قرار الإدارة الأمريكية بخفض المساعدات العسكرية زاد من التوتر المتصاعد بين القاهرة وواشنطن. والتخفيض لا يستهدف القيمة النقدية للمساعدة، وهدفه الحقيقي هو المستوى النوعي للسلاح، ومنع القرار توريد الصواريخ ومروحيات الأباتشي وقطع غيار الدبابات، وكان القرار الأمريكي متوقعا منذ ما بعد ثورة 25 يناير، وتحسبت له القوات المسلحة، وشجعت ضباطها وخبراءها على الانخراط في دورات لتعلم اللغة الروسية، في معهد القوات المسلحة للغات، لتهيئتهم لاحتمال إرسالهم إلى روسيا في دورات عسكرية لاستيعاب الأسلحة الروسية.
وهاجس توريد السلاح أو تصنيعه ليس جديدا في مصر، وكان مستفحلا مع زيادة النفوذ الأوربي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهو نفوذ انتهى باحتلال بريطانيا لمصر عام 1882 ودائما ما تكون معركة كسر احتكار السلاح معركة وطنية وعربية بامتياز، وتلازمت حديثا مع سعي مصر للتحرر من الاحتلال، وكانت مواكبة لتوابع زلزال اغتصاب فلسطين وقيام الدولة الصهيونية، التي كشفت غارتها على القوات المصرية في غزة سنة 1955 واستشهاد 38 جنديا مصريا وعشرات الجرحى المدنيين والعسكريين، من المصريين والفلسطينيين، كشفت صحة الموقف الرافض للوظيفة العنصرية والعدوانية والاستيطانية للدولة الصهيونية، وغير القابل بأن تكون الكيان الأقوى من كل الدول العربية مجتمعة.
وأمام خطر التدخل المتوقع حماية لطبيعتها وتعزيزا لأمنها بدأ السعي مجددا لكسر احتكار السلاح، وعلت الأصوات تطالب بإدارة الظهر للولايات المتحدة والتوجه نحو روسيا والصين وكوريا الجنوبية والهند، وبدأت أقلام تطالب باستئناف مصر لبرامج التصنيع العسكري وإنتاجه، وصار رفض الوصاية الأمريكية مطلبا عاما، يحظى بإجماع وطني واضح، إذا ما استثنينا جماعات وأحزاب الإسلام السياسي، وبعض جيوب الفوضويين واليساريين الطفوليين، المعادية بطبيعتها للاستقلال الوطني.
وهاجس السلاح والتصنيع العسكري ليس جديدا، فقد كان النهوض بالجيش المصري وتحديثه هو الشغل الشاغل لمحمد علي منذ بداية حكمه عام 1805، وعمل على توفير ما يكفيه من السلاح والذخيرة والعتاد، وبنى عام 1820 ترسانة القلعة للصناعات الحربية، وأنتجت زناد البنادق والسيوف والرماح وحقائب الجنود وحوامل السيوف وآلات البلطجية (حاملو البلط) واللغمجية (صناع الألغام) ولوازم الخيول من اللُّجم والسروج والأبازيم وقِرب الماء وأطقم وحدوات الخيل والجلود المدبوغة. ونجحت صناعة المدافع وعربات حمل المدافع، وبنى المصانع الضخمة لإنتاج الذخيرة وصناديق البارود ومواسير البنادق وألواح النحاس لتجهيز السفن، والآلات البخارية شديدة الضغط.
وأهم ما أنشأ محمد علي كان ترسانة الطوبخانة لصناعة المدافع، ورصد الجبرتي في مدونته عن أحداث شهر ذى القعدة سنة 1231هـ/ 1815 مكان سبك المدافع وعملها وقياساتها وقذائف المدافع وارتفاعها ومقاديرها.
واحتوى مصنع المدافع عدة أقسام لسبك المدافع وصهر المعادن وصناعة عربات المدافع ولوازمها، وكانت طاقته إنتاج أربعة مدافع شهريا، بجانب قسم لصب مدافع الهاون، وانتاج مدافع بقطر أربع وعشرين بوصة، وكان ذلك تقدما مهولا بمقاييس تلك الحقبة.
