جرت العادة عند الحديث عن الطعام والمطبخ العراقي، أن ننتقل مباشرة إلى المطبخ السومري والبابلي ولاحقا العباسي البغدادي، الذي عرف بتنوعه وببذخه، كما تروي ليالي ألف ليلة وليلة، وبوصفاته التي دوّنها عدد من الرجال. لكن على الرغم من هذا الغنى التاريخي، يشعر المشارك في هذا الحديث أو القارئ في هذا الجانب، بغياب اهتمام واف من قبل الباحثين العراقيين المحليين بثقافة الطعام العراقي في المئة سنة الأخيرة من عمر الأمة العراقية الحديثة (يذكر أن هناك كتبا بالإنكليزية لباحثين عراقيين) إذ نادرا ما نعثر على كتاب يتناول تاريخ الطعام وتغيراته في هذه الفترة، وبالأخص في العقود الأربعة الأخيرة، التي عاش فيها المذاق العراقي أحداثا عديدة بدءا بالهجرات التي شهدها في ظل الحصار مرورا بالحرب ولاحقا ولادة عشرات المطاعم الحديثة ودخول أذواق جديدة للبلاد. وتشكّل كتب السيرة الذاتية والذكريات والروايات العراقية في هذا الجانب ساحة بديلة تعجّ بعشرات التفاصيل عن الطعام العراقي وأهله في القرن العشرين، لكن وجود الطعام في هذه السير لا يعني أن صوره لم تتأثر بأسلوب كل شخص في رواية سيرته الذاتية؛ فهناك من وجد في العراق جنة عدن، ولذلك ترى أنّ هذا التصور سرعان ما ينعكس على صورة المطبخ العراقي، الذي يبدو غنيا ومفعما بالحركة والوصفات واللذائذ، في حين ترى هناك سيرة أخرى تبدو وهي تتذكر العراق، لا تستطيع الفرار من هاجس الاستبداد الذي عاشته ولذلك سيبدو الطعام في هذه السير أيضا مهموما وحاملا لقصص أخرى عن الشقاء وسيطرة الدولة على المذاق والوصفات والمكونات. ولذلك يمكن القول إنّ الطعام في السيرة الذاتية العراقية ليس مكونا ماديا، أو يحمل رائحة الماضي وأهله وحسب، بل يغدو تذكره بمثابة إعادة تشكيل للماضي، ليصبح الطعام حاملا ومشاركا في إعادة قراءة ذاكرة وحياة العراق في القرن العشرين، ولاسيما على صعيد السياسة والطائفية والحرب في هذا البلد.
بغداد وطعام جنة عدن
أول المذكرات التي صدرت مؤخرا وحملت قصصا عن الطعام وأهل العراق، مذكرات اليهودية العراقية فيوليت شماس، التي عاشت في بغداد حتى الأربعينيات (أحداث الفرهود 1941 ضد يهود المدينة) ولأنّ عنوان الكتاب بالإنكليزية «ذكريات جنة عدن» فهي ومنذ البداية توحي وكأن كل شيء عن الماضي كان جميلا، فالحنين الذي شعرت به شماس بعد هجرتها إلى أوروبا كان لا بد من أن ينعكس على طريقة تدوينها للماضي، لتظهر بغداد ما قبل الحرب العالمية الأولى وحتى الأربعينيات في عيون فيوليت أجمل مدن العالم، ليس في زمنها وإنما عبر العصور، فالجميع متآلفون ومندمجون في حياة المدينة، ولليهود دور لا يقلُّ تأثيرا ومكانة عن دور المسلمين. وحين قررت كتابة ذكرياتها، بدت دروب الطعام أحد مداخلها للعبور إلى الماضي، ولكونه كان زمنا جميلاً، سيبدو مطبخ العراقيين هنا غنيا ومتنوعا، بدءا بالكبة وعروق السمك التي تصنع بعجن الأرز والسمك والأعشاب، وكبة الشمندر، التي تجمع بين الحامض والحلو، وكبة بامية المنكّهة بالنعناع والليمون، وهناك «التبيت» اليهودي، دجاج محشور بالأرز ومشوي مع بيض التبيت الذي يترك دون تقشير حتى «إذا ما نضج الطعام وقمنا بإزالة قشوره وجدنا لون البيض قد أصبح بنيا» وكانت هناك المحاشي وتتكون من خضروات ولحم مفروم وأرز وبقدونس ونعناع، والباجة (الكوارع أو القشة). ومما تذكره أيضا أنّ المطبخ في زمانها كان عالما اجتماعيا غنيا تنقل من خلاله الخبرات وقصص الحارة والمدينة. كما تصف لنا أصناف الطعام الذي كان يقدمونه خلال الأعياد مع قدوم الربيع؛ فكانوا يضعون على موائدهم شتى أصناف الفواكه المجففة كالتين والتمر والبرقوق والمشمش والزبيب، وكأنهم بذلك يودعونها ويستعدّون لاستقبال الثمار الطازجة. ومن القصص الطريفة التي تذكرها أيضا ما يتعلّق ببعض أنواع الحلوى مثل الشوكولاته، إذ تؤكد أنّ العراقيين لم يعرفوها قبل الحرب العالمية الأولى، بل مع دخول الإنكليز لبغداد بعد انسحاب العثمانيين، إذ وزّع جنودهم الشوكولاته والعلك. وبعد فترة أيضا سيدخل الإنكليز موضوع مكننة معظم المطاحن، مع ذلك رفض العوام طحينها لفترة طويلة.
