توجيه الدراما السورية مخابراتياً.. وأسامة الرحباني يهجو الربيع العربي

حجم الخط
0

لطالما بدا القول إن الدراما السورية تمثل النظام أمراً مبالغاً فيه، حتى أن هناك من اعتبر هذا القول أقرب إلى نظرية المؤامرة. أول من يعترض على هذا الاستنتاج، كاتب أو مخرج أو ممثل، أو حتى تقنيّ، صاحب ضمير عمل من قلبه ولم ير بعينه تدخلاً من أحد، حتى ظن أن هذه الصناعة الفاتنة هي فسحة هاربة من تقاليد العمل في هذا البلد. سينكر صاحب الضمير أن يجد نفسه، هو وإخلاصه، موظفاً كـ «برغي»، صغر أم كبر، في ماكينة ضخمة تديرها يد النظام.

الرقابة فاعلة، هذا مؤكد ومعروف، فهي مسلطة على النص أولاً، وتعمل فيه شطباً وتعديلاً وإلغاءً، ثم تُسلّط مرة أخرى على المَشاهد النهائية، وكذلك تعمل فيها شطباً وإلغاء، وقد يصل الأمر أحياناً إلى وقف العمل التلفزيوني بعد بضع حلقات حين تنتبه جهات ما إلى ما لم تنتبه إليه الرقابة المعنية. حتى بعض المخرجين المخلصين للنظام يحاول أحياناً التفلّت من قيود الرقابة، ليست الحرية بالضرورة هي الهدف، فبعض المخرجين لديه ذائقة أرفع قليلاً من ذائقة الرقيب. أذكر مرة أن صراعاً جرى مع رقابة التلفزيون الحكومي لأن الرقيب اعترض على صورة الرئيس وضعت كيفما اتفق بين الكراكيب في دكان متواضع في حي شعبي. المخرج (لعلّه كان هشام شربتجي) أراد أن يضفي عليها شيئاً من الواقعية حين وضعها كذلك، بينما رأى فيها الرقيب إهانة لا تغتفر.

بعض المخرجين المخلصين للنظام يحاول أحياناً التفلّت من قيود الرقابة، ليست الحرية بالضرورة هي الهدف، فبعض المخرجين لديه ذائقة أرفع قليلاً من ذائقة الرقيب

وإذا كانت الرقابة تهتم بالتفاصيل فإن هناك (فوق) من يهتم بتوجّهات الدراما التلفزيونية، هذه الأمور لا يمكن أن تترك اعتباطاً في بلد شمولي يمد يديه بكل مكان. إذا كان هناك خلاف مع فرنسا فإن لهذه فظائع لا تغتفر. وإذا اشتد الخلاف مع تركيا فهذه لها أطماع قديمة في بلادنا، ولا بدّ أن تبقى ذكرى المآسي والمجازر مشتعلة في ذاكرة النشء (مسلسل «إخوة التراب» نموذجاً). أما إذا طابت صحبة الأتراك فحينها لا بد من أن ينسى الناس الماضي وتتدفق المسلسلات التركية، مثل قطع الموبيليا إلى غوطة دمشق، والملابس التركية والحلويات.
كذلك فإن للمسلسلات المعاصرة أجندتها. حين بدأت موضة انتقاد الفساد بات مسموحاً بقوة تناول مسؤولين نافذين توحشوا في نهب البلد. هكذا جاءت مسلسلات من قبيل «غزلان في غابة الذئاب»، و«لعنة الطين» وسواها، لقد ذهل الناس حينذاك من التصوير البارع لهؤلاء المسؤولين وأبناء المسؤولين، لكنهم سرعان ما سيكتشفون أن هؤلاء ما هم إلا عبد الحليم خدام، نائب الرئيس السابق، ومحمود الزعبي، رئيس الحكومة السابق الذي قضى انتحاراً، بالاضافة إلى نجله الذي شاع أن الممثل قصي خولي لعب دوره في أحد المسلسلات. كذلك فإن مسلسلاً كوميدياً جسّد في إحدى لوحاته نائباً سورياً معارضاً، قبل الثورة، وكيف انتقل من تجارة المخدرات إلى كرسي النيابة. حين يدقق المرء بالشخصيات المختارة، أي مرجعياتها في الواقع، سيجد أنها تنتمي إلى لون طائفي واحد، هو اللون الأكثري، وكأن المقصود أن هذا اللون هو الوحيد المسؤول عن فساد البلد وخرابه. في النهاية هي نوع من تبرئة النظام.
أما أعمال المخرج نجدت أنزور فهي قلّما تكون من غير أجندة سياسية أو مخابراتية، فإن لم تكن تتقصّد شخصاً بعينه، كما حدث في مسلسل «ما ملكت أيمانكم» الذي يقال إنه اختُرع أساساً من أجل التنكيل بشخصية تجارية معينة، فإنها ستنهل فوراً من ملفات المخابرات. كتلك التي تزعم أنها تحارب الإرهاب، وتعرض لملف «الجهاديين».

هل هنالك شك بأن هذه «الصناعة» التي طالما تغنّى بها السوريون تمثّل النظام وأجهزة المخابرات، حتى لو كان من بين صنّاعها من لم يرض، بل ومن اعتقل وعذّب واضطهد!

هنالك أيضاً خط مواز يمكن القول إنه اشتُغل برعاية إيرانية، مباشرة، أو عبر الوكلاء، تضمن أعمالاً بعضها ديني الطابع، بل هو ينهل من مصادر مذهبية محددة، أو أنه يقدم أعمالاً وطنية يعالجها بطريقته الخاصة، ويُعمل فيها سيف رقابته الخاصة، مثالها بعض أعمال المخرج باسل الخطيب، وخصوصاً عمله المأخوذ عن رواية غسان كنفاني «عائد إلى حيفا»، المسلسل الذي قدم بشروط رقابة دينية وسياسية صارمة. لم تكن هذه تجربة فريدة بالنسبة للمخرج الخطيب، فهو قدّم من قبل نزار قباني وقصائده في مسلسل كما لو أنه صوت «حزب البعث».
المخابرات وأجهزة الأمن لا تكتفي بالتدخل فقط في توجيه الدفة السياسية للدراما السورية، بل إنها تسهم في إقرار فريق العمل بطريقة أو بأخرى. فهذا مخرج جاء بقوة رئيس فرع أمني، وهذه الممثلة أوصى بها زميله في فرع آخر، وذاك التقني أوصت به هواتف كثيرة. وبالطبع حتى لو لم يكن أحد أوصى بالمخرج الفلاني كيف له أن يبقى ويستمر من دون رضى فروع الأمن. فهل بعد ذلك شك بأن هذه «الصناعة» التي طالما تغنى بها السوريون تمثل النظام وأجهزة المخابرات، حتى لو كان من بين صناعها من لم يرض، بل ومن اعتقل وعذّب واضطهد!

في هجاء الربيع العربي

ما يغيظ في العمل الغنائي «الربيع العربي»، الموقع باسم أسامة الرحباني من غناء هبة طوجي، أنه عمل متقن من حيث اللحن وأداء المغنية، وحتى الكليب المصور المرافق. المؤسف أنه مصمم لهجاء الثورات العربية. تعترف الأغنية فقط بعربة التونسي محمد البوعزيزي، لكنها تهجو كل ما عداه. «عن أيا ربيع بغني، عن أيا ربيع بقول، هالناس اللي عم تسقط هن، أبريا ومين المسؤول». هذه هي كلمات الأغنية التي تصل إلى حد السخرية من الثورات، ولا تتردد في استخدام حجج سياسية في قلب الأغنية، من قبيل «عملوها ثورتنا حمرا، تقتل باسم الأديان»، و«دول كثيرة دخلت فينا بمصالحها السياسية»، إلى أن تصل إلى القول «الثورة غدارة ردتهم للعبودية».
لا بد من سؤال أسامة الرحباني وفريقه ما الذي يريده من الأغنية حين يهجو ويشتم الثورات، هل المقصود من الأغنية أن تكرس واقع الظلم، وقد كان بإمكانها أن تكون أغنية تنطق باسم هؤلاء الفقراء الذين يبحثون عن كرامتهم ولقمة عيشهم، كان بإمكانها أن تكون لهم لا عليهم. أن تكون ثورة هي الأخرى، لا أن تكون مستبداً آخر.

نهاية النمس

يتحدث الفنان السوري أيمن زيدان عادة بسخرية عن مسلسله «يوميات مدير عام»، العمل الذي أحبه الناس وشاهدوه مراراً. السخرية لأن الفنان زيدان لا يخدع نفسه، يعرف أن الأسهل بالنسبة لممثل أن يؤدي «كاركتر». وهذا ما كان يفعله في «يوميات مدير عام»، حيث يكفي أن يتخذ شكل معاق، ونطق معاق، ومع لوازم لفظية وحركية تتكرر فتخلق جواً مرحاً.
أما الممثل السوري مصطفى الخاني فيبدو أن كل إنجازه يكمن في هذا الشكل من الأداء التمثيلي النمطي. إنه مدين للـ «كاركتر» التلفزيوني، صحيح أنه يصنع الكاركتر، لكنه سرعان ما يصبح عبداً له. تاريخ الخاني كممثل هو تراكم هذه الشخصيات، بدءاً من شخصية النمس في «باب الحارة»، وصولاً إلى شخصيته في مسلسل «حمام شامي» الذي يعرض الآن على الفضائيات. إلا أنه في هذا الأخير يتفوّق على نفسه حقاً بأداء رديء، حيث يجري تعديلاً في صوته، وفي شكل الفم والشعر وسواها. قد يبدو الخاني مستمتعاً بأداء هكذا أدوار، لكنه في عمله الأخير يبدو كما لو أنه يسهم عمداً ولمرة أخيرة في «تطفيش» الناس، وإبعادهم عن التلفزيون.

كاتب فلسطيني سوري

راشد عيسى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية