تلك الليلة البغدادية اللامنسية

حجم الخط
34

نجم الدراجي كتب معلقاً على ما سطرته حول أكل حلوى الحشرات والديدان قائلاً إنه يفضل المطبخ الشرقي، وأضاف أنه كعراقي، لا يستغني عن (السمك المسكوف). هذا النوع من الطعام أنعش ذاكرتي على ليلة بغدادية لا تُنسى، ذقت فيها للمرة الأولى (السمك المسكوف) وكان أشهى طبق من السمك ذقته في حياتي حتى في مطاعم باريس ونيويورك ولندن الفخمة.. وقد ذقته ذات ليلة عراقية لا تنسى، وشكراً لنجم الدراجي الذي ذكرني بها.

ليلة مع الناصري والعزاوي

لم يكن إعجابي بالفن التشكيلي العراقي سراً، وكتبت عنه باستمرار، كما كتبت عن الجمال الفني لأعمال شاهدتها في بغداد.
وذهبت إلى معرض أقامه رافع الناصري للوحاته في إحدى (الغاليريهات) البيروتية أيام كانت بيروت عاصمة للالتقاء الفني مع المبدعين، وأعجبت بإبداعه، وكان الناقد الفنان وضاح فارس نصحني بذلك (وضاح أمه سورية ووالده عراقي، على ما أذكر) ولم أندم لأنني ذهبت، فقد كانت أعمال الراحل رافع الناصري فاتحة إعجابي بالفن العراقي في المجالات كلها. ولعل أفانين كبة أقامت معرضاً في بيروت فاتتني مشاهدته، لأنني كنتُ أقيم معظم الوقت في لندن، كما قد تكون شاركت في معرض الفن العراقي في بيروت.

العزاوي وصديقه الناصري

الجميل في الفنانين العراقيين الذين تعرفت إليهم من زمان أنهم لا يعرفون الغيرة من المبدع الآخر، بل ويروجون لأعماله. وهكذا ذات ليلة، كنت برفقة زوجي في بغداد، اتصل بنا رافع قائلاً إن الفنان ضياء رسم لوحات جديدة، وقلت له هل نستطيع مشاهدتها الليلة في مرسمه لأننا سنعود إلى بيروت غداً؟ وقال: نعم. سنمر بكما إلى «فندق بغداد» ونصطحبكما إلى مرسمه حيث أعماله. ولأن زوجي كان أيضاً من عشاق الإبداع الفني (رغم اهتماماته السياسية) فقد تحمس لذلك، وقال ضاحكاً: معرض فني لضياء العزاوي لنا وحدنا ليلاً وقت العشاء. وذلك رائع.
وأعجبنا بالتطور في لوحاته التي رسمها بعد إقامة في صحراء العراق لسبب ما، ثم غادرنا المرسم. وما كدنا نركب السيارة العتيقة التي جاءا بها لاصطحابنا حتى انهمر المطر.

تحولت السيارة إلى مركب!

لم أكن أدري أن في وسع بغداد أن تسخو بالمطر هكذا، فكأن نهر دجلة طار إلى الغيوم وانهمر.. وتعطلت السيارة القديمة ورفضت أن تتابع السير. وهكذا هبط منها رافع وضياء لدفعها من بركة ماء تجمعت في الشارع بسرعة، وكاد زوجي ينضم إليهما لكنهما رفضا، وقالا إنه ضيفهما، وعرضت المساعدة، وقال رافع ضاحكاً: أنت سيدة ونحن نحترم المرأة ونخدمها، وهكذا (غطسا) في بركة الماء حتى الركبة.. وصرنا نضحك إذ قاما بتسمية أحذيتهما المبتلة «بالمراكب»، وأخيراً هدأ المطر وتركت السيارة، وقررا أنهما لن يعودا بنا إلى الفندق بل إلى مطعم للعشاء.. وهكذا ذقت ليلتها (السمك المسكوف) الذي لم أذق يوماً ما هو أشهى منه.

مطعم خاو على نهر دجلة

وقرر رافع وضياء أن نأكل جميعاً «السمك المسكوف»، ورفضا قائمة الطعام، وقلت لنفسي: لم لا؟ سأجرب طعاماً جديداً، وهي دائماً وجهة نظر زوجي الذي كان يأكل في لندن الأخطبوطات الصغيرة، وفي روما الأصداف الحية بعد أن يعصر عليها الحامض فترتجف ثم يلتهمها.
ويا لبئس حلوى الحشرات والديدان مقارنة بالسمك المسكوف، الذي لم أحاول أصلاً السؤال عن طريقة إعداده، لأنني أعرف أنني لستُ (طباخة جيدة) والكتابة هاجسي، أما الكباب في كردستان العراق الذي ذكره نجم الدراجي، ورز العنبر الجنوبي، فأحب أن أتذوقهما في المطعم ذاته الخاوي على شاطئ دجلة، لكنني أعرف أن شيئاً لا يتكرر، وأعترف بابتعادي بمقدار ألف سنة عن حلوى الديدان والحشرات، كما ذكر نجم الدراجي، وأشمئز من مجرد فكرة التهام ذلك.
كان المرحوم رافع الناصري، سعيد الحظ بزواجه من الأديبة العراقية مي مظفر، التي أصدرت كتاباً عنه، وحملت الوفاء لإبداعه. وفي بيتي لوحات لرافع الناصري أهداني معظمها وأجملها، ترسم بأسلوبه الخاص سهراتنا في المقبرة، وتلك حكاية أخرى.

الرفاق والمقبرة

ذات ليلة، سهرت ورافع والفنان وضاح فارس في حي الزيتونة وملاهيه لأكتب لهم تحقيقاً حول ذلك لمجلة «الحوادث» (لم تعد تصدر)، ثم غادرنا الملهى وبعدها غادرنا حي الزيتونة، حيث ملاهي ما قبل الحرب، ومشينا على شاطئ البحر في اتجاه الروشة حين شاهدنا باباً حديدياً عتيقاً ودفعه وضاح فانفتح ودخلنا، رافع ووضاح وأنا، فوجدنا أنفسنا في مقبرة (لم تعد موجودة بعد الحرب اللبنانية) ودخلناها وتسكعنا بين القبور، وهذه الزيارات الليلية إلى المقبرة أوحت للفنان رافع بعدة لوحات أهداني بعضها، وما تزال بحوزتي، واحترق بعضها الآخر في مكتبتي أيام الحرب اللبنانية. وأدمنت السهر في المقبرة، فقد كان عالمي العربي في نظري قد تحول إلى مقبرة بعد هزيمتنا أمام إسرائيل في 5 حزيران (يونيو). كما أوحت لي بقصة قصيرة بعنوان «الرفاق والمقبرة» نشرتها في كتابي «ليل الغرباء».

ذكريات تلغي بعض الأحزان الحالية

لكنني سأظل دائماً أتذكر تلك السهرة العراقية التي بدأت باكتشاف أعمال فنية جديدة لفنان كبير هو ضياء العزاوي، وما هو أجمل منها انعدام مشاعر الغيرة بين المبدعين العراقيين، وحماسة رافع لأعمال ضياء. وأتساءل أحياناً، ترى هل أقيم في بيروت معرض للفنانة أفانين كبة، وكنت أعيش يومها في لندن؟! وهل عرضت بعض أعمالها في معرض للفن العراقي! كانت تلك المعارض كثيرة في بيروت، عاصمة الإبداع العربي قبل الحرب؟ ذكرى تلك الليلة البغدادية التي بدأت باكتشاف الإبداع لضياء ثم صارت ليلة مبتلة بالمطر، وانتهت أجمل نهاية في اكتشاف «السمك المسكوف» في مطعم عراقي مرمي على شاطئ دجلة، تلك الذكريات تجعلنا اليوم ننسى وباء كورونا وحرائق الغابات والحروب الآتية ربما بعد استيلاء «طالبان» على الحكم.
الزمن يمر ومعه كل يوم أحزانه الجديدة، ولكننا نتذكر ما كان كأننا نحتمي بالذكريات، حتى ولو كان سهرة في مقبرة بعد أن كانت بيروت مثلاً تتحول إلى مقبرة للأحلام القديمة عن مدينة كانت عاصمة الفن والمعارض الفنية والندوات، وصارت تعيش في الظلام بلا كهرباء ولا ماء ولا قارورة غاز للمطبخ ولا صفيحة بانزين للسيارة.. مدينة كانت عاصمة للتعارف مع الفن العربي الإبداعي وصارت نموذجاً للانهيار والأحزان والفقر، حتى صرنا نحتمي بذكرياتنا في بغداد وسواها، من واقع لبنان الذي كان عاصمة للفن العربي من كل مكان، وصار عاصمة للأحزان!