وعلى الرغم مما تذكره عن طعام العراقيين آنذاك، بيد أنّ فيوليت لم تتمكن من رسم صورة عن طعام الفقراء، ربما لأنّ مشاعر الحنين هي التي قادتها لتشكيل صورة جميلة عن الماضي، وأيضا لكونها من عائلة غنية (سكن فيصل الأول منزلهم عندما قدم للعراق) ولذلك لا نتعرف سوى على طعام ميسوري الحال (أساسه اللحم والحمص والفروج) باستثناء صورة عابرة تحدثت عنها ولعلها تعكس قليلا من طعام الفقراء أو لنقل الطعام الشعبي، إذ تذكر أنه في شارع الرشيد كانت تباع «لفّات (سندويش) العمبة» (مخلل المانجو) وأنّ سيدات مسنات كن يجلس في زوايا الشارع وبجانبهن قدر كبير مليء باللوبياء المسلوقة فكن يخلطنها بالخبز اليابس وهناك رجل يسلق عظام الخراف وحوايا في قدر كبير ويدعو المارة لتذوق الخبز المنقوع في مرقها.
وفي مقابل هذه الصورة حتى فترة الأربعينيات، سيختلف مشهد الطعام والشراب العراقي قليلا في فترة الخمسينيات والستينيات، وسنقترب أكثر، من خلال مذكرات بعض العراقيين، من طعام النخب السياسية، وستظهر الدولة (جسم سياسي) بوصفها مشاركة قليلا في تحديد مقادير بعض الأطعمة ووصفاتها وحتى بعض الأشربة (الشاي وطريقة شربه) وهذا أمر لم نكن نراه في سيرة فيوليت (أو لأن علاقة اليهود بالإنكليز كان جيدة) إذ لا وجود للدولة في خريطة المذاق العراقي قبل الخمسينيات (على الرغم من أنّ هناك من ربط بين البريطانيين وصناعة الخبز الآلي في تشكيل الدولة الشمولية في سوريا مثلا) بينما ستبدو الدولة العراقية في الخمسينيات أكثر ظهورا قبل أن تتحول إلى الشيف الرئيسي في فترة الحصار.
وتنقل سيرة الأنثروبولوجية العراقية بلقيس شرارة «هكذا مرت الأيام» بداية تشكل ظهور الدولة هذا، ولأن شرارة في الأساس مهتمة بتاريخ الطباخين، شكّل الطعام ركنا أساسيا في ذاكرتها عن العراق وعن منزل والد زوجها (السياسي العراقي كامل الجادرجي) إذ تذكر أنه خلال الحرب العالمية الثانية قامت الحكومة العراقية (في ظل البريطانيين) لأول مرة بإصدار دفتر الإعاشة، الذي يحدّد شهريا استهلاك كل عائلة من الأرز والشاي والسكر والطحين، ومما ترويه هنا أنّ هذا الأمر أدى في فترة معينة إلى تغيّر عادات العراقيين في تناول الشاي، فبعد أن كان يشرب مع السكر بكميات كبيرة اضطروا في فترة من الفترات إلى تقليل كمياته. وعلى صعيد الشاي أيضا تذكر أنه في الخمسينيات كانت عائلة خطيبها رفعت الجاردجي تشرب الشاي مع الحليب، وهي عادة لم تكن شائعة لدى العراقيين إلا بين النخبة ممن اعتادوا السفر لقضاء الصيف في أوروبا، وبالتالي نرى هنا أنّ النخبة تتمايز أحيانا عن العامة من خلال مشروباتها، لكنها على صعيد الطعام ستبقى محافظة على مطبخها التقليدي، فنحن لا نعثر مثلا في وصفاتها لجلسات الطعام في بيت أهل زوجها السياسي على أطعمة غربية، وإنما على بامية وعلى تبسي باذنجان، ولا نعلم إن كان ذلك ينطبق على أطباق القصر الملكي، المهم أنّ النخب الوطنية الليبرالية آنذاك تبدو قريبة في مزاجها من الطعام الحضري التقليدي، في حين سيقرر لاحقا ابن هذه العائلة (يساري الهوى) عند الزواج عدم جلب فرن طبخ ، فهذا العالم (مجتمع الطهي التقليدي) بالنسبة له آنذاك كان يعني تمسّكا بالماضي، ولا نعرف إن كان هذا الطقس قد شمل كل اليساريين العراقيين، أو ما هي عاداتهم في الطعام خلال الستينيات.
