تونس ـ «القدس العربي» ـ من حسن سلمان: يحيط الغموض بالمشهد السياسي التونسي قبل شهرين على الانتخابات التشريعية، في وقت أعلنت فيه الهيئة المستقلة للانتخابات فتح أبوابها لتلقي طلبات الترشح للانتخابات المقررة في 26 تشرين الأول/أكتوبر المقبل.
ومع استمرار احتفاظ الإسلاميين بنوع من التماسك الداخلي مع بعض الخلافات الثانوية البسيطة، تتزايد حدة الصراع داخل الأحزاب اليسارية (الجبهة الشعبية) والهجينة (نداء تونس)، فيما يكافح التجمعيون (بقايا حزب بن علي) في لملمة شتاتهم دون جدوى.
وأمام هذا التخبط المستمر في الطبقة السياسية، يبدو الناخب التونسي حائرا ومترددا في اختيار ممثليه بعدما فقد الثقة بسياسيين قدموا وعودا «خلّبية» سقطت في أول اختبار حقيقي، الأمر الذي يفتح أمام جميع الاحتمالات في وقت يلمّح فيه البعض إلى احتمال تكرار سيناريو 2011 وتبعاته على المشهد السياسي التونس.
ويقول المحلل السياسي صلاح الدين الجورشي «اتضحت اولى التحديات التي تواجهها الأحزاب التونسية من خلال عملية تشكيل القائمات الانتخابية، فمعظم هذه الأحزاب تضرر من عملية تأثيث هذه القائمات نظرا لحدة الصراعات التي نشأت هنا وهناك حول قيادتها وبالتالي التمتع بإمكانية التأثير في المرحلة القادمة».
ويؤكد في تصريح خاص لـ»القدس العربي» أن حركة النهضة الإسلامية تُعتبر من أهم الأحزاب التي حافظت على الحد الأدنى من وحدتها الداخلية و»تمكنت من إدارة خلافاتها الداخلية بأقل ما يمكن من التصدعات، وهذا يمكن أن يؤثر على نوعية الناخبين وبالتالي يمكن القول بأن حظوظ الإسلاميين لا تزال عالية إلى حد ما لكن سيكون من السابق لأوانه الخروج باستنتاجات عاجلة في هذا المجال لأن الناخب التونسي في الغالب سيحدد خياراته في اللحظة الأخيرة».
وبرزت على السطح مؤخرا خلافات حادة داخل الأحزاب السياسية التونسية وخاصة «نداء تونس» (القوة الثانية في البلاد) حيث أشارت مصادر إعلامية إلى وجود خلافات جوهرية بين الأطراف اليسارية وبقايا حزب التجمع الدستوري وهما أبرز القوى التي تشكل الحزب، إضافة إلى خلافات حول تعيين نجل رئيس الحزب (حافظ قائد السبسي) على رأس إحدى أهم القائمات الانتخابية في البلاد، وانتهى الأمر باستقالة قائد السبسي والقيادي ورجل الأعمال البارز فوزي اللومي.
كما أشارت مصادر أخرى إلى وجود خلافات كبيرة داخل «الجبهة الشعبية» (القوة الثالثة) التي تضم عددا من الأحزاب اليسارية والقومية، انتهت بانسحاب حركة الديمقراطيين الاجتماعيين من الجبهة مع التهديد بانسحاب أحزاب أخرى واتهام حزب العمال بمحاولة الهيمنة على القرار داخل الجبهة.
ويبرر الجورشي «تماسك» النهضة مقابل «تشتت» منافسيها بوجود تقاليد في مجال العمل الديني داخل النهضة وتفوق مفهوم الجماعة (التي تتميز بالانضباط وحل الخلافات بطريقة التراضي) على مفهوم الحزب، في حين أن نداء تونس حزب جديد ويتكون من شخصيات مختلفة المسارات وتتباين في ثقافتها الإيديولوجية والسياسية ولذلك فإن الصراعات التي نشهدها حاليا تدل على أن الانصهار الكامل في حزب جامع لا يزال في بدايته».
ويضيف «وهذا ينطبق أيضا على الجبهة الشعبية المشكلة من عائلات إيديولوجية كانت متصارعة من قبل، وهي الآن تحاول المحافظة على حد أدنى من التنسيق ضد خصم مشترك ولذلك فإن هذه الصراعات منتظرة فيها، وإن كانت الجبهة نجحت حتى الآن أن تبقى متماسكة (نوعا ما)».
ويوضح أكثر بقوله «اختلاف التركيبة والمسار والتربية الحزبية هو الذي يفسر لنا هذا الفارق بين جماعات الإسلام السياسي التي تجمع بين الديني والسياسي، وبين أحزاب أخرى يكون هدفها أحيانا هو «التجميع» لمواجهة خصم مشترك والبحث عن طريقة للوصول إلى السلطة».