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    دلت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم على وجوب احترام الموتى من المسلمين وعدم إيذائهم، ولا شك أن المرور عليها بالسيارات والتركترات والمواشي وإلقاء القمامات عليها كل ذلك من الاستهانة بها وعدم احترامها، وكل ذلك منكر ومعصية لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وظلمٌ للأموات واعتداءٌ عليهم، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي والتحذير عما هو أقل من هذا، كالجلوس على القبر أو الاتكاء عليه ونحوه، فقال عليه الصلاة والسلام: “لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها” (رواه مسلم في صحيحه)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر” (أخرجه مسلم أيضاً)، وعن عمرو بن حزم قال رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً على قبر فقال: “لا تؤذ صاحب هذا القبر أو لا تؤذه” (رواه الإمام أحمد).
    – من النت –

  2. يقول الكروي داود النرويج:

    زيارة القبور سنة أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم وفعلها ، فعن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا) رواه مسلم ، وفي لفظ عند الترمذي (1054) : (فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ) .
    قال ابن عبد البر رحمه الله : ” في هذا الحديث من الفقه : إباحة الخروج إلى المقابر وزيارة القبور وهذا أمر مجتمع عليه للرجال ، ومختلف فيه للنساء وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هجرا فإنها تذكر الآخرة)” انتهى من “التمهيد” (20/239) .
    وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلى البقيع فيقول : ( السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ، وَأَتَاكُمْ مَا تُوعَدُونَ ، غَدًا مُؤَجَّلُونَ ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَهْلِ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ) رواه مسلم (974) .
    – من النت –

  3. يقول الكروي داود النرويج:

    زيارة القبور سنة مؤكدة من فعل النبي وقوله عليه الصلاة والسلام؛ لما فيها من التذكير بالموت، والتذكير بالآخرة، والسنة أن يزورها المؤمن بخشوع ورغبة في الآخرة، وقصد للاعتبار والذكر، ورحمة الأموات والدعاء لهم؛ لقوله ﷺ: زوروا القبور؛ فإنها تذكركم الآخرة خرجه مسلم في صحيحه: زوروا القبور، فإنها تذكركم الآخرة وكان النبي عليه الصلاة والسلام يزورها بين وقت وآخر في الليل والنهار يزورها ويسلم عليهم عليه الصلاة والسلام ويدعو لهم، ويقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، يغفر الله لنا ولكم كان هذا من فعله عليه الصلاة والسلام، فالمؤمن يسن له أن يزورها؛ لفعل النبي ﷺ ولقوله، قوله: زوروا القبور، فإنها تذكركم الآخرة والمقصود من الزيارة الدعاء لهم الدعاء للميتين بالمغفرة والرحمة وذكر الآخرة، وذكر الموت، والتأهب لذلك، هذا المقصود.
    – من النت –

  4. يقول الكروي داود النرويج:

    يشترط لجواز زيارة القبور للنساء عدة شروط وضواط يجب الالتزام بها، منها ما يأتي: أن تقصد من زيارتها وجه الله -تعالى-، والاعتبار والتذكرة بالموت. أن تلتزم السكينة والوقار في المقبرة، من غير نواح أو ندب أو أن تجهش في البكاء وترفع صوتها عند القبور. ألّا تختلط بالرجال بأي حال من الأحوال. أن تلبس لباساً ساتراً محتشماً متواضعاً، غير متبرجة أو متزينة أو متعطرة. إن كانت المقبرة مهجورة أو بعيدة عن سكن الناس، يجب ألا تزورها لوحدها بل أن يكون هناك من يرافقها أحد من المحارم.
    – من النت –

    1. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا Ossama Kulliah:

      أخي الكروي الأمر لايحناج كل هذا! فنساء قريتنا كن يزرن المقابر دومًا لوضع الرياحين وقراءة الفاتحة على قبور الأموات وكل شيء يمر بشكل طبيعي. فلماذا نجعل الموضوع بهذا الشكل وكأنما زيارة المرأة للمقبرة هي قضية من قضايا العصر!

  5. يقول أسم مستعار لبغدادي أصيل:

    وهل كانت العنبة موجودة في أكلة السمك المسگوف؟
    والعنبة هي المانجو الهندي المخلل ولابد منها في كل أكلة سمك!

  6. يقول نجم الدراجي - العراق:

    تمتلك الايقونة غادة السمان ذاكرة حية تسافر بها إلى كل بقاع العالم ، فهي سيدة أدب الرحلات ، والتصقت مدينة بغداد بذاكرة الاديبة غادة السمان وسكنت في اعماقها ، وقد سجلت تفاصيل دقيقة وثرية عن بغداد ، وجمعتها صداقات مع فنانين وأدباء عراقيين ، وكذلك سجلت ذاكرتها اماكن لامنسية لبغداد …
    ومن الاماكن التي حظيت بالتدوين فندق بغداد ، ومطعم فوانيس القديم الذي يعود لعائلة بغدادية ثرية ، ونادي الصيد العائلي في المنصور ، والمتحف العراقي ، ومدينة الالعاب ، وسوق بغدادي قديم في محلة قديمة جدا اسمها ( التوراة ) يشبه سوق الحميدية في دمشق ، وكذلك حضورها لمعرض الفن التشكيلي الدولي ( بينال ) قبل افتتاحه ، وكان لها السبق بزيارته حتى قالت : يا ويلي هذه وليمة لي انا فقط …
    من طرفي دائما اجلس متأملاً امام فندق بغداد الذي سكنته الايقونة ، ومازال شامخاً بهياً ، ويطيب لي أكل السمك المسكوف في المطعم الذي يقع بالقرب من الفندق .. وفيه اتذكر الايقونة
    كم يسرني ان تزور الاستاذة غادة السمان بغداد لتتبغدد من جديد ولتسمع كلمة تعشقها وهي ( تدَلّلي ) وسأكون ( تحت امرها وتدّلَلي ) . وأتخيل بغداد كم هي سعيدة في هذه الليلة الاستثنائية مع ذاكرة النبيلة غادة السمان .
    تحياتي
    نجم الدراجي – بغداد

    1. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

      أخي نجم الدراجي حببتنتا كثيرًا بزيارتكم وزيارة بغداد فهل نحن مدعوون!
      هههه شكرًا لك ولكرمكم طبعًا وأعرف أنه زائد ودائم أدام عليكم الصحة، لكن حبيت أدخل بهذه الدعابة!

    2. يقول نجم الدراجي - العراق:

      الاخ العزيز أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا : بغداد موطن كل العرب وعموم الانسانية .. اهلا وسهلا وحياك الله ، واعدك بانك سوف (تتبغدد ) فبغداد لاتختلف عن دمشق او اللاذقية او حلب او بيروت .. تلك المدن لا تشعرك بالغربة .. اتمنى لك زيارة إلى بغداد ونتشرفك باطلالتك .
      تحياتي
      نجم الدراجي

    3. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

      والله أتمنى ياأخي نجم وكم أتمنى أن نجتمع ذات يوم في بغداد أو بيروت أو دمشق مع كاتبتنا وصاحبة هذا البيت الدافئ على رأي أخي سوري أو خان بنت السمان كما قال المرحوم رؤوف بدران أن نجتمع معًا كما أقترح الأخ أثير الشيخلي على رأي الأخت منى المقراوي وطبعًا جميع الأصدقاء، كم نحن بعيدين عن هذه الأحلام. لكني انا أحب الأحلام كثيرًا وأعتقد أن الإنسان يستطيع تحقيق أحلامه (أي مايصبو إليه) مهما كبرت وهذه هي ستكون بغددتي الحقيقية! لك مني كل التحية والتقدير وأنا دائمًا سأكون مخلصًا لك ولرواد هذا المنتدى ولكم خالص محبتي وتحياتي.

  7. يقول عمرو - سلطنة عمان:

    كتبت من أسابيع مقالا في موقع سناك سوري عن ما خلفته الحرب السورية على البيوت وشهادات من أبناء المدن السورية الذين فقدوا بيوتهم وجاء في المقدمة:

    قيل قديماً :«لا تزر بيتاً مات أهله فالبيوت تموت بموت أصحابها»، والحاضر أبى إلا أن يترك لنا أقسى أنواع الصور حتى بات المرء يعتاد ويألفها ويكاد يصادقها، بيوت تحسب أن الزمان نسيها، بنايات أكلها سواد القذائف والبارود يسرق بياضها، ليالي الحرب تركت بصمات جنون رصاصها على الجدران، منازل تبكي حجارتها من هجرها وأخرى تناجي النازحين “عودوا” وبيوت يفوح منها عبق الياسمين وهو يتسلق جدرانها وخلف بابها “مسن” أحنت السنين ظهره بينما تركه الأحباء وحيداً يصارع ما تبقى من العمر.

    علقت الفنانة التشكيلة المبدعة “أفانين كبة” على المقال قائلة: “أعرف هذا الإحساس المرير ، لقد مررنا بهذه المحنة وخسرنا بيت ذكريات الطفولة وما فيه في بغداد منذ ثلاثة عقود ، ووضعت هذه الأحاسيس في لوحة فنية ، فلا ينفع البكاء على الأطلال”.

    1. يقول عمرو - سلطنة عمان:

      قلت لها: ويبقى الحنين إلى البيت الأول..
      قبل فترة صورت والدتي وهي تضع يدها على باب بيت أهلها المهجور من السبعينات بروزنا الصورة وعلقناها بغرفتها وردت الرسامة العراقية: لم يعد لبيتنا السابق اية اثر او حتى طابوقه ، لذا لم اعد الى العراق منذ اكثر من اربعة عقود.

      هكذا خلدت السيدة” أفانين كبة” بريشتها ذلك البيت الذي لم يعد موجودا على أرض الواقع سوى في مخيلتها وجعلت منه لوحة تتناقلها الأجيال فالإبداع هو الخلود الحقيقي كما خلص جلجامش في رحلته.

      في النهاية اتمنى أن أشاهد إحدى لوحات “أفانين كبة” وهي تزين غلاف كتاب وتعانق كلمات السيدة “غادة السمان”.

    2. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

      بيتنا القديم وقد أخذه أخي الصغير وسكن فيه مع الوالدة وعائلته مازال باقيًا ومازالت ياسمينته صامدة (قسم من أخوتي البنات مازال في سوريا ويزورنه)، لكن أنا لا أجرؤ على العودة إلى القرية ورؤية بيوتها التي تم تدمير بعضها وبقي مابقي وبساتينها التي تنادي لرعايتها وقطف ثمارها وزيتوناتي التي تناديني وأسمع صراخها، وكم أحب أن تعيش هذه الزيتونات إلى الأبد. بكل أسف باأخي عمرو الواقع أكثر مرارة من نصفه بالكلمات.

    3. يقول مراقب:

      أ. عمرو:«لا تزر بيتاً مات أهله فالبيوت تموت بموت أصحابها»اين تقف من ألم تلك العبارة !

