقافي اجتماعي، فلاشك أنه سيكمل الدراسات الأخرى المنصبة على دراسة مجموعة من البشر.

وبعبارة أخرى، فإن السرد يركز على ما هو فردي، أما الدراسات العلمية فتركز على ما هو جمعي، من الممكن أن يتلاقيا، ويكملا بعضهما، فيعزز الأدب ما توصلت إليه الدراسة الجماعية، ويعمقها لأنه يغوص في أعماق الشخصيات، ويقدم كيف تفكر وتحلل في ضوء ثقافتها الموروثة. وعلى الجانب الآخر، فإن تحليل الناقد الأدبي المسترشد بالدراسات العلمية الاجتماعية لسلوك جمعي في مجتمع ما، يعطيه صورة أكثر وضوحا عن هذا المجتمع.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية