■ تسلّط رواية «تلّ الورد» للأكاديمية والرواية السورية أسماء معيكل (المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر، بيروت، 2018) الضّوء على المأساة السورية، عقب الحرب الأهلية التي تلت ما سمّي بـ«أحداث الربيع العربيّ»، واستمرت سنوات من الخراب والدّمار، فتعطّلت الحركية المجتمعية، وتحوّلت حالة الساكنة إلى فاجعة إنسانية بكلّ المقاييس، متتبّعة أثر الشّرارة الأولى لهاته الأحداث، ومركزة على حالة السلم والسلام التي كانت تعرفها المنطقة الجميلة المدعوة بـ«تلّ الورد»، على الرغم من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الناس، والتجاوزات الإدارية، بفعل الشطط، وعدم وجود تكافؤ الفرص، وغياب مشروع مجتمعيّ للتنمية المستدامة للنهوض بأحوال المجتمع، وخلق قفزة تنموية، مرورا بالشّرارة الأولى للاحتجاجات التي قامت في «تل الورد» للمطالبة بإسقاط الاستبداد، وتحرير الناس، وتحقيق المساواة، وتقسيم الثروة، وتحسين الأوضاع الاجتماعية والإنسانية، بشكل سلمي، تفاعلا مع ما يجري في المحيط العربي، وكيف تعامل الأمن، في بداية الأمر، مع هذه الاحتجاجات بسلاسة، قبل أن تحتقن الأمور وتنفلت، من خلال إعطاء بعض المسؤولين أوامرهم بالتدخل العنيف لجزر المتظاهرين، وقمع الثورة، وقبل أن تتحول الأمور إلى تمرد وعصيان مدنيين، للمتظاهرين كردّ فعل على العنف المفرط الذي طالهم، وقبل أن تتحوّل الشوارع والسّاحات إلى حرب مفتوحة بين الأمن والمتظاهرين.
تمثل الرّواية شهادة مؤلمة وعميقة عن مأساة الشعب السوري عقب أحداث «الربيع العربي»، وانعكاساتها على الأفراد، والجماعات، والمؤسسات، وتأثيرها على نفسية الشخوص، والنظام العامّ في البلد.
سرقة الثورة
وبفعل ارتفاع مظاهر العنف ضد المتظاهرين، وارتفاع سقف المطالب، كرد فعل طبعيّ للقمع والزجر، دخلت على الخط، جهات أخرى؛ معززة بالعتاد، والفكر المتطرف، لتشتعل الساحة بحرب حقيقية، عصفت بكل شيء، فبات الموت، والدمار شيئين عاديين في قرية «تل الورد»، وضواحيها، وباتت انتهاكات حرمة المواطنين، وكرامتهم أشياء عادية، تحت ذريعة التفتيش، ومحاربة المتطرفين، والدخلاء، وأعداء الوطن، ومثيري الفتنة. ومع مرور الوقت، باتت النكسة تتفاقم، آتية على الأخضر، واليابس. يقول الرّاوي في «تل الورد»: «ازدادت حدة العنف مع المتظاهرين أثناء المظاهرات، ووصل الأمر إلى موت بعض المعتقلين جرّاء التعذيب في المعتقلات، وفي مقابل هذا العنف وازدياد غطرسة رئيس المخفر مع المتظاهرين وذويهم وبطشه بهم، جاءت واقعة اقتحام المخفر من قبل المتظاهرين وتحطيمه وسلب رئيس المخفر وعناصره أسلحتهم، وطرده من تل الورد».
تمثل الرّواية شهادة مؤلمة وعميقة عن مأساة الشعب السوري عقب أحداث «الربيع العربي»، وانعكاساتها على الأفراد، والجماعات، والمؤسسات، وتأثيرها على نفسية الشخوص، والنظام العامّ في البلد، مشخصة، ببعد تصويريّ حاذق، مستوى تدني الكرامة الإنسانية في البلد، من خلال قرية «تل الورد» الجميلة، ومدى جسامة ما تعرض له المدنيون من انتهاكات جسيمة، ذنبهم الوحيد، في ذلك، مطالبتهم بالحرية وتحسين ظروف عيشهم بشكل سلمي، تمّ استغلاله من قبل المغرضين من أجل تحويله إلى حرب طاحنة، خربت الإنسان والعمران، ودمرت النفوس والبنيان، وعمّرت المقابر والملاجئ، وهجرت الشعب بالملايين إلى أرض غربة قسرية ما اختاروها من تلقاء أنفسهم. وإذا كانت الثورة والحروب تشتتان انتباه الكاتب، كما ذهب إلى ذلك، أيمن العتوم، فإن انتباه الروائية أسماء معيكل في «تل الورد»، ظلّ متماسكا، إلى درجة أنه التقط التفاصيل الدقيقة، وألمّ بكل أوجه معاناة الشعب السوري، ولم يملْ إلى طرف ضد آخر في حرب طاحنة أتت على الأخضر واليابس، ولم يتضامن سوى مع الإنسان في عمقه، ذاك الذي لا يريد من العالم سوى لحظة هناء وسلام. واستنادا إلى ذلك، يمكن إدخال هذه الرواية ضمن صنف السرود المناهضة للعنف والتطرف والحروب، مهما كانت أسبابها، ومهما كانت رهاناتها، لأنها لا تترك خلفها سوى الخراب، ولا يتبقّى بعدها سوى بقايا هياكل آدمية مفرغة من معنوياتها، كيفما كانت نتائج هذه الحروب، لهذه الدواعي، أصبح الأدب العالميّ، في الوقت الراهن، ومنه الرواية طبعا، «منبرًا للتعبير عن آمال وتطلعات ضحايا الحروب الدموية هنا وهناك، مطالبين برفع كابوس الحرب وإزالة القلق من أذهان الشعوب، من خلال نشر الأدب المثالي والموضوعي. وربما بات هذا الرهان يمثل أحد أهم مهام الكتَّاب والمفكرين الملتزمين» بتعبير (مهدي يزداني خُرم).
ومثلما آلت قرية (تل الورد) من لحظة صفاء وتعايش إلى لحظة دمار وخراب، فإنّ الشخصيات طالها الوضع نفسه، وكل ما انعكس على الفضاءات، من آثار هذا الخراب، طاش الكثير منه على النفوس والأفئدة.
مصائر موجعة:
إذا كانت الوضعية البدئية للمحكي؛ قد وضعت شخصيات الرواية في مقام توازن، وحالة طمأنينة، حيث كان (تل الورد) ينعم بالهدوء والسعادة، ويرفل في خيرات السلام والمودة، وتشيع بين أهله المحبة، والاستقرار، والتعاون، وقيم التبادل والإنسانية المثالية، فإن تحبيك النص زلْزل هذه الوضعية، وحوّل بوصلتها مئة درجة على السلم المعكوس، فانعطف السلم إلى حرب، وحالت مظاهر الاستقرار إلى فوضى، وساد الدمار والتذمر، وارتفعت وتيرة الصراع الأيديولوجي، فعميَت الأبصار والبصائر، وحادت عن جادة الصواب، وانفطرت قلوب الساكنة، وهم ينظرون بأعين مذهولة إلى سرعة الانتقال من وضع إلى وضع. يقول الراوي، واصفا حالة الطمأنينة التي كانت تعيشها البلدة قبل أحداث «الربيع العربي»: «عهدت من أصدقائي في حلب وإدلب، حينما يعلمون أنني من تل الورد، قولهم لي: «بل أنت من جنة الورد».
