جددت المدرسة الأنكلوأمريكية في بعض العلوم المعرفية كعلم النفس اللغوي وفيزياء الأدب وعلوم الذكاء الاصطناعي، أو أضافت علوما جديدة كانت في الأصل عبارة عن نظريات ذات فرضيات، أو اتجاهات كعلوم السرد ما بعد الكلاسيكية. وإذا كانت هذه المدرسة قد قطعت أشواطا مهمة في هذا الصدد، سواء على مستوى التعدد في التخصصات أو التعابر بين الثقافات، فإن هناك خطوات أخرى ما زالت في بواكيرها لم تشهد رواجا بحثيا كسابقاتها مع أن الاهتمام بها ابتدأ مع مطلع هذا القرن وأعني بها (دراسات الأقلمة) التي تسعى إلى الإفادة من التراكمات المعرفية في مجال معين بها، تدعم مجالات أخرى وتطورها نظريا أو تطبيقيا.
وتعود بدايات الاهتمام بدراسة الأقلمة إلى مجموعة باحثين أمريكيين منهم، براين مكفرلين وديبورا كارتمل وإيميلدا ويلهام وجيمس نارمور وسارة كالدويل وغيرهم.
ويعد روبرت ستام واليساندرا راينجو من أوائل الباحثين الذين وجهوا الأنظار إلى هذا النوع من الدراسات، وأنجزوا خلال عامي 2004
و2005 كتابا من ثلاثة أجزاء، سعوا فيه إلى إعادة توجيه الخطاب المعرفي ـ الذي طرحته نظرية باختين في التناص ـ توجيها جديدا يتجاوز الخطاب النصي وتداخله مع نصوص أدبية سابقة له إلى مسائل أخرى لا حصر لها، يتم استجلابها أو افتراضها من عمليات التأقلم بين الخطابات الأدبية وغير الأدبية في اتجاه صنع خطاب عالمي عابر. وقد لاقى مشروع ستام وراينجو، نجاحا ملحوظًا غير أن ما تعرَّض له من هجوم من لدن جورج بلستون ـ الذي انتقد فكرة الأقلمة التي تساوي بين ميادين مختلفة ـ جعل هذين الباحثين يسلطان الضوء على أسئلة جديدة في مجال دراسات الأقلمة.
واستمر العمل على هذه الدراسات إلى أن استطاعت أن تحرك مياها راكدة، أثارت موجة ترحيب بالأقلمة، لتنوع مجالاتها أولا، ولاندفاع الكثيرين إلى إعادة رسم الحقول التي درسها ستام وراينجو ثانيا. فكانت مختارات ديبورا كارتمل وايميلدا ويلهان (الأقلمة: من النص إلى الشاشة، ومن الشاشة إلى النص Adatation: from screen to text ,text to screen) 1999 ثم توسّع نطاق دراسات الأقلمة فشمل قضايا مختلفة، منها الترجمة والتناص والأوبرا والمسرحية. وألفت ليندا هيتشون عام 2006 كتابا في دراسات الأقلمة بعنوان (نظرية الأقلمة) كما صدرت في العام نفسه كتب أخرى منها (أقلمة هوليوود للأدب البريطاني) لجفرز جينفير وكتاب (الأقلمة والمصادرة) لجولي ساندرز.
وفي عام 2008 تأسست في جامعة أكسفورد مجلة فكرية تحمل اسم Adaptation متخصصة في هذا النوع من الدراسات، وفيها نشرت عشرات المقالات المهتمة بالتعريف بالأقلمة وميادينها ومناهجها. وتصدّر عددها الأول مقال افتتاحي كتبه الناقد توماس ليتش، وفيه رصد أهم التطورات التي جرت في واقع دراسات الأقلمة. ومما أكده ليتش في هذا المقال أن ما أحدثته دراسات الأقلمة عبر سنوات قليلة يمثل نقلة نوعية وأكاديمية حركت النظر النقدي المعتاد إلى ما هو جديد وغني. وأشاد ليتش بما كشفه ستام وراينجو من تنوع في دراسة الأقلمة، وبيّن أن ما طرحه هذان الناقدان من أسئلة وما رسماه من مجالات كان مفاجئا، دفع بالأقلمة نحو الواجهة.
