في الأسبوع الماضي أضرب الشيخ راشد الغنوشي المعتقل منذ أربعة شهور عن الطعام، احتجاجا على سوء معاملة المعتقلين السياسيين والمطالبة بإطلاق سراحهم ورفع الظلم عنهم. وكان المعارض اليساري المعروف والمسؤول عن جبهة الإنقاذ الوطني جوهر بن مبارك قد دخل في إضراب مفتوح تحت العنوان نفسه.
وجاء قرار الغنوشي الإضراب عن الطعام في مواجهة الملاحقات القضائية «من دون سند ضد المعارضين». واعتبر أن إصرار السلطة على إبعاد المعارضين السياسيين بملفات فارغة ومن دون مستندات، لم يبق للمعتقلين السياسيين سوى النضال بأمعاء فارغة. وما أصعب أن يمتنع رجل مخضرم عن الطعام في ظروف السجن التي لا تتوفر فيها مقومات الكرامة الإنسانية. وفي هذا تعبير عن الشهامة والمروءة ومشاعر الكرامة لدى هذا الرجل الذي قضى حياته مدافعا عن المظلومين ومتصديا للظالمين. وعندما كان في مواقع سياسية متقدمة، ومنها رئاسة البرلمان، رفضت تونس السير في طريق التطبيع واحتفظت بعلاقاتها الأخوية مع الدول الإسلامية الأخرى، ولم تخضع لأساليب الابتزاز والضغط من القوى التي سعت، ولا تزال، لإحداث الصراع والشقاق بين الدول العربية والإسلامية وإثارة النعرات وأسباب الخلاف الديني والسياسي.
لجأ هذا الشيخ الذي تجاوز الثانية والثمانين لسلاح الجوع بعد أن أعيته الحيلة للتخفيف عن رفاق درب يعانون الاضطهاد والتنكيل. الغنوشي لم ينكص يوما عن اتخاذ الموقف المسؤول منذ نعومة اظفاره. فقد بدأ حياته ضمن حركة الإخوان المسلمين، داعية ومناضلا ودفع لذلك ثمنا كبيرا. فتردد على السجن مرارا خلال الأربعين عاما الاخيرة. دخل المعتقل في العام 1984 تحت حكم الحبيب بورقيبة، ثم زين العابدين بن علي وأخيرا في عهد قيس سعيد. ولا تزال روحه تحلق في فضاء الحرية بدون خوف أو وجل، فهو يشعر بحريته داخل زنزانة سجنه، ويعتقد أن بإمكان الديكتاتور اعتقال الجسد ولكنه لا يستطيع سجن الروح التي تحلق في فضاء الحرية دائما. لقد خبر المعتقلات، وكذلك المنافي، إذ قضى 22 عاما بعيدا عن وطنه منذ أن وطأت قدماه العاصمة البريطانية في العام 1989. وفي منفاه لم يتوقف عن العمل يوما، فبالإضافة لنشاطه المعارض لحكم بن علي، كان ينظم اللقاءات الفكرية لكوادر العمل الإسلامي، أو ما اصطلح على تسميته «الإسلام السياسي» ويحضر المؤتمرات والندوات، ويلقي المحاضرات في الجامعات والمساجد والمراكز الإسلامية. ولذلك بقي شخصية قيادية سواء في بلده أم في السجن أم في المنفى.
والسؤال هنا: لماذا أعيد اعتقال الغنوشي، وهو آخر الأحياء من رواد الصحوة الإسلامية، وهو في هذا العمر المتقدم؟ أليست تونس هي البلد الذي انطلقت منه شرارة ثورات الربيع العربي واستطاع إحداث تغيير محدود في الهيكل السياسي للبلاد؟ ألم يردد حكام الغرب دعمهم لما يعتبرونه البلد الوحيد الذي حقق تحولا سياسيا وأقام منظومة وصفها الغربيون بأنها ديمقراطية ناشئة؟ فبعد بضع سنوات، تمت خلالها ممارسة قدر من الحرية بعد إسقاط زين العابدين بن علي، ضاقت قوى الثورة المضادة ذرعا بالتجربة التونسية لأنها بقيت تذكر الجماهير العربية بما حدث قبل اثني عشر عاما عندما انطلق الشارع العربي في احتجاجات غير مسبوقة تطالب بالحريات العامة والتحول الديمقراطي. وبرغم تواضع التجربة التونسية وبرغم أن التغيير طال رأس النظام فحسب وأبقى على هيكليته بشكل شبه كامل، فإن قرار سحق كل ما يرتبط بحوادث العام 2011 مستمر على أشده. وربما لو لم يكن للإسلاميين دور في الحقبة اللاحقة لما تم التعرض بهذا الشكل لهذه الديمقراطية الصورية. ولكن وجود حركة النهضة وقائدها الشيخ الغنوشي كان كافيا لقرار الإجهاز على تلك التجربة المحدودة. فقد بقي هذا الرجل رمزا مهما للحركة الإسلامية في العالم العربي، خصوصا لطول تجربته وثباته ووضوح خطه. وبرغم سعيه المتواصل لطمأنة الغرب من جهة والدول الاقليمية من جهة أخرى بـ «اعتدال» حركته وتوجهاتها، إلا أن ذلك لم يوفر له حماية من قوى الثورة المضادة التي هرعت لدعم الرئيس قيس سعيد عندما انقلب على تلك التجربة المحدودة. فقد كانت تونس في 25 يوليو/تموز 2021 تستعد للاحتفال بذكرى الجمهورية، وتستذكر معها الذكرى الثانية لرحيل الرئيس الباجي قايد السبسي الذي توفي في 25 يوليو/تموز 2019، عندما أقدم الرئيس على تعليق العمل بالدستور وتجميد عمل البرلمان المنتخب، وحل الحكومة الحاصلة على ثقة البرلمان، وإعلان مجموعة من الإجراءات الاستثنائية، وأهم ما ورد فيها أنه وحده من يدير البلاد عبر المراسيم التي يصدرها.
الأمر المؤكد أن تطورات اليومين الماضيين في فلسطين ستساهم في تغيير موازين القوى المعنية بالصراع وأن من الحصافة إعادة النظر في تطورات العقد الأخير لاستيعاب أبعاد ما يُخطط للمنطقة
هذا التطور كان سلبيا جدا، ولكنه لم يكن مستبعدا. فقد شهد العالم العربي انتكاسات عديدة خصوصا في مرحلة ما بعد الربيع العربي، وتحولات في التحالفات غير مسبوق. فقد دخلت أمريكا من أوسع الأبواب لدعم الأنظمة السياسية التي استهدفت مجموعات التغيير بشراسة، فحدثت الاعتقالات ومورس أبشع أشكال التنكيل والتعذيب وأعدم المعارضون، وسجن الآلاف من النشطاء في العديد من البلدان. كان الهدف كسر شوكة الشعوب العربية التي كانت تشعر بالقدرة على التغيير ولديها تطلعات تحررية واسعة ورغبة أكيدة في استعادة الثقة بالنفس وإقامة أنظمة مدنية تعيد للشعوب دورها. هذه الشعوب كانت مدفوعة كذلك بالرغبة في استرجاع القرار السياسي الذي يعيد للأمة هويتها ويقوي شوكتها في مقابل قوى الاستبداد والهيمنة والاحتلال. كانت «إسرائيل» وما تزال شوكة في عيون تلك الشعوب، لأنها تمثل العدوان واللاإنسانية. وجاءت الحراكات الشعبية لتضع الشعوب على طريق واعد، وكانت عيون الشباب الحركي موجهة نحو القدس التي كانت وستبقى بوصلة للثائرين ورافضي الاحتلال والتبعية والهيمنة. لذلك كان استهداف محاولات التغيير شرسا وشاملا.
حالة العداء للمشروع الإسلامي، الذي انطلق بقوة قبل نصف قرن، لن تتواصل فحسب، بل سوف تتعمق وتشتد، خصوصا أن محاولات تشكيل شرق أوسط جديد ما تزال متعثرة. فالتوازن السياسي المطروح يتأسس على دور إسرائيلي متقدم في التحالفات الإقليمية وكذلك في مجالات الأمن الإقليمي ومنها أمن منطقة الخليج. وبرغم الشعارات المطروحة منذ عقود بأن أمن الخليج مسؤولية أهله، فإن المشروع الأمريكي يتطلع لدور إسرائيلي حتى في أمن الخليج، بعنوان إحداث توازن مع الدور الإيراني. ولذلك جاءت عمليات التطبيع مع الاحتلال لتزيد الوضع تعقيدا، ولتضغط من أجل الاستمرار بتهميش القوى الوطنية والإسلامية لمحاصرة القضايا الأساسية في المنطقة خصوصا قضية فلسطين.
هنا يمكن استيعاب دوافع استهداف التجربة التونسية وبالتحديد الطرف الإسلامي المرتبط بها، وهي دوافع ذات أبعاد جغراسياسية واسعة تتجاوز العالم المغاربي وتتصل بالشرق العربي بشكل واضح. فالمشروع الذي يستهدف العالم العربي واحد، ولذلك فهو شامل واستراتيجي وجاد وخطير. ولكي يتم استيعاب ذلك المشروع لا بد من وقفة داعمة للشعب التونسي الذي يتعرض لتنكيل واسع من رئيس انقلب على الدستور وجمّد البرلمان وأنهى ما بقي من إنجازات للثورة التونسية. فإسدال الستار عليها يعني التنكر للتضحيات التي قدمها التونسيون ابتداء بالشهيد محمد بوعزيزي حتى آخر الشهداء الذين سقطوا قبل إسقاط زين العابدين بن علي. إن من السذاجة السياسية الاعتقاد بأن استهداف الشيخ الغنوشي وحركته قرار منفصل عن استهداف بقية ثورات الربيع العربي او التصدي للمشروع التغييري العربي الشامل أو تهميش قضية فلسطين أو التطبيع مع كيان الاحتلال أو فرض مشروع للشرق الاوسط تهمش فيه الإرادة العربية ويتم فيه احتضان محتلي فلسطين، واعتبارهم شركاء في الأمن الإقليمي للشرق الأوسط. صحيح أن الغنوشي يمثل آخر تجليات «الإسلام السياسي» إلا أن المسؤولية الإنسانية تقتضي الدفاع عنه والمطالبة بالإفراج عن السجناء السياسيين في تونس وفي مصر والبحرين والجزيرة العربية. الأمر المؤكد أن تطورات اليومين الماضيين في فلسطين ستساهم في تغيير موازين القوى المعنية بالصراع، وأن من الحصافة إعادة النظر في تطورات العقد الأخير لاستيعاب أبعاد ما يخطط للمنطقة من قبل التحالفات الشريرة التي تضم قوى الثورة المضادة. وذلك يقتضي التفاعل مع ما يجري في البلدان التي تخضع شعوبها للاضطهاد والتنكيل والتهميش، وعدم الاكتفاء بالتفرج عن بعد. فالغنوشي لا يمثل شخصه بل يمثل توجها أيديولوجيا وسياسيا من جهة، وحالة نضالية من جهة ثانية، وتراثا ثوريا كان جزءا منه، كما يمثل حالة إنسانية كمفكر ومنظر ومناضل وسجين سياسي.
كاتب بحريني