أمام هذا الواقع الجديد، تبدو النهضة أوفر حظها من منافسيها وحتى شركائها بالحكم سابقا (المؤتمر والتكتل)، وهو ما قد يفتح الباب أمام تكرار سيناريو 2011 الذي قاد لفوز ساحق للإسلاميين.
لكن الجورشي لا يميل لهذا الاستنتاج الذي يرى أنه ما زال سابقا لأوانه، مشيرا إلى أن جزءا كبيرا من الناخبين التونسيين لا يعرفون إلى حد الآن لمن سيصوتون و»الكثير منهم ما زال يعاني من خيبة أمل في أداء الإسلاميين في مرحلة الحكم».
لكنه يستدرك بقوله «ما يجري على الساحة اليوم يرسّخ الحيرة لدى الناخبين، وقد يضطر الكثير منهم إلى إعادة انتخاب النهضة على أمل أن تكون هذه الحركة قد راجعت نفسها بعد تجربة السلطة».
كما يشير الجورشي إلى أنه من المبكر الحكم بـ»الإعدام السياسي» على قطبي الترويكا الآخرين، رغم أدائهما الضعيف في السلطة، لكنه يشير إلى حزبي المؤتمر والتكتل أمامهما طريق صعب لإعادة اكتساب ثقة الناخبين في الانتخابات المقبلة، مشيرة إلى أن النهضة تتفوق عليهما «بعمق تاريخها وبالأبعاد الدينية والاجتماعية التي تتمتع بها».
وفي ظل هذا المشهد السياسي المضطرب، يذهب بعض المراقبين للحديث عن «مفاجآت غير متوقعة» في الانتخابات المقبلة قد تقلب المشهد رأسا على عقب وخاصة في ظل صعود بعض الأحزاب المنبثقة عن حزب التجمع الدستوري الديمقراطي (حزب بن علي)، فيما يحاول آخرين التقليل من هذا الأمر على اعتبار أن فوز حزب «العريضة الشعبية» على سبيل المثال في الانتخابات السابقة، وإن خالف جميع التوقعات لكنه لم يؤثر على المشهد السياسي، رغم أن الوضع الحالي أكثر تعقيدا من سابقه.
ويقول «من الواضح اليوم بأن التجمعيين أو الدستاترة لم يتمكنوا من توحيد صفوفهم وأن الانقسام بقي هو المهيمن على مشاريعهم الحزبية، وهذا بطبيعة الحال سيؤثر على حظوظهم في المشهد القادم، قد تكون هناك بعض الاختراقات أو المفاجآت المحدودة في الانتخابات المقبلة لكنها لن تغير في ميزان القوى».
ومن الأمور اللافتة في القوائم الانتخابية لجميع الأحزاب التونسية هو عدم التزامها بمبدأ التناصف بين النساء والرجال الذي يقره القانون الانتخابي في فصله الرابع والعشرين.
ويرى الجورشي أن هذا الأمر يشكل «معضلة تبين ضعف تغلغل الأحزاب في صفوف النساء عموما واضطرار جزء كبير من الطبقة السياسية لمحاولات «تلفيق» قائماتها من خلال توظيف العنصر النسائي، وأعتقد أن نساء تونس يتمتعن بفرص جديدة للانخراط في الشأن العام، لكن العناصر القيادية النسائية لا تزال محدودة في تونس، ويُخشى أن البرلمان القادم قد يتضمن شريحة من النساء اللاتي لا يتمتعن بالقدرة الكافية وبالثقافة السياسية المطلوبة لرسم السياسية لتونس الغد».
من جانب آخر، استعان عدد كبير من الأحزاب التونسية بعدد كبير من رجال الأعمال ونجوم الفن والرياضة على أمل رفع منسوب الشعبية المتدنية لدى الشارع التونسي.
ويقول الجورشي «لا تزال التجربة الحزبية بتونس في بدايتها، وأعتقد أن محاولة كسب نجوم المجتمع هو دليل على ضعف هذه الأحزاب وليس العكس، لأن تريد توظيف عناصر غير سياسية داخل المشهد السياسي».
وفي ذات السياق، يشير إلى أن موضوع التمويل الخارجي للأحزاب السياسية «يبقى فرضية قائمة ولن تفك شيفراته في الوقت القريب، كما أن قضية المال السياسي باتت سلاحا تحارب به الأحزاب بعضها بعضا ولكنها لن تؤثر الآن على الأحزاب المستهدفة».
يُذكر أن رئيس الهيئة المستقلة للانتخابات شفيق صرصار أكد في تصريحات صحافية مؤخرا أن القانون الانتخابي الجديد لم ينص صراحة على ضرورة منع أصحاب السوابق العدلية ومن في سجلهم أحكام بالسجن (كتجار المخدرات وسواهم) من الترشح للانتخابات التشريعية إلا في حال وجود عقوبة تكميلة على غرار ‘حرمانه من الحق في الترشح للانتخابات، وهو ما أثار جدلا كبيرا لدى عدد كبير من السياسيين، فيما حذر مراقبون من أثر ذلك على العملية الديمقراطية الوليدة في البلاد.