الناصرة ـ «القدس العربي»: رغم ما يشهده شمال القطاع من جرائم منذ ثلاثة أسابيع ونيف يتساءل المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية «مدار» تهجير سكان قطاع غزة: هل هو مُجرّد هرطقات أم برنامج عمل إسرائيلي؟ يستهل «مدار» إجابته لهذا السؤال الذي يبدو اليوم استنكاريا بالقول: «في بداية العام 2024 وعشية عقد مؤتمر الاستيطان في قطاع غزة، قالت مديرة منظمة نحالاه الاستيطانية دانييلا فايس إن هجمات 7 أكتوبر 2023 قد غيرت التاريخ وإنها تشكل نهاية لوجود العرب في قطاع غزة. إنها النهاية لهم…. وبدلا منهم، سيكون هناك الكثير والكثير من اليهود الذين سيعودون إلى المستوطنات، والذين سيبنون مستوطنات جديدة». في 21 تشرين الأول/اكتوبر الماضي تم عقد مؤتمر الاستيطان للمرة الثانية، في منطقة ما بالقرب من حدود القطاع، حيث أعلن الوزير إيتمار بن غفير خلاله بأن «تشجيع هجرة سكان القطاع هو الأمر الأكثر أخلاقية اليوم». وينوه «مدار» أن هذه المقالة تستعرض قضية التهجير، وإفراغ قطاع غزة من سكانه، باعتبارها قضية مطروحة داخل إسرائيل وإن كان حتى الآن بشكل غير رسمي.
محاولات إسرائيل لطرد سكان قطاع غزة بعد 1967
ويعود «مدار» للتاريخ ويقول إنه عندما احتلت إسرائيل قطاع غزة في حزيران/يونيو 1967 كان هناك 400 ألف فلسطيني يقطنون داخل القطاع، أكثر من نصفهم من اللاجئين وقد حاولت إسرائيل تنفيذ سياسات تهجير (ترانسفير) عبر ثلاث طرق:
برنامج حكومي لتشجيع الترانسفير: حيث ناقشت الحكومة الإسرائيلية برامج مختلفة لتهجير الفلسطينيين أو نقلهم إلى خارج قطاع غزة، واعتمدت بعضها. فقد تشكلت وحدة سرية تحت إشراف رئيس الوزراء ليفي إشكول العام 1968 لتشجيع الهجرة إلى دول مثل البرازيل وباراغواي، التي وافقت بشكل مشروط على استقبال أعداد محددة من اللاجئين. وتم تعيين عيدنا سيرنا، وهي عميلة سابقة في الموساد، لتقود هذه الوحدة السرية لتشجيع سكان القطاع على المغادرة. رغم المحاولات المكثفة والتكاليف التي خصصت، كانت النتائج محدودة وأثارت مقاومة من الفلسطينيين والدول المجاورة. وظل الهدف الإسرائيلي بتخفيف السكان في غزة حلماً لم يتحقق، ما أدى إلى تبني استراتيجيات جديدة في العقود التالية تستهدف السيطرة بدلاً من الإخلاء، مع استمرار محاولات لدفع الفلسطينيين إلى الهجرة خارجاً عبر مسارات غير مباشرة.
التهجير عبر الإفقار: وهي رزمة من الاستراتيجيات التي وضعتها إسرائيل لإفراغ قطاع غزة عبر تشجيع ما يسمى في الخطاب الإسرائيلي بالهجرة الطوعية. وللتأكيد، لم تكن هذه هجرة طوعية لسكان قطاع غزة، وإنما هجرة قسرية عبر آليات غير مباشرة كإبقاء ظروف المعيشة متدنية ورفع معدلات البطالة. تشير التقارير إلى أنه غادر نحو 3000 فلسطيني القطاع شهرياً، لكن هذه الأعداد تراجعت بعد رفض الأردن دخولهم في أواخر 1968. وقد نشرت دراسة أن عدد الفلسطينيين الذين هاجروا من قطاع غزة حتى نهاية العام 1968 (أي بعد سنة ونصف السنة على بدء الاحتلال الإسرائيلي) قد وصل إلى نحو 31 الفاً، أي ما يقارب 8 في المئة من سكان قطاع غزة في حينها.
