الـ«V-Dem»، أو «تنويعات الديمقراطية» في تسمية أخرى، معهد يزعم أنه مستقلّ وإنْ كان لا يخفي مصادر تمويل متعددة من منظمات حكومية والبنك الدولي ومؤسسات أبحاث مختلفة؛ أسسه في سنة 2014 الأكاديمي السويدي ستافان لندبرغ، ومقرّه في جامعة غوتنبرغ، السويد؛ وهو يصدر تقارير سنوية حول أحوال الديمقراطيات في العالم بأسره، ويعتمد في أشغاله على أبحاث ميدانية ومكتبية يتولاها نحو 3700 باحثة وباحث في أصقاع مختلفة، وتغطي 202 من بلدان المعمورة، وتشمل دراساتها نماذج ديمقراطية وأنساق حكم وسلطة شهدها التاريخ بين سنة 1789 وحتى اليوم، كما هي حال التقرير الأخير لسنة 2022.
وقد تكتنف عمل المعهد مظانّ كثيرة، متغايرة ومتنوّعة ومتقاطعة، إلا أنّ التقارير السنوية ليست بالغة الفائدة لجهة ما توفّره من أرقام ومؤشرات، فحسب؛ بل يبقى المعهد، حتى إشعار آخر وظهور نموذج أفضل، فريداً في اعتبارات شتى تبيح درجة غير ضئيلة من الاطمئنان إلى معطياته. وهكذا، طبقاً للتقرير الأحدث، تتصدّر لائحة النماذج 10 حكومات (من أصل 179 دولة)، هي السويد والدانمرك والنروج وكوستا ريكا ونيوزلندا وإستونيا وسويسرا وفنلندا وألمانيا وإرلندا؛ وأما في المراتب الدنيا فالدول العشر هي طاجكستان والسعودية والصين وتركمانستان وسوريا وبيلاروسيا واليمن وأفغانستان وكوريا الشمالية. جديرة بالملاحظة، أيضاً، أنّ ما يُصطلح على تسميتها «ديمقراطيات مستقرة»، غربية غالباً، تأتي في مراتب حمّالة دلائل عديدة: فرنسا، في المرتبة 16؛ بريطانيا، 19؛ إيطاليا، 20؛ كندا، 24؛ آيسلندا، 25؛ النمسا، 26؛ الولايات المتحدة، 29؛ اليونان، 36؛ دولة الاحتلال الإسرائيلي، 41؛ ورومانيا، 44…
المؤشرات الأخرى تقول إنّ سنة الأساس 2021 سجّلت رقماً قياسياً لعدد الأمم التي خضعت لأنظمة أوتوقراطية (والمصطلح هنا يُعتمد على سبيل التضاد مع الديمقراطية)، بالمقارنة مع 50 سنة خلت: 33 بلداً، تأوي 36٪ من سكان الأرض، نحو 2.8 مليار نسمة؛ والمؤشر الأبرز، في ظنّ هذه السطور، قد يكون حصّة الاتحاد الأوروبي من موجة الأوتوقراطية هذه، إذْ انحدرت إليها نسبة 20٪ من الدول الأعضاء. ولم يسجّل العالم هذا العدد القليل من عمليات الدمقرطة منذ العام 1978، فبلغ العدد في سنة الأساس 15 بلداً، تأوي 3٪ فقط من سكان الأرض. وتزايد قمع المجتمع المدني في 22 بلداً، وفَرْض الرقابة على وسائل الإعلام في 21 بلداً، وتوسّعت نزوعات العداء للتعددية الحزبية في 6 من البلدان الأكثر ميلاً إلى الأوتوقراطية (البرازيل، هنغاريا، الهند، بولندا، صربيا، وتركيا).
