توازن القوى ومشهد الكتل السياسية بعد الانتخابات العراقية

صادق الطائي
حجم الخط
0

أفرز مشهد التدافع السياسي بعد انتخابات العاشر من تشرين الأول/اكتوبر الماضي نوعا من التوازن الهش للقوى السياسية، وشهدت الترويكا العراقية تنافسا وصل إلى حد التهديد باستخدام العنف في أكبر البيوت، البيت الشيعي، إذ سادت الضبابية وعدم الوضوح مواقف الكتل التي أفرزتها الانتخابات، لتبقى عدة أسئلة مفتوحة مثل؛ ما هو واقع التكتلات الجديدة؟ ما هي مواقفها السياسية المتوقعة بناء على معطيات الائتلافات الجديدة؟ ما مدى تأثير المحيط الإقليمي على تلك المعطيات؟

التوتر الشيعي

الكتل الشيعية وصراعها هو النقطة الأبرز في معطيات نتائج الانتخابات الأخيرة، إذ مثل فوز الكتلة الصدرية بعدد المقاعد الأكبر في البرلمان الجديد محركا لتجمع بقية الكتلة الشيعية فيما بات يعرف باسم «الإطار التنسيقي» وهو ائتلاف مكون من كتلة الفتح التي تمثل الجناح السياسي للفصائل الولائية المسلحة القريبة من طهران، مع كتلة دولة القانون التي يقودها رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي المدعوم من طهران، مع بعض الكتل الولائية الصغيرة. الهدف الأساسي لهذا التكتل هو الوقوف بوجه الكتلة الصدرية، وحرمان مقتدى الصدر من الانفراد بترشيح رئيس حكومة صدري. وقد أخذ التنافس بين الجناحين الشيعيين بالتصاعد منذ الدقائق الأولى لإعلان نتائج الانتخابات التي أفرزت تفوقا واضحا للصدريين وتراجعا كبيرا في عدد مقاعد كتلة الفتح.
وقد أشار مقتدى الصدر في أعقاب صدور النتائج الأولية للانتخابات، في خطاب متلفز إلى الفصائل الولائية المنضوية تحت مظلة الحشد الشعبي، بقوله؛ «يجب حصر السلاح بيد الدولة، ومنع استعمال السلاح خارج هذا النطاق وان كان ممن يدعون المقاومة» وأكد على أنه «آن للشعب أن يعيش بسلام بلا احتلال، ولا إرهاب، ولا ميليشيات تنقص من هيبة الدولة» في إشارة واضحة إلى خصومه من الفصائل الموالية لإيران.
بينما استجمعت فصائل «الإطار التنسيقي» كل قواها لتطعن بنتائج الانتخابات أولا، ولتطلق حملة إعلامية ترتكز على الاتهامات الموجهة لرئيس الحكومة مصطفى الكاظمي، والمفوضية العليا للانتخابات، الذين اتهمتهم بتزوير الانتخابات والتلاعب بنتائجها عبر تهكير السيرفرات الخاصة بمعلومات الانتخابات، والادعاء بأنها موجودة في دولة الإمارات العربية، مما أوجد نظرية مؤامرة مفادها أن الإماراتيين تدخلوا لإطاحة كتلة الفتح، وبالتالي السعي لحل الحشد الشعبي، والدفع باتجاه حصول مصطفى الكاظمي على ولاية ثانية كمرشح للسيد مقتدى الصدر، وعندها سيسعى الكاظمي، بحسب نظرية المؤامرة التي تروجها القنوات الإعلامية الولائية، لتطبيع العلاقات العراقية الإسرائيلية بمباركة إماراتية.
