تونس: انتخابات الضرورة المشوبة بالإخلالات

روعة قاسم
حجم الخط
0

تونس ـ «القدس العربي»: خاض التونسيون استحقاقا انتخابيا جديدا في أجواء سياسية مشحونة، وفي ظل مقاطعة لهذه الانتخابات من قبل قوى المعارضة، ومن قبل عدد من منظمات المجتمع المدني. كما خاضوها في ظل خلافات بين الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري «الهايكا» والهيئة العليا المستقلة للانتخابات حول صلاحية مراقبة وسائل الإعلام. كما توجه التونسيون إلى صناديق الاقتراع في ظل تصعيد مفاجئ من الاتحاد العام التونسي للشغل مع الحكومة من خلال خطاب مكتوب يبدو أنه صيغ بترو ألقاه الأمين العام للاتحاد نور الدين الطبوبي وانتقد فيه بشدة سياسات الحكومة ولوح بالإضرابات للرد على هذه السياسات.

ولا يمكن لكل تلك العوامل إلا أن تشعر عددا هاما من التونسيين بخيبة الأمل، وتجعل حماسهم للذهاب إلى صناديق الاقتراع يخفت خصوصا مع ما عاشوه في السابق من إحباط سياسي واقتصادي طيلة عشرية بالتمام والكمال. فالأحداث والمتغيرات تتوالى منذ سنوات وتبعث معها الأمل في مستقبل أفضل لكن جذوة الحماس سرعان ما تخفت ويتحول الأمل في كل مرة إلى كابوس مؤرق بعد أن تطغى أنانية رافعي شعارات التغيير، ويتم تغليب مصالحهم على مطالب الجماهير.

سحب ملف تونس

ولعل ما زاد الطين بلة هو إعلان صندوق النقد الدولي عن سحب ملف تونس من اجتماعات مجلس إدارته ليوم 19 كانون الأول/ديسمبر وتأجيله إلى موعد لاحق مع ما يعنيه ذلك من تأجيل لدعم الاقتصاد التونسي من جهات مالية أخرى. فقد كانت هذه الجهات تنتظر موافقة مجلس إدارة صندوق النقد الدولي على القرض التونسي لتمنح هي بدورها دعمها المالي الذي سيتأجل في انتظار القرار النهائي لهذه المؤسسة المالية الدولية. ويرجع البعض سبب هذا التأجيل إلى رغبة مجلس إدارة الصندوق في منح السلطات التونسية مزيدا من الوقت للانتهاء من برنامج الإصلاحات المرتبط بميزانية 2023 التي لم تجهز بعد. فيما يربط البعض الآخر هذا التأجيل بنجاح تونس في تنظيم هذه الانتخابات التي ستفرز برلمانا جديدا، رغم أن انتخاب هذا البرلمان لن يكون نهاية المطاف للخروج من المرحلة الاستثنائية مثلما قيل عند الإعلان عن خريطة الطريق.
فهناك انتخابات جزئية ستجرى لاحقا في الدوائر التي لم يتقدم فيها أي مترشح بفعل إرهاق التزكيات، وهناك انتخابات الغرفة الثانية للبرلمان التي أحدثها الدستور الجديد، بالإضافة إلى ضرورة تركيز المجلس الأعلى للقضاء والمحكمة الدستورية العليا. ويذهب البعض بعيدا ويطالب بإجراء انتخابات رئاسية سابقة لأوانها على أساس الدستور الجديد إضافة إلى ما ذكر، حتى يجوز القول أن البلد خرج نهائيا من المرحلة الاستثنائية واستأنف الحياة الديمقراطية.
وتعرضت هذه الانتخابات، وعلى غرار انتخابات سنة 2019 إلى انتقادات عديدة منذ أن تم إقرار المرسوم الانتخابي الذي تضمن أحكاما أثارت الكثير من الجدل وما زالت إلى اليوم. ومن أهم هذه الانتقادات تلك المتعلقة بالدوائر الانتخابية التي لا يعرف إلى اليوم على أي أساس تم إقرارها بعد أن تم التخلي على نظام الاقتراع على القوائم المغلقة في دوائر كبيرة لأجل نظام الاقتراع على الأشخاص في دوائر صغيرة والذي طالب به أغلب من شاركوا في الاستشارة الوطنية على حد تعبير الفريق الحاكم.
ومن المآخذ على المرسوم الانتخابي أيضا مسألة تمثيلية المرأة والشباب، حيث تم التخلي عن المناصفة بين الجنسين الذي كان سائدا في السابق وعن مسألة تخصيص حصة للشباب في الترشحات وهو ما جعل منظمات نسوية وحقوقية تتخذ موقفا سلبيا من هذه الانتخابات. ويعتقد هؤلاء أن هذا المرسوم الانتخابي هو خطوة إلى الوراء أفقدت تونس بلد الإصلاحات في المجال الحقوقي عبر التاريخ، مكاسب هامة وهو ما سيؤثر سلبا على تكريس الديمقراطية ومسارها المتعطل في الخضراء منذ فترة.
ويرى البعض أن تمثيلية الخارج لم تكن في المستوى المأمول بعد أن جعل شرط حصول المترشح على 400 تزكية في دائرته الانتخابية عدد الترشحات يقل، بل ينعدم في بعض الدوائر خارج البلاد. فهناك دوائر فيها مترشح وحيد وأخرى لم تشهد ترشحات بالمرة وهو ما سيفرض إجراء انتخابات جزئية في هذه الدوائر ولا يعرف إلى اليوم هل ستتم المحافظة على شرط حصول المترشح على التزكيات أم سيقع التخلي عنه لضمان وجود مترشحين بالدائرة الانتخابية.
وللإشارة فإن مواطني تونس بالخارج هم من بين أهم المساهمين في الاقتصاد التونسي من خلال تحويلاتهم التي زادت في السنوات الأخيرة وتجاوزت على سبيل المثال مداخيل القطاع السياسي بأربع مرات. وبالتالي كان من المفروض الاهتمام أكثر بتمثيلية التونسيين بالخارج في البرلمان باعتبارهم الأقدر على تشخيص مشاكلهم والتشريعات المناسبة لهم في علاقة ببلدهم الأصلي تونس.
لقد تسببت هذه التزكيات، التي فرض المرسوم الانتخابي على المترشح الحصول عليها لتقديم ترشحه، مشاكل عديدة وجعلت صاحب الالتزامات المتعددة غير قادر على جمعها، وحرمت عديد الكفاءات من الترشح. أليست شعبية المترشح في الديمقراطيات تحددها صناديق الاقتراع وليس هذه التزكيات التي تقوم على محاباة الأقارب والأصدقاء والجيران وزملاء العمل وأبناء القبيلة أو العشيرة أو العرش كما يسمى في تونس؟
من أهم الانتقادات التي طالت العملية الانتخابية، مسألة التخلي عن التمويل العمومي للحملات الانتخابية التي جاء بها المرسوم الانتخابي، وكذلك ما قامت به الهيئة المستقلة للانتخابات التي قررت أن يمول المترشح نفسه أو أن يحصل على التمويل من شخص طبيعي ومنعت الحصول على التمويلات من الأحزاب السياسية. ولعل ذلك ما سيفتح الباب على مصراعيه لوصول أصحاب رؤوس الأموال إلى قصر باردو سواء كنواب أو كأصحاب كتل نيابية إذا استعان بهم المترشحون طلبا لتمويلاتهم أو عرضوا خدماتهم من تلقاء أنفسهم.
لذلك يرى البعض أنه كان من الضروري عدم التخلي عن التمويل العمومي حتى يتحقق مبدأ المساواة، مع ضرورة أن تقع مراقبة صارمة للأرصدة المالية والنفقات حتى لا تتكرر سيناريوهات العشرية السابقة ويتدفق المال الخارجي. وقد أكدت هذا التدفق للمال الخارجي محكمة المحاسبات في تقريرها الشهير الذي لم تتم إدانة أي طرف سياسي على أساسه إلى حد الآن رغم أن الجرائم الانتخابية واضحة وجلية والمتورطون فيها يعرفهم القاصي والداني.
ولعل هذا الإفلات من العقاب سيشجع على استمرار هذه الممارسات المسيئة للعملية الانتخابية ولمبدأ المساواة وبالتالي للمعايير الدولية للانتخابات الحرة والنزيهة وهو ما جعل هذا الاستحقاق محل انتقادات واسعة سواء في الداخل أو في الخارج. ولا يبدو حسب البعض أن هناك تغييرا سيحصل في هذا الإطار سيقع من خلاله التعامل بصرامة مع من يتحصلون على تمويلات مخالفة للقانون لحملاتهم أو يتورطون في شراء ذمم الناخبين مثلما كان يحصل في السابق.

