نار الثورة المقدسة التي أوقد جذوتها البوعزيزي.. لن تنطفئ، حتى إن خفت نورها.. والقضايا العادلة تحتاج إلى السياسة الصائبة، أكثر من حاجتها إلى قبور الشهداء. قد لا أجانب الصواب إذا قلت إنّ الدربَ الذي أفضى بتونس إلى رحاب الحرية، لم يكن من السهل عبوره كي نصلَ جميعا إلى ضفة السلم والسلام، حيث ظلال الحرية المبتغاة، ونسائم الديمقراطية المشتهاة، لو لم يكن مفروشا بالدم والدموع.. دماء أولئك الشهداء الذين اتخذوا قرارا يهون دونه الموت: إما الحياة بحرية.. أو الاستشهاد بعزّة وشموخ، ولا منزلة أخرى بين المنزلتين..
هذه الدماء السخية أريقت من أجساد شابة غضة، في سبيل أن تتحرّر تونس من عقال الاستبداد، الذي اكتوت بلهيبه عبر عقدين ونيف من الزمن الجائر.
ومن هنا، لا أحد بإمكانه أن يزايد على مهر الحرية، الذي دفعت البراعم الشبابية أرواحها ثمنا له، ولا أحد كذلك يستطيع الجزم بأنّ ما تحقّق في تونس من إنجاز تاريخي عظيم تمثّل في سقوط نظام مستبد جائر، إنما هو من إنجازه..
لا أحد إطلاقا.. فكلنا تابعنا المشاهد الجنائزية التي كانت تنقلها الفضائيات في خضم المد الثوري، الذي أطاح – كما أسلفت- برأس النظام مضرجا بالعار، ومنح الشعب التونسي تذكرة العبور إلى ربيع الحرية، تلك المشاهد الجنائزية كان ينضح من شقوقها نسيم الشباب، شباب وضع حدا لهزائمنا المتعاقبة، قطع مع كل أشكال الغبن والاستبداد، خلخل حسابات المنطق، جسّد هزّة عنيفة مخلخلة للوعي المخَدّر والمستَلب، وصنع بالتالي بدمائه الطاهرة إشراقات ثورية قدر الطغاة فيها هو الهزيمة والاندحار..
واليوم..
الحدث الذي أبعد حكومة وأتى بأخرى،هو نتاج فعل محلي تونسي، ما زال قادراً برشاقة على معالجة المآزق والاهتداء إلى مخارج الخلاص على طريق الوصول إلى النموذج التونسي الأمثل
أشهر قليلة تفصلنا عن الاستحقاق الانتخابي المقبل على مهل (الانتخابات الرئاسية) في ظل سباق «محموم» نحو الكرسي الوثير في قرطاج.. «بالأمس» انتخب التونسيون رئيسهم أستاذ القانون الدستوري قيس سعيّد وسط مناخ انتخابي اتسم في مجمله بالنزاهة والشفافية، تلك الانتخابات جاءت بعد أن مرّت على -أيقونة – الربيع العربي أكاد أقول سنوات طوال حملت معها حلم الانعتاق من واقع القهر والبؤس في تونس، إذ صاغ الشعب بدماء شيوخه وشبابه صفحة جديدة من تاريخ تونس الحديث. ولئن كان النفس الرافض مبهرا في تجلياته الثورية، فإنّ الشغل الشاغل اليوم، هو عن سؤال أي مستقبل ينتظر الثورة في ظل أوضاع إقليمية ملتهبة، وفي خضم أوضاع اقتصادية، أمنية واجتماعية معقدة، عاشتها تونس منذ انبلاج فجر الحرية في الرابع عشر من شهر يناير 2011 أثرت سلبا على المسار الديمقراطي، وألهبت جذوة اليأس في نفوس التونسيين بعد أن أشرفوا على هوّة الإحباط وغدوا منها على الشفير.. لقد استطاعت تونس تحقيق خريطة الطريق التي راهنت عليها القصبة 2، والتي كان الشباب الحاضر الأبرز فيها، فتمّ إنشاء دستور حظي بإجماع نواب المجلس الوطني التأسيسي، وتمّ إنشاء قانون للعدالة الانتقالية ومؤسسات دستورية لحماية مكتسبات الثورة، ونجحت بلادنا في انتخاب رئيس جمهورية انتخابا مباشرا، وبذلك يكون مسار البناء رهين اختيارات المجتمع، بصوته الانتخابي وعمله المدني وإبداعه الثقافي والفني، كما إنتاجه العلمي والمعرفي. ولكن تجربة الحكم المقبلة التي ستظهر مؤشراتها بعد تشكّل الحكومة المقبلة (ما بعد الانتخابات الرئاسية) لن تكون سهلة بالنظر إلى الاستحقاقات التي ينبغي التعامل معها، خصوصاً في الملف الاقتصادي، وكذا الملف الأمني، وعلى رأسه موضوع الإرهاب وتداعياته الدراماتيكية على الاستقرار السياسي المنشود، هذه الملفات الشائكة تستدعي وعيا عميقا بجسامتها ومقاربة شاملة تبحث في الأسباب وتستخلص النتائج، عبر رؤية ثاقبة، وهو ما يقتضي نمطاً من التوافق الضروري بين القوى المختلفة، إذا أرادت الحكومة المقبلة أن تحقّق استقراراً ونجاحاً ممكناً في إدارة ملفات المرحلة المقبلة.. كما أنّ رئيس البلاد الذي سيتم انتخابه مطالب بدوره بالانحياز إلى الفقراء والمعدومين، وتعزيز قيم العمل والعدالة الاجتماعية وتوفير فرص العمل للعاطلين، وأن يعمل، أولاً، وقبل كل شيء، على استعادة وحدة الشعب، والتصرّف بوصفه رئيساً لكل التونسيين، وليس لناخبيه فحسب، وأن يتحرّر قدر الإمكان من الأجندات الحزبية الضيّقة، والخروج من ضيق الخطاب الانتخابي إلى رحابة الخطاب الوطني الجامع.. أردت القول إنّ تونس اليوم في حاجة إلى تكاتف كل مكونات المجتمع المدني، وكل القوى السياسية لتثبيت أركان الجمهورية الثانية، ومن ثم إنجاز مشروع مجتمعي طموح ينآى بالبلاد والعباد عن مستنقعات الفتن والإثارة المسمومة والانفلات الذي يتناقض مع قيم العدالة والحرية، وهذا يستدعي منا جميعا هبّة وعي تكون سدا منيعا أمام المخاطر كافة، التي تهدّدنا وتسعى إلى تحويلنا إلى نماذج مرعبة ومخيفة لما يجري في العراق وسوريا وليبيا..
أقول تونس اليوم دولة وسلطة ومؤسسات، أمام امتحان جديد على درب الديمقراطية، ومع على الفاعلين في المشهد السياسي التونسي إلا القطع مع- النهم المصلحي والانتفاعي – المسيطر عليهم، ومن ثم تخطي الطور الانتقالي الجاري بنجاح، ووضع المساطر المناسبة لبنية مجتمعهم السياسية والحزبية، من دون إغفال تطلعات مجتمعهم والشروط العامة التي تؤطرها، تطبيقا لشروط والتزامات وقيم الممارسة الديمقراطية السليمة والسلوك الحضاري القويم.. لقد استكمل المسار الانتقالي دورته ببراعة واقتدار، وخرجت تونس من طور- المؤقت- إلى مرحلة المؤسسات الدائمة، يحدونا أمل في بناء ديمقراطيتنا واستدامتها.. وما علينا والحال هذه، إلا استنفار كل قوانا، ومن ثم التمترس خلف خط الدفاع الأول عن مكاسب ثورتنا المجيدة، كي نبني مؤسساتنا الديمقراطية المنتخبة، ونمضي بخطى ثابتة نحو تشييد صرح جمهوريتنا الثانية، في إطار الهدوء والمحافظة على وحدتنا الوطنية والاجتماعية، لأنّ تونس – أيقونة الربيع العربي- تحتاج منا جميعا في المرحلة المقبلة، إلى الاستقرار كي- تهضم مكاسبها الديمقراطية- التي أنجزتها في زمن متخم بالمصاعب والمتاعب.. أنجزتها بخفقات القلوب ونور الأعين.. وبدماء شهداء ما هادنوا الدهرَ يوما.. وتظل في الأخير الإرادات الوطنية الصادقة قادرة على قطع الطريق أمام محاولات «الردة» السياسية. فالشراكة السياسية ستمثّل قاعدة السلطة، وهو ما سيوفّر فرصة مهمة للمعارضة والمجتمع المدني للدفاع عن الحقوق والحريات بشكل فعال..
واختتم بالقول منذ حكومتيّ محمد الغنوشي مرورا بحكومات الباجي قايد السبسي وحمادي الجبالي وعلي العريض والمهدي جمعة، وانتهاء بحكومة أحمد الحشاني، عاشت تونس عواصف وأنواء، واستحقاقات أمنية كبرى. ومع ذلك بقي المشهد السياسي مرتبكا، كما بقيت ظاهرة الفساد متصاعدة عصيّة متجذّرة. وإذا ما كانت-هذه الأخيرة- معممة على بلدان كثيرة في المنطقة، بيد أن تفاقمها في تونس يتناقض مع واقع الحوار السياسي، وغياب العنف الداخلي ولا يتّسق مع حقيقة عدم غياب الدولة حتى في عزّ الأحداث التي اجتاحت شوارع بلادنا في ثورة عام 2011 .يسجّل لتونس أن الحدث الذي أبعد حكومة وأتى بأخرى، والذي احتل العناوين الأولى للصحف التونسية والعربية، هو نتاج فعل محلي تونسي، ما زال قادراً برشاقة على معالجة المآزق والاهتداء إلى مخارج الخلاص على طريق الوصول إلى النموذج التونسي الأمثل. وليعلم الجميع أنّ نار الثورة المقدسة التي أوقد جذوتها البوعزيزي، ذات شتاء عاصف من سنة 2010، لن تنطفئ، حتى إن خفت نورها، لأن الأجيال العربية تسلمت مشعلها، وستحافظ عليها، مهما كانت الأثمان.. ولينشغل، في الأخير، أهل الربيع العربي بأمورهم وأحوالهم، ويتركوا تونس تكمل تجربتها، لأنها ببساطة، خارج المقارنة والمنافسة..
والسؤال، هل مازالت تونس قادرة على معالجة المآزق.. والاهتداء إلى مخارج الخلاص؟ أرجو.. ذلك.
كاتب تونسي