وما هي إلا سنوات قليلة حتى اتسع نطاق هذه الموجة وصار العمل عليها يزداد بأشكال تأليفية مختلفة، وزعها ليتش في ثلاث فئات هي: 1ـ فئة المقالات الجديدة 2ـ فئة الكتب المؤلفة 3ـ فئة الدراسات والكتب المونوغرافية التي تسلط الضوء على العلاقة بين الأقلمة والمصادرة، أو الاستيلاء. وأشار ليتش إلى أن دراسات الأقلمة ليست بالجديدة وأنها عرفت قبل ما يقرب من نصف قرن. وعلى الرغم من ذلك، فإن العمل عليها مستمر بمقدمات ومفاهيم وممارسات، غدت أكثر وضوحا مع مختارات ديبورا وليهان المعنونة (مجموعة كامبريدج لأدب الشاشة) وتتمحور حول سؤال: هل يبقى الأدب المعروض على الشاشة أدبا أم يصير فيلما سينمائيا؟ ولماذا لا يكون لأحدهما أي الأدب والسينما أن يؤديا الأمرين معا فيكون لدينا أدب يسمى أدب الشاشة؟ وهل يعني الجمع بين السينما والأدب التداخل لإنتاج نصوص هجينة، أم هو يعني التصنيف الذي فيه لكل حقل خصوصيته وله صيغته في العرض؟ أم أن من الضروري (التميز بين الأدب والسينما، كون هذه الأخيرة منحت الأدب فرصة تاريخية بالإفادة من التقنيات السينمائية). وحملت هذه الأسئلة وغيرها نقاد الأقلمة ـ من الذين كرسوا اهتمامهم حول أدب الشاشة ـ على مواجهة إشكالية هذا التلاقي أو التداخل بين الأدب والسينما، وهذا ما جعل دراسات الأقلمة أمام تحديات كبيرة بشكل متزايد، لاسيما أن ما يتوقعه القراء من (مجموعة كامبريدج لأدب الشاشة) أنها عبارة عن تحليلات نقدية لقصص مثلت أفلاما، وليست سرديات فيها خيالات سينمائية تقتبس مادتها من الأفلام.
وتتبع ليتش الدراسات المهتمة بأدب الشاشة، فوجد أن أولاها كانت في عام 1999 بمختارات (الأقلمة: من النص إلى الشاشة) وتضمنت مقالا لويل بوكر عن أفلام باتمان التي نالت كثيرا من النقد التحليلي ثم تلت هذه المختارات مقاربات مختلفة إلى حد ما، وهي في الغالب تتنصل من السياقات الأدبية، وتتجاهل التصنيفات التي لا تستطيع الأقلمة أن تتجاهلها، إذ إن لكل حقل استراتيجياته المحددة التي ينبغي التعامل معها، وهذا هو الفتح الجديد الذي جاءت به دراسات الأقلمة. وطرح توماس ليتش عدة تساؤلات تثيرها أقلمة الأدب والسينما، ومن ذلك مثلا: هل يخون الفيلم مصدره الأدبي؟ هل تسعى الأقلمة إلى ترسيخ التعدد في التخصصات، أو هي تفسر مصدر التعدد فقط؟ هل يمكن للفيلم أن يعيد صناعة ما طرحه النص الأدبي؟ هل تفرض الأقلمة أسبقية الأدب على السينما؟ وأسئلة أخرى كثيرة تتعلق بالتراث الأدبي والسينمائي والمفاهيم العابرة للثقافات، والأخرى المناهضة للماركسية والرأسمالية والاستعمارية وعن مستقبل الأقلمة في الانتقال من المناطق التي اعتادتها الدراسات الأدبية إلى مناطق بينية جديدة ومخصوصة. وتفاءل ليتش بما في هذا الكم من الكتب والدراسات من استكشاف للعلاقات بين الأقلمة كممارسة محددة، وبين مجموعة واسعة من صيغ التداخل النصي كما يسميه جيرار جينيت. وفي هذا الاتجاه نبّه ليتش إلى دراسات مهمة، تسلط الضوء على الأقلمة وتدفع نحو مزيد من الأبحاث في مجال التعريف بالأقلمة وتوسع نطاق دراسة السينما والأدب وما يمكن لطلبة الدراسات العليا القيام به من دور في مثل هذه الأبحاث.
واهتم ليتش كثيرا بكتاب جوليا ساندرز المعنون (الأقلمة والمصادرة) لما فيه من وفرة في الأسئلة والأفكار والقراءات والاقتراحات، وأهمها أن المصادرة أكثر عمومية من الأقلمة، كونها تشير إلى وجود علاقة بين النص والمصدر الأصل كمسرحيات، أو حكايات شعبية، أو خرافات. وأشار ليتش إلى كتاب ليندا هتيشون (نظرية الأقلمة وفيه عدت الأدب مؤسسا ومصدرا للأقلمة، وأن من خلالها تقاس قيمة الأدب. وقدمت تفصيلات أخرى حول أقلمة الأوبرا والمسرح والموسيقى والمحاكاة الساخرة/ الباروديا والتكثيف والتوالي والتعليق والمراجعة وغيرها.
وعلى الرغم من المحصلات التي انتهت إليها الباحثتان ساندرز وهتيشون، فإن دراسات الأقلمة ما زالت كما يقول ليتش مثل الكرة البلورية الملبدة بالغيوم، ومن الصعب التكهن بمستقبلها، أو وصف ما ينتظرها من مفترق طرق عليها أن تجد نفسها من خلالها. ومع ذلك فإن إغراء البحث في الأقلمة، لا يقاوم إزاء الاهتمام بإشكاليات كانت الدراسات الأدبية قد تركتها أو أهملتها. الأمر الذي يمكن له أن يسفر عن مزيد من التطبيقات والتحليلات حول إنتاج العلاقات والأنماط والأجناس والأصول.
كاتبة عراقية