أشعلت أحداث ما يسمى بـ«الربيع العربي» وضعية التحول من حالة سردية متوازنة ومستقرة إلى حالة توتر، وصراع، وعمى أيديولوجي أتى على الأخضر واليابس، وجنى على المكتسب المحلوم به معا. ومثلما آلت قرية (تل الورد) من لحظة صفاء وتعايش إلى لحظة دمار وخراب، فإنّ الشخصيات طالها الوضع نفسه، وكل ما انعكس على الفضاءات، من آثار هذا الخراب، طاش الكثير منه على النفوس والأفئدة، فأحرقها وصيّرها سوادا، وساقها إلى ظلمات الهاوية. وإذا شئنا تشخيص ملامح هذا الانعكاس، والتأثر، جاز لنا أن نصوّرها، وفق المصائر التالية:
أ- الترهيب: مع التحولات المتسارعة التي عرفتها المنطقة العربية إبان أحداث «الربيع العربي»، صار الترويع عنوانا عريضا لحالة بلدة «تل الورد» بسبب هيمنة الصراع الأيديولوجي الأعمى؛ الذي ما عاد يميّز بين الحقّ والباطل، واستوت، في سواد نظرته، كل الأشياء، وبات كلّ الناس أعداء مفترضين حتى تثبت براءتهم من تهم غامضة لم يرتكبوها أبدا إلا على سبيل الظن. ارتفعت وتيرة الظلم، والتطاول باسم حفظ السلطة، والأمن، ومحاربة التطرف من جهة، والسعي لتحرير البلد من جبروت الطغاة، والفاسدين من جهة أخرى، وتمّ الركوب على أحداث جانبية، أشعلتها أطراف مغرضة لضرب أهداف الثورة، وسحب البساط من تحت أرجلها. يقول السارد، واصفا حالة الرعب التي هيمنت على ساكنة تل الورد: «حالة من الترقب والتوجس والذعر تسود تل الورد كلها، الجميع في انتظار الجيش الزاحف إلى القرية، معظم الناس أصيبوا بالهلع، ولاسيما النساء، بعد ما سمعوه من قصص وحكايات عن التخريب الذي يلحق بالقرى والبيوت التي يدخلها الجيش للتفتيش، وعن حالات اغتصاب النساء، وقتل الشباب، فبدأت بعض العوائل تغادر القرية إلى مدينة حلب لائذة ببعض أقاربها هناك». تجاوز الخوف حدّه، وتعايشت معه النفوس، فما عاد هناك شيء يُخاف منه، حتى الموت نفسه صار شيئا منتظرا، وأضحى الناس أمواتا بلا قلوب، وبلا أروح، ينتظرون فقط الإذن بالدفن في المقابر التي باتت جغرافيتها تتسع، فتأتي على ما تبقى من خراب البيوت والعمارة، والحقول، مكرّسة نمطا متزايدا من البشاعة، والقبح والفناء…
ب- الموت: يمثل موضوع «الموت» الفزاعة الرهيبة، والأداة الجهنمية التي أوصلت الوضع الانتقالي في مجتمع النص إلى الباب المسدود: كانت خلاصة القول وبلاغته: كن معي أو أقتلك، لأنك إذا لم تكنْ معي، فأنت مع الآخر، ولا وجود في منطق الحياة السياسية لفئة ثالثة، وعلى هذا الأساس، كانت تتم تصفية الأصوات المختلفة وإيقافها، بل أحيانا، يؤدي أحدهم الثمن باهظا، بدون أن تكون له يد في أي واقعة أو حدث، بل إنه ليس في العير ولا في النفير، ومع ذلك، ولالتباس مقصود، في الغالب، تتمّ تصفيته ببشاعة، وبكل الطرق اللاإنسانية. تحول الموت، بين عشية وضحاها، من قدر يدبره الخالق بأجل مسمى، وكتاب مرقوم، إلى سلاح بشريّ لإسكات المختلف، والصامت، والمحايد، وكلّ من هبّ ودبّ، تحت ذريعة: أن أكونَ أو لا يكون أحدٌ على هذه الأرض.
لقد أتى الموت بمدلوليه: الرمزيّ والماديّ، على ما تحت الأرض، أرض تل الورد، وما فوقها، فرحلَتِ الفضيلةُ، وبات الشرّ يتجوّل ليل – نهار، مخلّفا فراغاتٍ، وأهوالاً، وفوضى تتّسع جغرافيتُها بتوسع دائرة الأطراف المتناحرة.
