تماثيل…

التمثال الأول:

يلون خصلات شعره بالأسود، أتراه يخشى الأبيض؟ يرتدي قبعة غريبة اللون والشكل، أتراه يحاكي كاتبا من الضفة الأخرى؟ يقطع المسافة الفاصلة بين بوابة القاعة والشارع ذهابا وإيابا، وكأنه يخشى رحيل القطار. يحرك غليونا أسود في فمه، يحشوه من حين لآخر ببقايا سجائر منسية على طاولات المقاهي، قبل أن يرتشــف دخانه وينفثه بعيدا، ويضع ساقا فوق أخرى، يراقـــب دوائر الدخان وهي تتراقص في الهواء، يسبح في أحلامه، يلامس السماء بأنامله، ويحلم بأمسية خيالية فوق القمر.

التمثال الثاني:

«أنا الكاتب الكبير» يهمس لنفسه، وهو يتأمل صورته في المرآة الكبيرة، المعلقة في الممر الخارجي، ثم يتأمل الآخرين بتعال، إنهم مجرد متطفلين على الكتابة، كما يصور له خياله الواسع، يتلصص على القاعة من حين لآخر في انتظار دوره، تبرق عيناه حالما يسمع اسمه. يصعد الخشبة بخطوات بطيئة، مثل طاووس يتباهى بريشه الملون، يقف بكل شموخه وراء المنبر، أمام الميكرفون، يأخذ وقته الكافي في تثبيت نظاراته الطبية، يعدل ربطة عنقه الحمراء، ويخرج أوراقه من حقيبته الجلدية التي يضعها أمامه، وكأنها كنز ثمين يخشى ضياعه، الأنظار مشــــدودة إليه في انتظار قنبلة الموسم.
وأخيرا ينطلق صـــــوته بحـــروف متعثــــرة، تحت تأثير النبيذ المعتق… لا يهتم بتـــبرم المتلقي، وهو يلقي قصيدة طويلة تشبه معلقات العصر الجاهلي، يبتسم، يحيي جمهوره، ويختفي وراء باب القاعة.

التمثال الثالث:

يفتتح وجبة العشاء بأصابعه الطويلة، التي تجوب الصحن طولا وعرضا، وكأنه يعوض حرمان السنوات الماضية، يثير انتباه زملائه حول الطاولة، يتغامزون عليه ويضحكون في صمت، يضعون أمامه ما لذّ وطاب، ولأنه كبير جدا، تخيل نفسه سلطان المائدة، وكل من حوله مجرد عبيد حضروا لخدمته وحده. يقهقه من حين لآخر مزهوا بإنجازه الكبير، وعندما يفرغ من الأكل أخيرا، يطلق ساقيه يمينا ويسارا، إلى أن يحاذي السيقان المجاورة له، فهو الكاتب الكبير، يحق له هذا التبجح والاعتزاز بالنفس.

التمثال الرابع والأخير:

يمضي وحيدا، فلا أحد هناك يناسب مقامه العالي، يقاوم ثقل جسده المترنح، لكنه يهوي أخيرا أمام صخرة اعترضت طريقه، يلعن الصخرة التي لم تجد مكانا لتقبع فيه إلا طريقه، الفواكه المتساقطة من حقيبته شاهدة على أنامله الممتدة إلى المائدة الكبيرة في غفلة من الآخرين. ها هي الآن تقهقه عليه، تكتب قصيدة حالمة نيابة عنه… يغلق أذنيه، يمسح العرق المتصبب من جبينه، يتلفت خلفه، يهرول بعيدا، يصغر ويتضاءل إلى أن صار مجرد نقطة في حكاية منسية.

٭ كاتبة من أصيلة

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول نضال برقان:

    لكل تماثيله التي تتجول في جسده
    نص جميل وشفيف

إشترك في قائمتنا البريدية