تهذيب التراث القومي: منع النساء من الكتابة
طه أحمدتهذيب التراث القومي: منع النساء من الكتابةنشأت في التاريخ الفكري والسلوكي للأمة الاسلامية، عقائد، وتصورات، معظمها لا يستنيم إلي الفكرة الاسلامية العادلة النيرة، وإنما استبدت بها الأهواء المتحكمة، وعصفت بها عواصف التقليد، وهواجس النفوس وشرورها التي تهفو إلي السطوة والاستقواء، وغذتها ثقافات الأمم الأعجمية الداخلة في الدين، باتساع الرقعة الاسلامية وتطاير الفتوحات في كل الجهات، فتضربت الفكرة بالفكرة، وأخذ العقل عن العقل، وحمل الطبع من الطبع، وتداخل الوحي بالوهم، والنور بالظلَم، وانعكس ذلك كله علي مرآة الطبع، وانتقش في ألواح الشعور، وانتهي إلي التواليف والدواوين، فكان مادة مسمومة تستمد منها ـ من طرف خفي وستر رقيق ـ أحكام الفقه، ومعاني الأدب، وقوافي الشعر، وهي أبعد شيء عن فقه الاسلام، وأدب الاسلام، وشعر الاسلام.ذكر صاحب (نور النبراس) أنه وقع في عهده بدمشق أن فقيها سئل هل يجوز أن تتعلم النساء الكتابة فأجابه: لا يجوز تعليمهن.فأنت تري تأثير الدسائس الفكرية، والأحوال المضطربة الناشئة من أغاليط الأمم في المرأة، علي هذا الفقيه، فأفتي بتلك الكلمة العوراء التي تتملص منها كل آية في المصحف، وتتبرأ منها مبادئ الاسلام وعراه القائمة علي المساواة في العلم والتعلم.والسائل أيضا، إنما استملي سؤاله من البيئة الاجتماعية المحيطة به، لا من الدين الذي يدين به، وإلا فإن السؤال وجوابه ساقطان من اعتبار الشريعة. ولو أن مشيئة القدر أخرتهم لهذا العهد، لما خطر ببالهما ما خطر ولو كانا من أبعد الناس نزعة، وأشدهم عنتا.وأقرر هنا أن مناط الأمر إنما هو الفكرة السائدة، والثقافة المتدسسة علي الوحي في زمن معين، وليس الزمن نفسه، وذلك أنك إذا عكست في الماضي ـ عصر السعادة النبوي مثلا ـ ما طردت في المستقبل ـ لتماثلت لديك النتائج.هذا وقد جعل بعض الباحثين هذا الفكر العليل سببا قويا في تأخر النهضة الأدبية عند نساء الشرق وتباطئها. تقول السيدة (جاكلين سلام) في دراسة لها ترجمتها بالقصيدة النسوية نافذة نحو أعماق الآخر: لنسلم بلا مقدمات أن مقدرة النساء علي الابداع الأدبي والعلمي أيضا لا تختلف في شيء عن مقدرة الرجال، وكانت تجربة الشاعرة نازك الملائكة جديرة بأن تضعنا أمام هذه الحقيقة لما كان لها من دور ريادي في فتح أبواب القصيدة علي آفاق جديدة لتدشن وتشهد ولادة الشعر الحديث في الشرق مواكبة تجربة زملائها من المبدعين.إذن النساء لسن قليلات عقل ورؤية ولكن ثمة قصورا معلنا وملحوظا حول مواكبة الكاتبات وتحديدا الشاعرات لمسيرة التجديد الحداثي.