استنادا إلى الحرب الطاحنة التي تدور رحاها على أرض تل الورد وما دونها من مدن سوريا، باتت لغة الموت والنار اختيارا وحيدا، أمام عجز الساكنة المسالمين، والمدنيين العزّل، الذين لا طاقة لهم على حرب، والذين عهدوا القناعة، والسلم، والسلام في منطقة جميلة لا عهد لها بالصراع والتناحر أبدا، على احتواء الموقف، والتصرف بسرعة لتجنيب بلدتهم الجميلة سُبل الدّك والخراب، وهم لا يملكون غير دموعهم، ومبادئهم السمحة، وأرواحهم النقية الطاهرة، ومحبتهم لبلدهم، وثقافتهم الممتدة في الزمن، انسجاما مع الطبيعة المعطاء، والأرض الخصبة لـ«تل الورد». انتصب الموت حكما بشعا لا يرأف لا يفرق بين الصغير، ولا المرأة، ولا العجزة، آلته الحديد والنار، يعصف بكل ما صادفه أمامه بالصدفة أو بالقصد، فتحولت المروج مقابر بلا أسماء ولا شاهدات، وتعطنت الجثث المجهولة على قارعات الطرق والمماشي، وترمّلت النّسوة، وتيتّم الصّغار، وحُرقت المحاصيل، واستُنزفت الأرض، وقُطع النسل، وعُوّضت العمارة بالخراب، وزحفت المقابر والبشاعة على مواطن الجمال في تل الورد.
وبالموازاة، كانت أرواح المتبقين والمتبقيات من أهالي البلدة، تذبل وتموت، تدريجيا، أمام ما يُقترف في حق القيم، والمجال، والإنسان من فظاعات. يقول الرّاوي، واصفا هذه البشاعة المنتصبة أمامه: «قصدت المقبرة، خلف بستاننا، أبحث عن مكان للقبر، فصعقت، حينما لم أجد البستان، زحفت المقبرة إلى البستان، والتهمته بكامله».
لقد أتى الموت بمدلوليه: الرمزيّ والماديّ، على ما تحت الأرض، أرض تل الورد، وما فوقها، فرحلَتِ الفضيلةُ، وبات الشرّ يتجوّل ليل – نهار، مخلّفا فراغاتٍ، وأهوالاً، وفوضى تتّسع جغرافيتُها بتوسع دائرة الأطراف المتناحرة: تدمرت كلّ حصون الحضارة التي شيدها الإنسان السوريّ عبر قرون طويلة من الزمن، في زمن قصير، تحت هيمنة المصالح المادية، والأنانيات المتضخمة، بعد أن مات الإنسان في الإنسان، وحلّت معه العدوانية المفرطة ضدّ الذات، وضد العالم. يقول السارد مستاءً من الوضعية التي آلت إليها قيمة الإنسان السوري: «لا أحد بإمكانه التنبؤ بالمكان الذي سيموت فيه أو يدفن فيه. قديما، كانوا يعيدون الأشخاص الذين يموتون خارج أوطانهم، أو خارج مدنهم إلى مسقط رأسهم، ليواروا الثرى. أما الآن، وفي هذه الظروف، صار من المتعذر ذلك، والذي يموت، يدفن في المكان الذي يموت فيه، إذا كانت له بقايا جثة، أما من قضوا في التفجيرات، فمعظمهم كانوا يتحولون إلى أشلاء متناثرة، ورماد محترق، بدون أن يتبين أحد هوياتهم. كانت هذه الحال تقلقني كثيرا، وتؤرقني، في كثير من الليالي، لا أريد أن أموت، وأدفن خارج تل الورد، ولا أريد أن أتحول إلى أشلاء متناثرة، كنت أدعو الله دائما، أن يميتني ميتة سوية».
٭ ناقد وروائي من المغرب