ورافق ذلك تقدم الصناعات المدنية والمشروعات الكبرى في مجالات الزراعة والري وبناء القناطر والسدود على نهر النيل وشق الرياحات والترع والمصارف المائية، مع الاهتمام البالغ بالتعليم وبناء المدارس العامة والمتخصصة، متوسطة وعليا، وعاشت مصر نهضة علمية كبرى، حتى تكالبت عليها الإمبراطوريات الأوربية وتُوَقع معاهدة لندن 180، فتقضي على الصناعات الحربية والمدنية وتقلص الجيش إلى 18 ألفا جندي، وتحصره داخل حدود مصر!! وعندما وقفت مصر على مشارف النهضة الثانية في النصف الثاني من القرن الماضي اعتبر المؤرخون أن يوم السابع عشر من اكتوبر 1954، بداية استئناف الصناعات الحربية، وفيه أنتجت مصر أول كميات ذخيرة فعالة بالمعايير العلمية والعسكرية والدولية، وعادت عجلة الإنتاج الحربي إلى الدوران، وهلت الستينات (وما أدراك ما الستينات)! ومصر تنتج صواريخ ومحركات طائرات نفاثة، وعقدت اتفاقا مع الهند لإنتاج محرك طائرة نفاث في مصانع حلوان بالقرب من القاهرة، وتولت الهند إنتاج جسم الطائرة في ولاية هندستان، وتم تركيب المحرك المصري على جسم الطائرة الهندي في حفل حضره سفير الهند بمصر وعدد من العسكريين الهنود، ودخلت مصر عصر صناعة الصواريخ بمساعدة علماء ألمان، وتسبب وجودهم في حرب خفية شنتها الحركة الصهيونية. وهي حرب ممتدة لا تتوقف، لمنع التصنيع الحربي.
وحتى حين وفرت مصر جزءا كبيرا من التمويل اللازم، بتدوير مخلفات الصناعات الحربية وهوادر الخامات واستغلتها في تصنيع الأجهزة المنزلية، ثلاجات وغسالات وأفران غاز (بوتاجاز)، التي وجدت رواجا كبيرا، حتى هذه استُغلت في الحرب النفسية ضد التصنيع الحربي، واتخِذت دليلا على فشله، ومع دخول مصر عصر التبعية الأمريكية تراجعت تلك الصناعات، ولولا ذلك لكانت مصر في مصاف الدول الكبرى المنتجة للسلاح. وكانت كواليس المؤتمر الأسيوي الإفريقي في باندونج في الثامن من إبريل 1955 دورا كبيرا في فتح نافذة جديدة على تنويع مصادر السلاح، وفيه التقى شو إن لاي رئيس وزراء الصين، وجواهر لال نهرو، رئيس وزراء الهند مع عبد الناصر لأول مرة، وقد كان مشغولا بالتهديدات التي تواجه مصر، وموقف الغرب الرافض لتسليحها، ونُصِح عبد الناصر بالاتصال بالاتحاد السوفييتي بهذا الخصوص، ونقل شو إن لاي إلى القادة السوفييت رغبة عبد الناصر، وحين أفصح (عبد الناصر) عن نيته في كسر احتكار السلاح بعد عودته من مؤتمر باندونج لم تأخذ لندن أو واشنطن كلامه مأخذ الجد، واعتقدتا أنه يمارس ضغوطه عليهما رغم نصيحة سفيريهما بأنه يعنى ما يقول.
وبحثت موسكو الطلب المصري بالجدية اللازمة، وخلال فترة وجيزة طلب السفير السوفييتى في القاهرة دانيال سولود مقابلة عبد الناصر لتسليمه رسالة من القادة السوفييت، متضمنة موافقتهم على طلب مصر بشأن الحصول على الأسلحة. ويذكر الوزير الأسبق سامي شرف، سكرتير عبد الناصر في مذكراته، أن التنفيذ بدأ على الفور، وتشكل فريق عمل مصري برئاسة عبد الناصر وضم عبد الحكيم عامر وعلي صبري وسامي شرف ومحمد حافظ إسماعيل ونور الدين قرة، وتوجه وفد عسكري من محمد حافظ إسماعيل وعباس رضوان للسفر إلى براغ، وقد حرص الجانب السوفييتى على إتمام الصفقة عن طريق تشيكوسلوفاكيا تجنبا لإثارة الغرب. وأحيطت الصفقة بسرية كاملة، ونصت الاتفاقية الموقعة بين القاهرة وموسكو على أن تشتري مصر أسلحة سوفييتية تشمل مقاتلات ‘ميغ’ وقاذفات ‘إليوشين’ و’توبوليف’، ودبابات’من طراز ‘ستالين’ و’ت 54 و55′ وغواصات ومدافع ميدان وأخرى مضادة للطائرات من عيارات ثقيلة وخفيفة، وزوارق طوربيد وعربات مدرعة ونظام راداري كامل، ويسدد الثمن بالمقايضة مقابل قطن وأرز وسلع تقليدية، وفترة سماح مدتها أربع سنوات، ويُقسط الثمن على عشرين سنة بفائدة 2′ سنويا. وحاولت واشنطن إثناء عبد الناصر عن إتمام الصفقة، وكانت قد وصلتها أخبار مسرّبة بلا قصد من عضو في مجلس قيادة الثورة في حديث مع الصحافي مصطفى أمين، وثيق الصلة بالمخابرات الأمريكية، وعلى الفور أوفدت واشنطن مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط جورج آلن، وقيل أنه يحمل إنذارا لعبد الناصر، الذي بحث عن مناسبة يتحدث فيها إلى الشعب، ولم يجد سوى معرض صور للقوات المسلحة. وفي كلمته أمام حضور الافتتاح، وكان عددهم لا يتجاوز سبعين شخصا، أعلن عن الصفقة التشيكية في 27 سبتمبر 1955. وأثارت الصفقة عاصفة من ردود الأفعال. وطلب السفير البريطاني في القاهرة لقاء عاجلا بعبد الناصر، زاعما أن الصفقة تتعارض مع اتفاقية الجلاء وتهدد أمن القاعدة البريطانية في منطقة القناة، وأن الأسلحة قادمة من بلد شيوعي’وتستلزم وجود فنيين وخبراء أجانب، ورد عبد الناصر بعدم وجود نص في الاتفاقية يمنع شراء الأسلحة من أي مصدر، وعدد الفنيين سيكون محدودا، وسوف تكون أماكن التدريب بعيدة عن القاعدة، ثم سأله السفير عن إمكانية إلغاء الصفقة؟ فأجابه بأن ذلك قد يؤدي إلى ثورة في الجيش المصري. وفي نيويورك عقد وزراء خارجية أمريكا وبريطانيا وفرنسا اجتماعا لم يكن موضوع الصفقة مدرجا على جدول أعماله، وأصدروا بيانا مشتركا يقول: ‘أن سياسة الدول الثلاثة تهدف إلى تمكين دول الشرق الأوسط من المحافظة على أمنها الداخلي، والدفاع عن سلامتها، وتجنب قيام تسابق بينها على التسلح لأن ذلك سيولد مزيدا من التوتر في المنطقة’. وأعلنت الحكومة البريطانية أن شراء أسلحة سوفييتية يقلب الأوضاع، ويجعل التصريح الثلاثي الصادر في عام 1950 غير ذي موضوع، ويدفع إسرائيل للمطالبة بمزيد من الأسلحة، ووجهت واشنطن احتجاجا إلى الاتحاد السوفييتي، واتهمته بالصيد في الماء العكر. ومثل كسر احتكار السلاح نقطة فاصلة في علاقة واشنطن بثورة يوليو، وكان أساس صياغة جديدة للعلاقات الدولية، وفيها باعت موسكو السلاح لأول مرة لدولة صاعدة غير شيوعية، وتقع في منطقة حساسة للغاية بالنسبة للإستراتيجية الأمريكية. واستقبل الرأي العام العربي الصفقة بحماس شديد، واتخذ مجلس النواب السوري قرارا بتهنئة عبد الناصر على الصفقة التي كسرت الحصار المفروض على تسليح العرب، وأشادت الصحف العربية بالخطوة، وبعث نوري السعيد رئيس وزراء العراق مهنئا عبد الناصر، أملا في الخروج من عزلته العربية بسبب دوره في ضم العراق لحلف بغداد. وكان جهاز المخابرات المصري قد اخترق مبنى الكنيسة الإنجليزية بالقاهرة في 1953 بعد ورود معلومات عن نشاط مشبوه داخلها، وطلب عبد الناصر التأكد من صحتها. وعثر في خزانتها على وثائق باللغة الإنجليزية، تضمنت رسائل متبادلة مع جهاز المخابرات البريطاني إم آي 6، ومحاضر اجتماعات المستشار الشرقي بالسفارة البريطانية بالقاهرة المستر إيفانز بقيادات إخوانية في منزل أحمد سالم بالمعادي، وطلب الجانب البريطاني إقناع اللواء محمد نجيب باستخدام الجيش في تهيئة الرأي العام لإحكام سيطرته على السلطة، وتحريض الإخوان للعمل ضد الثورة، وشارك في الاجتماعات المرشد العام الثاني حسن الهضيبي وصالح أبو رقيق وأحمد سالم! وأخطر ما تم العثور عليه وثيقة معنونة باسم”روديو’ ومصنفة ‘سرّية للغاية’ وتشمل خطة بريطانية لإعادة احتلال مصر، خاصة منطقة الإسكندرية والدلتا، وفي وقت كانت تُجرى فيه مفاوضات لإجلاء القوات البريطانية عن منطقة قناة السويس، وتخليص مصر من النفوذ الأجنبي، كان معنى الخطة هو رفض بريطانيا التسليم بالواقع الجديد، وظلت مصر هدفا لأي مخطط بريطاني، وهدفا مضافا على رأس أولويات واشنطن، وكانت تتحين الفرص لتنفيذه، ولم تتوقف معركة كسر احتكار السلاح عند هذا الحد.. وهناك تداعيات أخرى نوردها تباعا إن شاء الله.
‘ كاتب من مصر يقيم في لندن
انها حدوتة مصرية جديدة من اخراج العسكر و تمثيل وزير خارجيتهم
الله أكبر ، بارك الله فيك لا سيد دياب . و الي الإمام إنشاء الله !
مقال رائع و مفيد يذكرنا بتلك الأيام و لا أنسى أيضا مجهود الشعب المصري في جمع التبرعات لشراء السلاح و أذكر عددا من مجلة المصور و على غلافه صورة ممثله شهيره (و لعلها فاتن حمامه؟) تحمل صندوقا لجمع التبرعات و قصة السلاح هي قصة الكرامه إن كانت ضد الإستعمار أو ضد إسرائيل و قد استطاع محمد علي و عبد الناصر تفعيلها إلى سلاح باليد و نحن في انتظار المزيد من قلم الأستاذ دياب.. شكرا !
thank you mr diab for this
ماذا يفعل الجيش المصري بالسلاح فإسرائيل أصبحت الصديق (السوبر) وحماس التي صارت عدوه لا تحتاج لكل هذا السلاح لغزوها اما الشعب المصري فله رب يحميه
حديث استنهاضي لكل مشاعر القوميّة والعروبة في نفوس الغيارى على أمّة العرب , وخاصّة أولئك الشيوخ (الأطفال) , الّذين عايشوا إعلان قيام الكيان الصهيوني عام 1948 , ومن ثمّ قيام الثورة المصريّة وبروز القائد الرمز المرحوم بإذن الله , جمال عبد الناصر . يقولون , الويل لأمّة لا تأكل ممّا تزرع , ولا تلبس ممّا تصنع , لكنّ هذا المقال بيّن لنا نحن ,معشر (المستكتلين) على رؤية الأمّة العربيّة , وقد بلغت إكتفاء” ذاتيّاً في كلّ ما تحتاج من متطلّبات الحياة , بيّن لنا , بأنّ الغرب يفرض نفسه ليكون الوصي على شؤوننا , لا بل الآمر الناهي والمقرّر لما يمكن أن تؤول إليه مصائرنا , حتّى نبقى في حالة وهن , لا تمكّننا من أن نعدّ له ما استطعنا من قوّة , نرهبه بها , عدوّاً للّه وعدوّاً لنا .
مصر التي بدات صناعة السلاح في الستينيات قبل كل دول العالم الثالث في الستينيات قادرة علي تصنيع الأسلحة المتقدمة ………. المهم الأرادة