طباخ الجمهورية…
لكن في كل الأحوال ما نتعرف عليه من ذاكرة بلقيس عن الطعام هو بدايات وجود الدولة في المطبخ العراقي، وهذا لا يعني أنها لم تكن موجودة في السابق، لكنها أصبحت أكثر حضورا، وهذا ما سيتعزّز في الثمانينيات والتسعينيات، كما يظهره لنا الروائي العراقي خضير فليح الزيدي في كتابه «شاي وخبز» الذي حاول من خلاله إعادة تذكّر الماضي وفهمه من خلال موضوع الطعام، وفي هذه الذاكرة تبدو الدولة هي الشيف الرئيسي في مطبخ العراقيين، ويظهر الطعام العراقي وهو يتعرض لتغيرات في ظل الحرب وتطوراتها. ستحدث أول هذه التطورات مع قدوم المصريين خلال الثمانينيات؛ إذ سيأتون بأطباق الفول والفلافل، وسيغيرون من طريقة شرب العراقيين للشاي، من خلال استخدام الأقداح الكبيرة بدلا من الأقداح الصغيرة (الاستكان) كما أضافوا السحلب. بيد أنّ التطور الأهم الذي سيحدث، سنراه مع الصورة الغنية التي سيلتقطها الزيدي في عام 1991 عندما قررت السلطة فرض نظام الحصة التموينية وتوزيع مفرداتها بالكوبونات المعتمدة وقد تكونت هذه الحصة من اثنتي عشرة مادة غذائية متنوعة، بقوليات وحليب كبار وصغر ورز وسمن وشاي وسكر وسكائر ومعجون طماطم ومعجون أسنان وحلاقة وفي رمضان دجاجة واحدة لكل بطاقة منفردة، كما استحدث وكلاء الحصة محالا في معظمها غرفة مطلة على الشارع لتوزيع الحصة التموينية. وأصبح هؤلاء الوكلاء، على مدى سنين طويلة، متنفذين ومراقبين لكل الذوات المسجلة.
يتبنى في سيرته الذاتية عن الطعام العراقي خطابا علميا، إذ يرى أنّ هذه الحصص التموينية قد أدت من ناحية إلى ولادة إنسان عراقي آخر، فمالت المرأة العراقية للتقزّم وبشرتها للاصفرار وبروز البطن، كما أدى تناول النشويات بإفراط وغياب البروتينات لدى الرجال إلى خلق الكروش المدورة والمؤخرات العريضة حتى غدت سمات الذات الجديدة. وبالتالي نرى هنا أنّ الطعام العراقي في العقود الأخيرة لم يكن دائما أمرا اختياريا، بل هو ناجم عن اختيار الدولة، وهو خيار وإن كانت ظروف الحصار قد فرضته، لكن الدولة وجدت فيه فرصة لفرض مزيد من وصفاتها الشمولية وتوحيد المذاق العراقي (هناك يظهر تنوّع المذاق مرادفا لمعارضة النظام) وهذا ما نراه في طريقة توزيعها للحصص الغذائية. إذ أخذ طباخ الجمهورية (مؤسسات تموين الدولة) يطعم العراقيين في اليوم الأول والثاني والثالث من كل شهر التمّن والمرق والفاصولياء وفي الأيام الثلاثة الأخرى مرق حمص مجروش أو العدس الأحمر وهكذا على بقية أيام الشهر. ولأنّ في استعادة الماضي أحيانا محاولة لتغيير الحاضر، يلمح الزيدي إلى أنّ العراقيين بقوا في أنماط طعامهم وغذائهم أسرى النمط الجمهوري (تناول كميات كبيرة من التمن مثلا/الأرز) ولذلك لم يتمكنوا من هزيمة هذا الماضي، وهنا تبدو القطيعة مع أنماط الطعام الذي ورثناه مدخلا لا بد منه للخلاص من الزمن الشمولي، وسواء اختلفنا مع هذه الرؤية أم لا، فإنّ ما يحسب للزيدي هنا أنه وسّع من حقل ذاكرة الطعام العراقي، واستطاع دراسة أثر الفترة الجمهورية في إعادة تكوين المطبخ العراقي.
كاتب سوري
مقال ممتع ! شكراً للكاتب !!
ولا حول ولا قوة الا بالله
لم تشر إلى أنّ المطبخ التركي الحالي هو وريث المطبخ العباسي البغدادي..بعد انتقال الخلافة من بغداد إلى إسطنبول..
انتقل إليها ( المطبخ البغدادي ) العباسي.لذلك الكثير الآن من الطعام والحلوى والعصائر التركية أصلها بغدادي أصيل.