  8. يقول أفانين كبة - كندا:

    ليس هنالك من منافس للأستاذ نجم الدراجي في وصف روح بغداد ودجلتها ومسكوفها ، وهو الذي لا يتعب ولا يمٌل من التنقيب عن إرثها وتراثها في زوايا أزقتها وشوارعها وكأنه سومري قديم عادت به الحياة باحثا في جذروه العميقة منذ الآف السنين .
    أشكرك سيدتي أنك تحملي هذا الوفاء الجميل عن ذكرياتك في بغداد ولمن استضافك فيها ، وأتمنى لو أكون قد عاصرت جيل الفنانين الكبار ، رافع الناصري وضياء العزاوي ، فسيكون لي الفخر أن أكون قد شاركت في تلك المعارض الفنية وسيكون لي الشرف الكبير لألتقي بك ياسيدتي ، لكنها كلها أمنيات وأحلام ، فأنا من جيل آخر يفصلني عنهم تقريبا عُقدين من الفارق الزمني ، كذلك كانت تفصلني عنهم المسافة الجغرافية حيث غادرت العراق وأنا في بداية العشرينات من العمر وللأسف انقطعت كل الصلات تماما بيني وبكل ما يتعلق ببغداد وأهلها وأخبار نشاط فنانينها ، ووجدت طريقي الفني في المهجر لمواجهة النسيان وليقربني ويربطني بهواء السنوات التي عشتها في بغداد التي كما وصفتيها ( باللامنسية ) ، فالمهاجر دائما يسعى لحراسة ذكرياته من الزوال .

    أفانين كبة – كندا

  9. يقول سوري:

    أختي الكريمة، ست الشام الحبيبة

    تبقى العراق خزانا هائلا للإبداع ومن يمشي في شوارع بغداد يشعر بأن كل خطوة يخطوها هي فوق ركام حضارات متراكمة من جلجامش إلى العزاوي، ومنير بشير، ونصير شمة، وكل الأسماء التي جعلت من العراق حضارة كبيرة وعميقة ومتشعبة. أجواء بغداد لا نجدها الا في بغداد وخاصة مطاعم المسكوف على ضفاف دجلة. عشت في بغداد في فترة الحصار، وخلال الحرب وبعد الحرب وكنت حزينا جدا جدا عندما كنت أرى فنانين كبارا يبيعون لوحاتهم في فندق الرشيد وفندق المنصور بخمسين دولارا. وقد اقتنيت بعضها ليس للاستفادة من السعر بل لحفظ هذه التحف ومساعدة هؤلاء الفنانين, العراق تبقى جرحا في وجداني كالجرح السوري والجرح اللبناني والجرح الفلسطيني هذا هو محور الأبداع والحضارة والألم
    مع ذكريات العراق لك مني وردة رازقي وللزملاء العراقيين تحية محبة واعجاب

    1. يقول أسامة كلّيَة سوريا/ألمانيا:

      آه ياأخي سوري كتا مهد الحضارات الإنسانية، وأصبحنا اليوم مقبرة الحضارات

    2. يقول نجم الدراجي - العراق:

      صباح معطراً بالياسمين الشامي والرازقي البغدادي لاستاذنا الاعلامي الكبير سوري ولكل الاصدقاء الاعزاء في منبر الايقونة الجميل .. تقبل مودتي واحترامي وتقديري .
      تحياتي
      نجم الدراجي

  10. يقول AR:

    بالفعل ان العراق يمتاز بنضوج مدرسته الفنية التشكيلية، فعليك ان تمر بشارع الرسامين بالكرادة (وهل لا زال موجود؟) لمشاهدة أجيال جديدة من الفنانين تتطور وتطور معها مدرسة العراق الفنية، ناهيك عن اولئكم الراسخون بالفن. اما قولك استاذتنا بأن لبنان صار عاصمة الحزن ففيه تنافس شديد للظفر باللقب. فهناك عاصمة الحزن الأبدية القدس ومثلها بغداد وما قولكم بصنعاء ..حتى القاهرة فيكفي السياقة بالطريق الدائري ومشاهدة حزام الفقر لتبكي حزنا لأمتهان الانسان ولمعرفة كيف صارت المدينة الام زوجة الاب القاسية الغليظة على الابناء

1 2 3

إشترك في قائمتنا البريدية