الموقف الإيراني من الصراع الشيعي – الشيعي بدا متوترا، وبشكل خاص بعد اندلاع موجة تظاهرات الخاسرين في الانتخابات يوم 17 تشرين الأول/اكتوبر الماضي. إذ تحولت التظاهرات لاعتصام مفتوح وعمليات قطع طرق قام بها جمهور كتلة الفتح المكون من منتسبي الحشد الشعبي المعتصمين في مدخل المنطقة الخضراء، ونتيجة الدفع باتجاه اقتحام المنطقة الخضراء حصلت صدامات يوم 5 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري بين المتظاهرين وقوى الأمن سقط نتيجتها عشرات الجرحى، كما ادعت جهات إعلامية تابعة لكتلة الفتح والفصائل الولائية سقوط «شهداء» في هذه الصدامات، بينما نفت وزارة الصحة العراقية ذلك.
التصاعد الأخطر في هذا النزاع، تمثل بمحاولة اغتيال مصطفى الكاظمي رئيس الحكومة المنتهية ولايته يوم 10 تشرين الثاني/نوفمبر بطيارات مسيرة قامت بتنفيذ هجوم على مسكنه في المنطقة الخضراء، إلا أن الهجوم لم يسفر سوى عن جرح بضعة عناصر من أفراد حماية رئيس الحكومة، كما أنتشرت موجة تكذيب واسعة في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي مدعية أن الكاظمي وجهازه الإعلامي هم من لفقوا الأمر لكسب التعاطف والدعم الداخلي والخارجي، والتملص من تهمة قتل المتظاهرين.
الإيرانيون استشعروا خطر التصعيد، فجاء قائد فيلق القدس الجنرال اسماعيل قاآني مسرعا لبغداد لنزع فتيل الأزمة، ومحاولة جمع أطراف النزاع لطاولة المفاوضات والاتفاق على مسار ائتلافي يقود لولادة الحكومة المقبلة. النتيجة كانت اجتماع تهدئة وبيان صدر عن قوى الإطار التنسيقي جاء فيه «تم عقد اجتماع بحضور رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء، ورئيس مجلس القضاء، وبحث الاجتماع ثلاث قضايا رئيسة هي؛ استهداف المتظاهرين السلميين، واستهداف منزل رئيس الوزراء، والاعتراضات على نتائج الانتخابات». وأضاف البيان أن «الاجتماع خلص إلى عدة نقاط، هي إدانة جريمة استهداف المتظاهرين وإكمال التحقيقات القضائية المتعلقة بها، ومحاسبة المتورطين بهذه الجريمة، ورفض وإدانة جريمة استهداف منزل رئيس الوزراء وإكمال التحقيق بها ورفد فريق التحقيق بفريق فني مختص لمعرفة كل حيثيات الجريمة وتقديم المسؤولين عنها للقضاء». وتم الاتفاق على خفض التوتر وإيقاف التصعيد الإعلامي من جميع الأطراف، وإزالة جميع مظاهر الاستفزاز في الشارع. هذا الأمر نقل مستويات الصراع إلى الغرف المغلقة التي ينتظر الفاعلون السياسيون نتائجها التي ربما ستسفر عن آليات تشكيل الحكومة المقبلة.

مشهد الكتل السياسية

الكتل السياسية السنية في الانتخابات الأخيرة شهدت تراجع قوى الإسلام السياسي السني الممثلة بالحزب الإسلامي لصالح القوى العشائرية والمناطقية التي تجمعت في ثلاث كتل رئيسية بالإضافة لبعض الكتل الصغيرة. الكتلة الأولى هي «تقدم» بقيادة محمد الحلبوسي، رئيس البرلمان المنتهية ولايته، والذي حصل على 37 مقعدا في البرلمان المقبل ليمثل أكبر كتلة سنية. بينما حصلت الكتلة المنافسة، عزم، التي يقودها خميس الخنجر على 14 مقعدا بتراجع بسيط عن مقاعدها في الانتخابات السابقة، لكن بدا تراجع الكتلة الثالثة، متحدون، واضحا، إذ تراجعت الكتلة التي يقودها السياسي الموصلي اسامة النجيفي رئيس البرلمان الأسبق لتحصل على مقعد واحد فقط في البرلمان المقبل. ويشير عدد من المختصين بالشأن العراقي إلى أن» السبب في استحواذ كتلتي تقدم وعزم على أصوات المكون السني تمثل في اعتبارات عدة أهمها القدرة المالية، والماكينة الإعلامية والتأييد العشائري لهذين التحالفين».
وبالرغم من إن الكتل السنية، الكبيرة منها والصغيرة، قد حصدت ولأول مرة منذ 2005 حوالي 70 مقعدا في البرلمان المقبل، إلا أن هذا الأمر لا يعني تغيرا في موازين القوى، إذ أن هذه الكتل تعاني من التفتت والتنافس الشديد على كسب الامتيازات الحكومية والمالية، وبالتالي نحن أزاء احتمالية تشتت هذه القوة في البرلمان المقبل.
وإذا نظرنا إلى موقف الكتل الكردية سنجد أن نتائجها كانت جيدة مقارنة بالدورات الانتخابية السابقة، وبالرغم من أن الأكراد باتوا منذ انتخابات 2018 ينزلون الانتخابات الاتحادية بقوائم متعددة وليس بقائمة كردستانية واحدة، إلا أن ما يجمع هذه القوائم بقي متمثلا في محاولة الحصول على أكبر مكاسب ممكنة من حكومة بغداد لتوفير وضع مريح لحكومة الإقليم بجناحيها في أربيل والسليمانية. وقد فاز في الانتخابات الأخيرة الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يقوده مسعود بارزاني بـ 32 مقعدا ومثل الكتلة الكردية الأكبر في البرلمان الاتحادي وهذا أمر كان متوقعا. يليها كتلة تحالف كردستان المكونة من الاتحاد الوطني الكردستاني وحركة تغيير بـ 16 مقعدا، حصل عليها جميعها حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، بينما لم تحصل حركة تغيير على أي مقعد ما مثل مفاجأة في تراجع أداء هذه الحركة. بينما حققت حركة الجيل الجديد المعارضة التي يقودها رجل الأعمال الكردي شاسوار عبد الواحد على تسعة مقاعد في تقدم لافت لأداء هذه الحركة الفتية. وكان حال الكتل الكردية مثل حال الكتل السنية، إذ أن الكرد حصلوا على حوالي 60 مقعدا في البرلمان المقبل، إلا إنهم لن يتحركوا ككتلة كردية واحدة لتحقيق مصالح الكرد في البرلمان الاتحادي، انما سيلعب التنافس والاقتتال الخفي بين مكونات الكتلة الكردية، ومحاولات الحصول على مكاسب ومناصب في الحكومة الاتحادية أو حكومة الإقليم دورا في تفتيت قوة الكرد في البرلمان المقبل.

كتلة تشرين والمعارضة البرلمانية

الأمر الجديد الذي تجدر الإشارة له في المشهد السياسي العراقي هو بروز كتل سياسية تتكلم باسم حراك تشرين الاحتجاجي، إذ شاركت عدة حركات تشرينية في الانتخابات الأخيرة، بالرغم من أن التيار الأكبر في حركة تشرين كان يميل إلى مقاطعة الانتخابات. لكن بعض الحركات المنبثقة من ساحات الاحتجاجات حققت انجازا مهما، وهذا هو حال كتلة «امتداد» التي يقودها علاء الركابي والتي خرجت من رحم حركة الاحتجاج في مدينة الناصرية مركز محافظة ذي قار، والتي مثلت أبرز ساحات حراك تشرين، وقد حصلت حركة «امتداد» على تسعة مقاعد في البرلمان المقبل. كما يمكننا الإشارة إلى فوز المستقلين بـ 40 مقعدا، بينهم عدد من الشيوعيين ممن لم يخضعوا لقرار حزبهم القاضي بمقاطعة الانتخابات. ويدور اليوم حديث عن مساع لتشكيل كتلة معارضة برلمانية حقيقية من التشرينيين والمستقلين لأول مرة في تاريخ البرلمانات العراقية منذ 2005 لكنها لم تتبلور بوضوح حتى الآن.
اليوم يقف الشارع العراقي منتظرا نتائج حراك الكتل السياسية التي شكلت خريطة المشهد الذي أفرزته الانتخابات المبكرة في تشرين الأول/اكتوبر الماضي، وهناك اعتقاد مفاده إننا أزاء مشهد مقارب لما حصل بعد انتخابات 2018 إذ لم تفرز حينذاك الكتلة الأكبر في البرلمان ليتم تكليفها بتشكيل الحكومة، فذهب الفرقاء إلى خيار اختيار رئيس حكومة توافقي. فهل نحن مقبلون على نفس السيناريو؟ هذا ما سيتضح في الأسابيع المقبلة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية