توثيق الموسيقى العربية: من ميخائيل مشاقة إلى صباح فخري

حجم الخط
1

كان توثيق الموسيقى العربية واحداً من هواجس موسيقيي عصر النهضة، منذ الثلث الأول من القرن التاسع عشر، وصولاً إلى مطلع القرن العشرين، خصوصاً بعد إتقان بعض الموسيقيين تدوين «النوتة» في السلالم الموسيقية المعروفة في الغرب. ومع توسع استخدام اسطوانات الفونوغراف ووصولها إلى البيوت، غدا التوثيق حقيقة مسموعة، إذ أن الغالبية الساحقة من الألحان القديمة التي يعرفها أبناء عصرنا، ما كانت لتصل لولا الاسطوانات التي انتشرت منذ مطلع القرن العشرين.
ويمكننا القول إن أول من وثّق للموسيقى العربية في كتاب هو الطبيب والمؤرخ الدمشقي ميخائيل مشاقة (1800- 1888) فقد وضع في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، بتشجيع من الأمير بشير الشهابي كتابه المسمى «الرسالة الشهابية في الصناعة الموسيقية» الذي خصصه لتوثيق الإيقاعات والأنغام الشرقية ومقاماتها، وما يتصل بذلك من تعريف بالآلات الشرقية وخصائصها، إضافة إلى إفراد فقرات مهمة توضح الفروق بين الموسيقى العربية المشرقية والموسيقى البيزنطية.
وبعد نحو ثلاثة عقود أصدر محمد بن إسماعيل بن عمر شهاب الدين (كان حياً عام 1868) وهو أحد المهتمين بتوثيق الموشحات العربية في القاهرة، كتابه الشهير «سفينة الملك ونفيسة الفلك» الذي جمع فيه نصوص الموشحات الرائجة في عصره، وذكر المقامات الموسيقية التي تؤدى بها، مع الإيقاعات التواقيع. وقد أسهم هذا التوثيق في إنقاذ بعض الموشحات من الاندثار، رغم أن مجرد ذكر الإيقاع والمقام الموسيقي غير كافيين، لكن حسنة ذلك الكتاب تبينت في الدراسات المقارنة اللاحقة، خصوصاً في منتصف القرن العشرين إذ كان يشهد طفرة توثيقية موسيقية غير مسبوقة.

ريادة كامل الخلعي

وفي عام 1895 وضع الشيخ أبو خليل القباني (1842- 1902) كتاباً بعنوان «رسالة في ضوابط الأنغام أصولاً وفروعاً» لكنه لم يصل إلينا، مثله كمثل الكثير من إبداعات القباني، وعلى الأرجح فقد وصل إلى تلميذه محمد كامل الخلعي (1880- 1938) الذي استفاد كثيراً من معارف معلمه، في مشروعه الكبير الذي يعد المشروع العلمي الأول والأكبر، في توثيق الموسيقى العربية.
أتاحت الظروف للخلعي أن يتعلم كتابة النوتة الموسيقية مبكراً، والتقى في حداثة سنه بالشيخ القباني وانضم إلى فرقته. وقد أتاح له هذا العمل فرصة لا تقدر بثمن للتعرف على أعلام الموسيقى والغناء والمسرح، ممن اشتهروا في القرن التاسع عشر، أمثال فريد عصره، ووحيد دهره الشيخ عثمان الموصلي، وعبقري الموشحات من أبناء القرن الثامن عشر الشيخ عبد الرحيم المسلوب، مبدع موشح «لما بدا يتثنى» الذي جاوز المئة من عمره، بالإضافة إلى مجددي ذلك الزمن أمثال محمد عثمان وعبدو الحمولي، حيث ذكر الممثل عمر وصفي أنهم كانوا من أصدقاء أستاذه القباني وضيوفه الدائمين في بيته القاهري.
وكان كتاب «الموسيقى الشرقي» هو باكورة إنتاج الخلعي التوثيقي، إذ جمع فيه نسبة مهمة من الموشحات الرائجة في عصره، وقد نسب كل موشح لصاحبه، وهذه نقلة كبرى في التوثيق، لم يعتد كتاب ذلك العصر الاهتمام بها، فضاعت أسماء الكثير من الملحنين، ووصلت إلينا بصيغة غائمة تقول «لحن قديم». وقد بدا إلمام الخلعي بالموسيقى الشرقية، سواء منها المصرية، أو السورية، أو العراقية لا يبز، فهو أخذ أنغامها وإيقاعاتها عن أهم أعلامها ومرجعياتها المكرسة في تلك البلدان، ولا مبالغة في ذلك، فمعظم ما نعرفه اليوم من الموسيقى والموشحات الشرقية هو تأليف واحد من الأسماء التي ذكرناها قبل قليل. وقد أضاف الخلعي التفاصيل اللحنية على نصوص المسرحيات، التي كان يعمل عليها، وكانت أولى المحاولات الناجحة مسرحية «عفيفة» للقباني، التي أتت غاية في الكمال من حيث التوثيق والدقة، بفضل عناية الخلعي بطبعها بعد وفاة معلمه في دمشق عام 1902. أما النوتات الموسيقية للموشحات والأدوار والطقاطيق، فقد طبع نزراً يسيراً منها في كتبه، بينما كان يحتفظ بالباقي في أرشيفه الشخصي، الذي تسرب بعد وفاته إلى مختلف الجهات الثقافية والموسيقية في مصر، لكنه، في النهاية، أدى مهمته، وحافظ على النغمات والإيقاعات العربية المشرقية، وحفظها بشكل نهائي ودائم. وقد أكمل مسيرته التوثيقية بكتابين آخرين هما «نيل الأماني في ضروب الأغاني» و»الأغاني العصرية». ولعل المأثرة المهمة للخلعي أيضاً، التي لا تقل في أهميتها عن توثيق الموسيقى وإيقاعاتها، هي توثيقه لحياة موسيقيي عصره، وكتابة سير مطولة أو موجزة لهم، ولولاه لما عرفنا عنهم إلا القليل، فقد كتب أول سيرة شخصية لأبي خليل القباني بعد وفاته بعام واحد، وكذلك سيرة لعثمان الموصلي، وعبده الحمولي، ومحمد عثمان، وسلامة حجازي. ويبدو أن الخلعي تنبه مبكراً لأهمية التوثيق الصوتي، لكن الظروف لم تسنح له لتحقيق حلمه، فقد كان الأمر مكلفاً ويحتاج إلى أموال طائلة، لم يكن أحد يملكها سوى الشركات الكبرى.

غير أن النقلة التوثيقية الصوتية الأهم جاءت في مؤتمر الموسيقى العربية في القاهرة عام 1932، حيث سعى الشيخ علي الدرويش، إلى تسجيل عدد كبير من الأسطوانات لمختلف صنوف الغناء العربي، الشعبي منها والجهوي، من مصر وتونس والجزائر والمغرب، وصولاً إلى الموشحات والأدوار.

التوثيق الصوتي

ومع أن محاولات التوثيق الصوتي للموسيقى العربية، قد بدأت فعلياً في معرض شيكاغو عام 1893، عندما سجل قسم الأنثروبولوجيا في المعرض أغنية لأبي خليل القباني غنتها المطربة ملكة سرور، وبعض الألحان والمقامات المستخدمة في سوريا العثمانية، يضاف إلى ذلك تسجيلات لعبده الحمولي ومحمد عثمان في عام 1895 خلال وجودهما في إسطنبول في ضيافة أحمد عزت باشا العابد، إلا أن مسيرة التوثيق الصوتي للغناء العربي، لم تبدأ بشكل مسحي إلا مع شركات جرامافون، وزينوفون، وبيضافون منذ عام 1905، حيث اضطلعت شركة بيضافون بالدور الأبرز في ذلك، واستطاعت خلال سنوات قليلة تسجيل مئات الأسطوانات لمطربي مطلع القرن العشرين، من مختلف مدن بلاد الشام ومصر. ولئن كان الهاجس التجاري ما يقف وراء عمل هذه الشركات، إلا أنها حفظت لنا بعض الموشحات، وأغلب الأغاني الخفيفة التي كانت تغنى في مطلع القرن العشرين، سواء في حلب ودمشق وبيروت، أو في القاهرة والإسكندرية، حيث سجلت أسطوانات للكثير من الأسماء التي لا نكاد نعرف عنها شيئاً اليوم، خصوصاً مطربات القرن التاسع عشر أمثال طيرة الحكيم وأغنيتها «عالهيلا» وحسيبة موشي وموشح «يا غصن نقا» وجميلة سعادة وأغنية «يا صالحة» وهؤلاء الثلاث من مطربات دمشق اللواتي ذكر أسماءهن وأسماء غيرهن الزعيم فخري البارودي في مذكراته.

فتوحات علي الدرويش

وفي هذه الفترة كان الموسيقي الحلبي الشهير الشيخ علي الدرويش (1882 – 1952) قد أنهى بحوثه الميدانية، ودراساته النظرية في أصول الموسيقى الشرقية، خصوصاً العربية منها، فنجح في توثيق الكثير من الموشحات القديمة والقدود الحلبية، خصوصاً فاصل «اسق العطاش» وفواصل ترافق عادة رقص السماح، وبدأ بعدها مسيرته في تأسيس المعاهد والأندية الموسيقية في العالم العربي، من حلب إلى بغداد إلى تونس إلى القاهرة والقدس، ووضع لها أصول ومناهج عملها ونوتاتها الموسيقية.
غير أن النقلة التوثيقية الصوتية الأهم جاءت في مؤتمر الموسيقى العربية في القاهرة عام 1932، حيث سعى الشيخ علي الدرويش، إلى تسجيل عدد كبير من الأسطوانات لمختلف صنوف الغناء العربي، الشعبي منها والجهوي، من مصر وتونس والجزائر والمغرب، وصولاً إلى الموشحات والأدوار. وقد حظي الوشّاح المصري الشهير الشيخ درويش الحريري بنصيب الأسد في هذه التسجيلات، كونه كان يحفظ تراث القرن التاسع عشر، الذي أخذه بالسماع عن أهم أساتذته ومبدعيه، فسجل بصوته ومع جوقه البسيط أكثر من 70 موشحاً ساهم في حفظ أغلبها من الضياع. وفي القاهرة تأثر الموسيقي الشهير عبد الحليم نويرة (1916 – 1985) بتجربة الشيخ علي الدرويش في إذاعة حلب، والإذاعة التونسية، والإذاعة العراقية، فأسس فرقة الموسيقى العربية الشهيرة في القاهرة، التي قدمت أروع الموشحات بأسلوب راق.
أما حلب التي تعد بحق عاصمة الموسيقى العربية، فقد ظهر في أواخر أربعينيات القرن العشرين صباح الدين أبو قوس، كصاحب صوت أسطوري؛ قادته صدفة سعيدة، بسعي من الزعيم فخري البارودي، لأن يتتلمذ على يد فريد عصره في فن الموشحات الشيخ الحلبي عمر البطش (1885 – 1950) فأخذ عنه جميع معارفه الموسيقية، وهي ليست بالقليلة، كما أخذ عن الشيخ علي الدرويش والشيخ بكري الكردي، قبل أن يصبح اسمه صباح فخري، وأن يضطلع بمهمة حفظ وتوثيق وإحياء التراث الغنائي العربي المشرقي، لنحو ثلثي قرن.

كاتب فلسطيني/سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الحريزي الادريسي ـ المملكة المغربية:

    مشكورين جدا على هذا المقال المفيد!

إشترك في قائمتنا البريدية