يتوقف التقرير أيضاً عند ظاهرة يطلق عليها تسمية «وباء الانقلابات»، إذْ شهدت سنة الأساس إجراءات انقلابية لتوطيد الأوتوقراطية في 40 بلداً، وخمسة انقلابات تحمل الصفة الصريحة في ارتفاع حادّ لهذا القرن بالقياس إلى معدّل 1.2 في القرن الماضي، أسفرت عن تأسيس أوتوقراطيات جديدة منغلقة في تشاد وغينيا ومالي ميانمار؛ وهذا «الوباء» انطوى أيضاً على أشكال مختلفة من تسميم الوعي، وتنظيم حملات تضليل الرأي العام المحلي والعالمي لصالح تجميل الانقلابات. ومستوى الديمقراطية الذي تمتع به المواطن الكوني، كما يصفه التقرير، خلال سنة الأساس هبط إلى مستويات 1989، وبالتالي فإنّ الـ30 سنة الأخيرة من مظاهر التقدّم الديمقراطي تتآكل اليوم؛ فينخفض عدد «الديمقراطيات الليبرالية» إلى 34 في سنة الأساس 2021، وهذا معدّل لم يسبق له مثيل منذ 26 سنة.
تحظى تقارير المعهد بقيمة تفاضلية وعملية عالية، لجهة المؤشرات والمعطيات وما هو ميداني منها بصفة خاصة؛ ولكنها في الآن ذاته لا تمنح رخصة تفويضية لتخليص الديمقراطية الليبرالية من آثام إغلاق الواقع حول ذهن واحد أحادي… لاديمقراطي، في الجوهر والمآل
ويعترف المعهد، ويبني تقاريره على أساس، أنّ مفهوم الديمقراطية تطوّر كثيراً منذ ولادة المصطلح لدى الإغريق، وأنه يستخلص تقديراته اتكاءً على ما يقارب 450 من الجوانب المختلفة التي تكتنف المفهوم وتنويعاته؛ لكنه، من دون تجاهل الأشكال الأخرى للتمثيل والانتخاب، يأنس إلى ما يسمّيه «مؤشر الديمقراطية الليبرالية»، الذي يجمع بين المؤسسات الانتخابية الأمّ، مع الجوانب الليبرالية الأخرى التي تضمّ الضوابط التنفيذية الناجمة عن التشريع والمحاكم العليا، إلى جانب سيادة القانون والحقوق الفردية. في ضوء ذلك، يصنّف المعهد أنظمة العالم في أربعة أنماط متمايزة: نمطان من الديمقراطية (الانتخابية والليبرالية)، ونمطان من الأوتوقراطية (الانتخابية والمغلقة). وكي يُعتبر ديمقراطياً في الحدود الدنيا، ضمن نمط الديمقراطية الانتخابية، فعلى البلد أن يلبّي مستويات عليا كافية من انتخابات حرّة ونزيهة واقتراع عامّ، وحرّية تعبير واجتماع؛ وبالتالي فإنّ تنظيم انتخابات لا يكفي في ذاته لحيازة الصفة الديمقراطية. ففي الأنظمة الأوتوقراطية الانتخابية، تتوفر مؤسسات مختصة بمحاكاة انتخابات لا ترقى إلى العتبة الدنيا للديمقراطية، بمعنى المصداقية والكيفية.
والحال أنّ في رأس المظانّ التي يمكن أن تجابه هذه المنظومة، وربما بعض الركائز الكبرى في منهجية المعهد، ما يقوله عدد غير قليل من كبار المفكّرين الغربيين الذين عكفوا على قراءة، أو بالأحرى إعادة قراءة، دروس عام أساس آخر؛ هو 1989، أو «سنة العجائب» كما شاء البعض توصيفها، لأنها شهدت سقوط جدار برلين وثورة تشيكوسلوفاكيا وإسقاط نظام شاوشيسكو في رومانيا، والتمهيد لانحلال الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي بأسره. بين هؤلاء المفكرين يبرز البريطاني جون غراي، صاحب سلسلة مؤلفات إشكالية وسجالية مثل «الفجر الزائف: ضلال رأسمالية العولمة»، و«يقظة الأنوار: السياسة والثقافة عند خاتمة العصر الحديث»، و«هرطقات: ضدّ التقدّم وأوهام أخرى»، و«روح مسرح الدمى: تحقيق موجز حول الحرّية الإنسانية»، فضلاً عن كتابه الأشهر ربما: «كلاب من قشّ: أفكار حول بني البشر وحيوانات أخرى».
وفي مقالة لامعة بعنوان «إغلاق الذهن الليبرالي»، ذات صلة بمظان» معهد الـ»V-Dem»، يبدأ غراي من استعراض مشهد كوني عناصره أوروبا وحروب التبادل ودونالد ترامب وفلاديمير بوتين وأمواج اللجوء والصين وحصار حلب السورية…؛ لكي يبلغ خلاصة أولى تقول: «النظام الليبرالي الذي لاح أنه ينتشر عالمياً بعد نهاية الحرب الباردة، يتلاشى من الذاكرة». ورغم اتضاح هذا التلاشي، يوماً بعد آخر، فإنّ الليبراليين يجدون صعوبة في مواصلة العيش من دون «الإيمان بأنهم في الصفّ الذي يحلو لهم اعتباره الصواب في التاريخ»؛ وبالتالي فإنّ إحدى كبريات مشكلاتهم أنهم لا يستطيعون تخيّل المستقبل إلا إذا كان استمراراً للماضي القريب! وحين يختلف الليبراليون حول كيفية توزيع الثروة والفرص في السوق الحرّة، فالمدهش في المقابل أنّ أياً منهم لا يُسائل نمط السوق المعولَمة التي تطورت خلال العقود الثلاثة الأخيرة.
وبعد الاستفاضة في مناقشة أزمة الليبرالية المعاصرة كما كانت يومذاك تتجلى في بريطانيا، عبر محورَيْ أزمة حزب العمال والتصويت على الخروج من الاتحاد الأوروبي؛ يردّ غراي السجال إلى جذور الفكر الليبرالي الحديث، في أنه نتاج متأخر من التوحيدية اليهودية والمسيحية: «من تقاليد هذَيْن الدينَيْن، وليس من أيّ شيء في الفلسفة الإغريقية، نبعت القِيَم الليبرالية حول التسامح والحرية. وإذا ساد اليقين بأنها قيم كونية، فذلك بسبب الاعتقاد بأنها فرائض إلهية. ومعظم الليبراليين علمانيون في النظرة العامة، لكنهم يواصلون الإيمان بأنّ قيمهم إنسانية وكونية». المعضلة، بعد هذا التوصيف، أنّ الذهن الليبرالي الحاضر عاجز عن الاشتغال إلا إذا أغلق الواقع، أو عرضه كبضاعة أحادية، في المتجر الليبرالي الوحيد!
وبهذا المعنى، في صيغة مظانّ طاعنة، تحظى تقارير المعهد بقيمة تفاضلية وعملية عالية، لجهة المؤشرات والمعطيات وما هو ميداني منها بصفة خاصة؛ ولكنها في الآن ذاته لا تمنح رخصة تفويضية لتخليص الديمقراطية الليبرالية من آثام إغلاق الواقع حول ذهن واحد أحادي… لاديمقراطي، في الجوهر والمآل.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
شكرًا أخي صبحي حديدي. لماذا لايرى جون غراي أن الفكر الليبرالي الحديث هو نتاج مزيج من التوحيدية اليهودية والمسيحية والفلسفة الأغريقية، حيث أن هكذا مزيج لم يكن ممكنًا قبل انهيار السلطة البابوية. بهذا الإقتراح يبدو لي أن نظريات براي تشكو من النقص وربما ضعيفة. لكن بالطبع يجد المرء أن الذهن الليبرالي حاليًا منغلق لايرى الواقع وكما نعلم فقط الذهن المنفتح قادر على اكتشاف تطورات الحاضر، والمستقبل القريب على الأقل. ذلك أنه من الصعب التكهن بالمستقبل البعيد. سؤال تبادر إلى ذهني ماذا لو أضفنا الإسلام كونه الديانة التوحيدية الأخيرة من جهة، بالإضافة إلى ذهن منفتح فهل بالإمكان إنتاج فكر ليبرالي على الأقل أكثر نضجًا، شريطة الإنفتاح على الشرق وحضاراته وتحولاته عبر الماضي والحاضر من جهة أخرى. على الأقل هذا غير مستحيل بل ربما ليس صعب المنال!
