من الأشياء التي باتت تشغلني بوصفي أحد المواظبين على الكتابة منذ زمن طويل، مسألة النظرة الغريبة التي ينظر بها البعض عندنا للإنتاج المتواصل، أي أن ينتج الكاتب سنويا عملا روائيا أو قصصيا أو مسرحيا، وينشره. البعض هنا لا يقرأ ما أنتج، ولا يحاول أن يعرف كيف أنتج أو لماذا أنتج؟ لكن دائما ثمة اتهام اسمه: غزارة الإنتاج، وتقال أو تكتب تلك الجملة بمغص كبير. ولطالما التقيت في تنقلاتي المختلفة أشخاصا لهم علاقة بالكتابة أو الثقافة عموما، لا يطرحون معنى طيبا سلسا عن اللقاء لأول مرة، ولا يوحون مجرد إيحاء أنهم يعرفون شيئا عما أكتبه أو أدونه منذ سنوات طويلة، ولكن يقفزون إلى تلك الجملة التهمة مباشرة، وفعلا تحولت إلى جملة تهمة، حتى لو قيلت أو كتبت بحسن نية.
في حقل الكتابة، الذي هو حقل إبداعي في المقام الأول كما اتفق الجميع، توجد أيضا نواح وظيفية، أي أن يكون المبدع موظفا في الكتابة، ولا أعني أنه يؤدي الوظيفة بالطريقة المتعارف عليها من استيقاظ مبكر، والذهاب إلى مبنى قريب أو بعيد من بيته، والتوقيع على دفتر حضور وانصراف، وقضاء ساعات في الوظيفة، ثم العودة إلى بيته. ولكن أعني الوجود والانغماس الفعلي في حقل الكتابة، بحيث يقرأ باستمرار ويكتب باستمرار ما يرد إلى ذهنه من أفكار، ويعمل على نصه الذي تكون في الذهن وبدأت خطواته تتهادى على الورق أو شاشة الحاسوب، بطريقة منظمة وواعية. وهنا تأتي أهمية تنظيم الوقت، ووضع ساعات معينة للعمل الكتابي الذي يؤدى في أي مكان ملائم.
هناك من يكتب في بيته، في غرفة نومه، أو مكتب صغير يتخذه في البيت، هناك من يكتب جالسا على مقهى، وسط صراخ لاعبي الطاولة، ودخان النرجيلة، وتأتيه الأفكار حارة، ومزدحمة برغم ذلك. وهناك من يختار مكانا هادئا في فندق أو حتى يستأجر غرفة في ذلك الفندق، يقضي فيها وقت الكتابة، ثم يعود إلى حياته الطبيعية بمجرد أن ينتهي من نصه ويرسله إلى الناشر.
هذه طقوس تؤدى، وهناك كتب كثيرة صدرت في أوروبا أو عربيا تبين طقوس الكتابة المختلفة، وتحاور كتابا مهمين، يخضعون لنوع من هذه الطقوس. وأذكر عربيا كتاب الأديب السعودي عبد الله الداؤود الذي صدر منذ سنوات في أجزاء عدة، وجمع فيه بمجهود جيد طقوس الكتابة عند عشرات الكتاب الغربيين والعرب، وكان من الكتب المهمة التي وجبت قراءتها لكل مهتم بالشأن الإبداعي.
الطقوس هذه بالتأكيد لا تتناسب مع كاتب عابر أصدر رواية أو روايتين في حياته، أو أصدر رواية، وظل عشر سنوات ليصدر أخرى، وإنما مع الذين قلت بأنهم موظفون في هذه المسألة، وينتجون تماما مثلما ينتج الموظف في أي إدارة عادية، أو مهنة لا علاقة لها بالكتابة. الفرق هنا كما وضحت هو الوظيفة غير المقيدة بتوقيع، أو رئيس يكتب تقريرا عن الأداء، فتقرير الأداء لموظف الكتابة يكتبه القارئ الحقيقي، القارئ الذي يعرف كيف يقرأ الكتب ويفهمها ويستخرج الجوانب المضيئة منها قبل اللهاث خلف الجوانب المظلمة، وبعيدا عن ما أسميته القراءة بقصد الانتقاد.
ولا أنسى أن أذكر أنه ظهرت في السنوات الأخيرة ما سميت بالإقامة الإبداعية، أو عزلة الكتابة، وهنا تتولى جهة ما، منظمة، أو دار نشر كبيرة، استضافة كاتب جيد، وذي صوت مميز، في بلد بعيد عن بلده، بغرض اكتساب ثقافة جديدة، والكتابة اليومية في نص قد يكون مستوحى من بيئته العادية، أو بيئة البلد الذي استضيف فيه لأشهر أو عام في بعض الاستضافات. ورأيي أن هذه العزلة الكتابية برغم أهميتها، لكن ليست ناجحة دائما، خاصة عند الكتاب أصحاب الطقوس، ففي كثير من الأحيان، تأتي مسألة حرمان كاتب من طقوسه العادية التي يمارسها أثناء الكتابة برد فعل عكسي، وقد يقيم في تلك العزلة زمنا لا يستطيع أن ينتج فيه، أو ينتج نصا ليس بجودة ما يفعله دائما وهو حر في طقوسه ومكان سريانها.
نأتي لتقييم ما ينتج بغزارة كما تقول التهمة، ونتساءل: هل الكاتب الذي ينتج باستمرار، ينتج نصوصا ليست صالحة للقراءة؟ هل الكتابة كوظيفة تعد من أدوات التدهور في الكتابة؟
بالمقابل: هل الكتابة كل سبع سنوات أو عشر سنوات، تثمر نصا جيدا؟
لا طبعا، لا هذا يحدث ولا ذاك يحدث، والذي يحدث حقيقة أن النص الجيد ينتج في أي وقت سواء أن كتب مباشرة بعد نص جيد أيضا، أو كتب بعد سنوات من ذلك. والنص الرديء يظل رديئا ولو سخرت له الأبحاث المتعمقة، واستغرقت كتابته عشر سنوات كاملة.
لا يوجد مقياس أبدا، ولا تستطيع أن تقول بأن النص سيء لأنه كتب في عدة أشهر والنص الآخر مذهل لأن كاتب قضى فيه العمر كله، هذه مقاييس لم تثبت جدواها لا من القراء ولا من النقاد المتخصصين. فالذي يريد أن يقرأ بكفاءة سيتعرف إلى الجودة والرداءة في كل ما يقرأه، والذي يريد القراءة بسوء نية سيستخرج السوء من العدم.
أتطرق لتهمة غزارة الإنتاج عالميا وأسأل هنا:
هل يتهم الأمريكي بول أوستر بغزارة الإنتاج، وهو يكتب سنويا روايات ضخمة، من ذلك النوع الذي يستغرق زمنا في قراءته؟
هل ينطبق الأمر على التركية التي تكتب بالإنكليزية إليف شافاك؟ وأيضا جون غريشام، وستيفن كينغ، وكثير من موظفي الكتاب العالميين؟
لا طبعا، في الغرب تبدو وظيفة الكتابة أكثر احتراما، والذي ينتج باستمرار، يمنح مكافآت على ذلك. إنها دروس في الالتصاق الحقيقي بما تؤمن به وتعشقه، وطبعا لا نسعى لتفعيل ذلك عربيا لأنه غير ممكن، فقط لنسعى إلى اعتبار الكاتب السنوي، أو الموظف في الكتابة، شخصا مسالما لا يسعى إلى تدمير الأماكن العامرة، ولا يحمل سلاحا قد يؤذي به أحدا. الذي يريد المتابعة، فليتابع والذي لا يريد، لا مشكلة أبدا.
٭ كاتب سوداني
يسمي الشخص الذي يمتهن مهنة الكتابة باشكاتب سابقاً ،خاصة في الاعمال الرسمية ،اما كتابة القصص والروايات وغيرها فهي هواية وابداع وموهبة كامنة في الاعماق..
عنوان رائع (تهمة عربية)
فحكمة العرب لخصت ذلك بقول (كل إناء ينضح بما فيه) في طريقة الفهم ومن ثم التعبير عن ذلك،
ومن هنا إشكالية أهل ثقافة الأنا أولاً ومن بعدي الطوفان في دولة الحداثة، مع التعددية بداية من الزواج، ولماذا يسمح للرجل فقط وليس الأنثى؟!
ولتوضيح العجز العربي، هناك قصة سودانية، تحكي أن فلاح جالس تحت شجرة يحتسي الخمر على شط النيل، ورجله تبلبط في ماء النهر، ويدعو الله (يا رب مطر.. يا رب مطر)،
فإشكالية الحكومة السودانية في تمثيلها لثقافة الأنا وسوء الإنتاج للقطاع الخاص، وزاد الطين بلة قسوة قوانين الضرائب والرسوم والجمارك، في مصر والسودان لتغطية حاجة الميزانية.
فلذلك ليس هناك إنتاج زراعي أو صناعي أو خدمي في وادي النيل، يغطي حاجة الإنسان والأسرة والشركة وبالتالي حاجة الدولة لتغطية تكاليف الميزانية، على الأقل من وجهة نظري.??
??????
لن يكون هنالك مزاج صافي للكتابة في اوضاع عامة مؤلمة في كل المجالات الاجتماعية ،لذلك نجد ولادة الادب والكتابة التراجيدية الملتهبة ، رغم انها اصدق …