أنطلق في مناقشتي للأسباب الكامنة وراء هذا التعثر باستعراض هذه المقولة القديمة لخير الدين نعمان أبي ثناء الالوسي في مخطوطة كتبها سنة 1898 حول الاصابة في منع النساء من الكتابة جاء فيها: فأما تعليم النساء القراءة والكتابة فأعوذ بالله، إذ لا أري شيئا أضر منه بهن لما كن مجبولات علي الغدر، وكان حصولهن علي هذه الملكة من أعظم وسائل الفساد والشر، وأول ما تقدر المرأة علي تأليف كلام فإنه سيكون رسالة إلي زيد أو رقعة إلي عمر وبيتا من الشعر إلي عزب وشيئا آخر إلي رجل آخر. النساء والكتب والكتابة كمثل شرير فاسد تهدي إليه سيفا أو سكير تعطيه زجاجة خمر، فاللبيب من الرجال من ترك زوجته في حال من الجهل والعمي فهو أصلح لهن وأنفع ثم ينتقل إلي القول: لي مقت شديد لكل النساء المخربشات، إن إبرة الخياطة وليس القلم هي الأداة التي يجب أن يتعاملن بها، وهي الوحيدة التي هن قادرات علي استعمالها بمهارة عن مجلة النساء انتهي كلام (جاكلين سلام).وأنا لا أماري في أن ما جاء علي لسان أبي الثناء الالوسي، ذخيرة جاهلية استقاها فكره من حواشي الأخبار المصنوعة، وكتب الأدب التي تشحذ الذهن بأيام العرب في الجاهلية، وطرائقهم في معاشرة نسوانهم، وأمثالهم المشتهرة علي الألسنة إلي الآن في امتهانهن واستصغار شأنهن. وللشيطان في ذلك مسالك خفية وفجاج ضيقة يُدغل من خلالها دغاوله للعقل علي أنها من الشرع والحزم، والشرع والحزم يلعنانها ويبرآن منها.كما أن هذا المنع من الكتابة، لم يكن متمددا في كل الأعصار، وجميع الأقطار الاسلامية، ولا يرتاب امرؤ له مسكة من علم في أن تاريخ الاسلام يزخر بملايين الفاضلات اللواتي اشتهرن بين الناس بالعلم، والكتابة، والرواية، والأدب، والشعر، والعلوم.بيد أنه ينبغي مراقبة أحوال العصر، ومراعات تأثير الاجتماع في النفس الانسانية، فالعالم آدمي غير معصوم، ومهما بلغ علمه، واتسعت مداركه، وتنزه عن الهوي، وتجرد من أصفاد التقليد، فإنه لن يستطيع الخروج من زمنه إلي زمن لا يملك أسبابه ولا عدته. ولا يبعد أن (جاكلين سلام) نفسها لو كانت في محيط اجتماعي كمحيط الألوسي لما استشنعت مقالته، إذ أن تطور الزمان علميا، وفكريا، الفضل فيه عائد إلي تلاحق الأفكار، وتراكم المعارف، لا إلي جيل دون جيل، أو أمة دون أمة، أو انسان في طور زمني دون انسان في طور آخر متقدم عنه أو متأخر، وبعبارة أخري أن الفضل عائد لمجموع عمل الانسانية في الحياة الدنيا، فهي بكليتها تزرع، وهي بأجزائها تجني، وتتفاوت في الافادة من الثمار، بتفاوت المدد، وتطاول العهد. فإذا أردنا أن نعترض فكرة، أو نطعن علي رأي، فلا بد أن نرد عواطفنا، ومنازعنا إلي عواطف ومنازع الزمن الذي عاشت فيه الفكرة ونمت في ظلاله.هذا وإنه ظلم فاضح أن نجعل من الشبهات الناشئة من سوء فهم الاسلام، والأحوال المضطربة الناتجة عن هذا الفهم، ذريعة إلي تلويث الاسلام، وتلطيخ صورته، أو الطعن علي جمهرة الفقهاء النبلاء، الذين ورثوا الأمة فقها ثريا متعدد المنازع والمشارب والأفكار، ووضعوا بين أيدي الأجيال عقلا كبيرا، يسبح بالأفكار، لم يستقر في ذاكرة أمة من الأمم العظمي مثله.كاتب من المغرب مقيم في امريكاQMK0