تعجبني أفكار جورج بيرنارد شو عن «الديمقراطية»، وعلى الأخص الطريفة منها – إذ يقول في هذا الصدد ما معناه: الديمقراطية هي تلك الكلمة الأليفة التي يستعملها كل امرئ من عامة الشعب دون أن يفهم معناها على الإطلاق: فلكي تجعل الديمقراطية ذات جدوى بحق فإنك تحتاج إلى ديمقراطية أريستقراطية، ولكي تجعل الأريستقراطية ذات جدوى بحق فإنك تحتاج إلى أريستقراطية ديمقراطية !!؟
وبالمناسبة، هنا أيضا، في كتابه الأخير وغير المكتمل «موسى والتوحيد»، يُبين فرويد بالدلائل التاريخية والعلمية المُقْنِعَة أن أصول التوحيدية اليهودية (ومن بعدها التوحيدية المسيحية والمحمدية) إنما مردُّها إلى الديانة الفرعونية القديمة في حد ذاتها – فلا جذور فكر ليبرالي حديث على قولات غراي ولا هم يحزنون !!؟
هذا في الحقيقة كلام تنويري ثاقب ورائع بكل معنى الكلمة
تحية للأستاذ باقر العسفة العتفة وتحية أيضا للأستاذ صبحي حديدي
أخي باقر العسفة، ولماذا تحليل فرويد! يبدو أنك ام تقرأ كتب عن تاريخ حضارات وادي التيل وبلاد مابين النهربن لترى كيف نشأت الأديان والتوحيد … أما التوراة نفسه فهو يحتوي على جزء يسير من الحصارة البابلية ووادي النيل … القصة طويلة لكن يسهل متابعتها في حضارات الشرق القديمة.
أخ أسامة، فرويد لم يكتب كتابه الأخير وغير المكتمل، كما أشرتُ أعلاه، إلا بعد أن قرأ بإمعان شديد كتب تاريخ الأديان وكتب الأنثروبولوجيا وحتى كتب الآركيولوجيا المتوفرة له آنذاك (شليمان، مثلا لا حصرا)
إلى المعلق أسامة كلية .. هل قرأتَ حقا كتبا عن تاريخ حضارات وادي النيل وما بين النهرين ؟؟ .. هل لك أن تنورنا وتذكر لنا بعضا من هذه الكتب إن كان ما تقوله صحيحا فعلا ؟؟ .. مع التشكرات والسلامات للجميع وخاصة الأستاذ صبحي حديدي والأستاذ باقر العسفة العتفة !!
أخي باقر العسفة، إذًا لنقرأ الأصل!
وخاصة أنها حضارات شرقنا وحضاراتنا ونستطيع بها أن نفهمها ونفهم ديننا أكثر، من تحليلات علم النفس (وأقرأه وهو أحد هواياتي) الذي له هدف آخر غير التحليلات السياسة. وإن كان علم النفس الإجتماعي يتقاطع مع علم الإجتماع والسياسة. في قرائتي لواحد من هذه الكتب تعرفت على معلوات كثيرة من تلك التي تحدثنا عنها.
أختي نينار، نعم قرأت كتاب فراس السواح ومنذ أن كنت في سوريا، (لأن هذا كان من اهتماماتي بالإضافة إلى علم النفس منذ أن كنت شابًاوقرأت كتب لفرويد أيضًا) ، بعنوان على ماأذكر: حضارات مابين النهربن ووادي النيل وأصل الدين والأسطورة. وهو من أول كتب فراس السواح (وقد تحدثت عن ذلك في تعليقات سابقة منذ فترة) وكان الكتاب غنيًا بهذه المعلومات التي ينحدث عنها الأخ باقر العسفة. وشكرًا على الإهتمام.