التهجير القسري: في فترة تصاعد المقاومة في قطاع غزة في أوائل السبعينيات، وخلال فترة تولي أريئيل شارون منصب قائد المنطقة العسكرية الجنوبية، قاد شارون سياسة منهجية لنقل السكان قسراً من غزة. كان يتم كل أسبوع تحميل فلسطينيين من القطاع في شاحنات ونقلهم نحو الحدود الأردنية-الإسرائيلية في منطقة وادي عربة، حيث يجبرون على عبور الحدود إلى الأردن. طلب إسحق (إيني) عَبادي، الذي كان يشغل منصب حاكم غزة آنذاك في الإدارة العسكرية الحاكمة، من موشيه دايان إصدار أوامر لشارون بوقف هذه السياسة القسرية، التي كانت تنفذ بهدوء، ولكن بانتظام، ما جعلها ظاهرة تمتد على فترة زمنية طويلة وتهدف إلى تقليص الوجود الفلسطيني في القطاع بوسائل غير معلنة رسمياً. صحيح أن نسبة الولادات والتكاثر في سكان قطاع غزة كانت عالية، بحيث ارتفع عدد سكان القطاع تحت الاحتلال الإسرائيلي من 400 ألف في العام 1967 إلى نحو 2.1 مليون في العام 2023 إلا أنه يمكن أيضا رصد نتائج سياسات إسرائيل للتهجير بشكل واضح، وإن لم تصل إلى مبتغاها النهائي بإفراغ القطاع. وحسب جهاز الإحصاء الإسرائيلي، فقد غادر قطاع غزة ما بين 1968-1987 نحو 94 ألف شخص (أي ما يعادل نحو 23.5 في المئة من سكان غزة في عام 1967).
أحلام إسرائيل بإفراغ سكان القطاع بعد 7 أكتوبر
وينوه تقرير «مدار» أنه مع بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 أغلقت مصر حدودها مع قطاع غزة، مانعةً أي خروج للفلسطينيين، ومع ذلك تمكنت أعداد من الميسورين من المغادرة بـ«تنسيق» مقابل مبالغ طائلة دفعوها لشبكة غامضة من الوسطاء ووكلاء السفر. جاء هذا الإجراء في سياق الإبادة الجماعية وتدمير الحيز السكني في القطاع، الأمر الذي أدى إلى تشريد أكثر من 80 في المئة من سكان القطاع من منازلهم، بما يعادل نحو 1.9 مليون شخص. ويقدر دياب اللوح، سفير فلسطين في مصر، أن نحو 100.000 فلسطيني من سكان غزة قد لجأوا إلى مصر بشكل مؤقت خلال فترة الحرب، داعياً السلطات المصرية إلى إصدار تصاريح إقامة لهم إلى حين تمكنهم من العودة إلى منازلهم. وفي السياق نفسه يستذكر التقرير أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن أعلنت أنها تدرس إمكانية استقبال بعض اللاجئين الفلسطينيين من غزة ممن لديهم أقارب من حملة الجنسية الأمريكية، عبر منحهم صفة اللاجئ. ويتابع «منذ الأسابيع الأولى للحرب، تصاعدت داخل إسرائيل دعوات لتبني سياسة الهجرة الطوعية للفلسطينيين، حيث اقترحت بعض الدوائر الحكومية، مثل وزارة الاستخبارات برئاسة عضو الليكود غيلا غملئيل، تشجيع الهجرة من غزة نحو سيناء، كخطوة نحو تخفيف العبء الديموغرافي في القطاع. بيد أن الحكومة الإسرائيلية، رفضت تبني مقترح وزارة الاستخبارات بشكل رسمي.
تهجير لدول أخرى
بعد شهر من اندلاع الحرب، نشر عضوا لجنة الشؤون الخارجية والأمن الإسرائيليان داني دانون (حزب الليكود) ورام بن براك حزب «يش عتيد» مقالاً في صحيفة «وول ستريت جورنال» دعيا فيه إلى تبني خطة تتيح إمكانية هجرة اللاجئين الفلسطينيين من غزة إلى دول أخرى تقبل استيعابهم. ويقول هنا إنه لا بد من التأكيد على أن لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، هي لجنة مفتاحية في ما يتعلق بالمصير السياسي والأمني للأرض المحتلة، وتُعرض أمامها تقارير من كبار المسؤولين الإسرائيليين في مجالات الأمن، الخارجية، والاستخبارات، بمن في ذلك رئيس الوزراء، وزير الخارجية، وزير الدفاع، رئيس هيئة الأركان، رئيس الشاباك، رئيس الموساد، رئيس شعبة الاستخبارات، ورئيس مجلس الأمن القومي. يتلقى أعضاء اللجنة معلومات واسعة من الجهات الأمنية، ما يجعل معرفتهم بالشؤون الأمنية غالباً أوسع من غالبية الوزراء وحتى بعض أعضاء الكابينيت الأمني.
مؤتمر الاستيطان في قطاع غزة
كما يستذكر أنه في آذار/مارس 2024 صرحت دانييلا فايس عن أفكارها المتعلقة بتهجير سكان قطاع غزة عبر مقابلة مع شبكة «سي إن إن» وقالت فيها: «لن يكون هناك عرب في قطاع غزة، أنا أتحدث عن أكثر من مليوني شخص. لن يبقوا هناك… نحن اليهود سنكون في غزة».
وفي مقابلة أخرى مع صحيفة «فايننشال تايمز» قالت إن «كل العرب سيخرجون من غزة، وغزة ستكون منطقة يهودية، دعهم يذهبون إلى أفريقيا أو تركيا أو اسكتلندا. عندما لا يكون سكان القطاع مكدسين في مكان واحد، ربما تكون أوضاعهم أفضل».
إسرائيل الاستعمارية
ويوضح «مدار» أن منظمة «نحالاه» تعبّر عن إسرائيل الاستعمارية- الاستيطانية بصورتها الأكثر وضوحاً، وتترفع عن إخفاء نواياها الاستيطانية كما تفعل الحكومة الإسرائيلية أو الجيش الإسرائيلي. معللا ذلك بالقول إنه منذ تأسيسها العام 2005 شكلت المنظمة رأس حربة للتوسع الاستيطاني، والسيطرة على أراض أكثر، وقيادة الأنوية التوراتية التي تبني مستوطنات الكرافانات في جبال الضفة الغربية والتي تكاثرت كالفقع لتصل إلى نحو 200 مستوطنة، نحو 64 منها تم بناؤها منذ العام 2023. مؤسسة منظمة «نحالاه» ومديرتها حتى اليوم، هي دانييلا فايس، من أهم قيادات المستوطنين في الضفة الغربية، وربما أكثرهم نشاطاً على صعيد الاستيلاء على الجبال في الضفة الغربية وبناء مستوطنات الكرافانات. وقد أعلنت منظمة «نحالاه» أنها أعدت نحو 700 عائلة من المستوطنين المتطوعين (أنوية استيطانية) والذين أبدوا استعدادا للانتقال فورا للاستيطان في قطاع غزة. ويخلص التقرير للقول إن هذه الأحداث تكشف عن ديناميكيات جديدة تتعلق بمصير سكان غزة في ظل الأزمات المتكررة، مرجحّا أن الدعوات المتزايدة في إسرائيل لتشجيع الهجرة الطوعية هي جزء من استراتيجية تهدف إلى تخفيف الضغوط الديموغرافية والسياسية الناجمة عن الأعداد الكبيرة لسكان غزة. ومع أن الاستجابات الدولية لا تزال محدودة، فإن مسألة توطين الفلسطينيين خارج القطاع تُبرز تعقيدات دولية وسياسية، وتفتح أسئلة جديدة حول المستقبل الديموغرافي والسياسي للقطاع وسكانه. في المقابل لا يكتفي تقرير «مدار» بالحديث عن البعد الديموغرافي المتعلق بغزة ومستقبلها ويؤجل البحث عن «التهديات الديموغرافية» ودورها في رسم سياسات الاحتلال في تعامله مع الفلسطينيين على طرفي الخط الأخضر منذ أمس واليوم وغدا.