حملات باهتة

وللإشارة فإن الحملات الانتخابية كانت باهتة وغاب فيها التنافس في بعض الدوائر فيما اقتصر الأمر في دوائر أخرى على بعض اللقاءات مع مواطنين في المقاهي أو في أماكن عامة أو توزيع بعض المنشورات. لقد غاب التنافس الحاد الذي شهدته المواعيد الانتخابية السابقة وتلك اللقاءات الجماهيرية الكبرى وغابت أيضا بعض المظاهر الشعبوية السيئة التي تستغل فقر وحاجة الناخبين على غرار تنظيم حفلات الزواج والختان للفقراء وشراء أضاحي العيد وغيرها.
ولعل السبب في ذلك هو عدم وجود تمويلات كبيرة لدى عدد لا بأس به من المترشحين في غياب المال الخارجي، بالإضافة إلى عدم وجود العدد الكافي من المترشحين لخلق المنافسة المطلوبة في بعض الدوائر على غرار دوائر الخارج. كما أن المترشحين في ظاهرهم لا ينتمون إلى أحزاب سياسية ولا يعرفون بعضهم البعض وبالتالي لا يوجد ما يدعو إلى التشنج أو يخلق تلك الأجواء المشحونة المعتادة التي عاشها التونسيون في انتخابات 2011 و2014 و2019 والتي ميزتها الاتهامات المتبادلة.
ولكن ذلك لم يمنع من القول بأن الحملة الانتخابية شدت إليها الأنظار من خلال بعض الترشحات غير الجدية لمترشحين أثاروا السخرية والاستهزاء في مواقع التواصل الاجتماعي وفي بعض وسائل الإعلام. وقد أكد البعض على أن كثيرا من هؤلاء ليسوا مترشحين وأن هناك جهة ما أرادت الإساءة إلى الانتخابات التشريعية التونسية لغاية في نفس يعقوب خاصة وأن من بين هؤلاء غير الجديين من رشح في السابق أو أعلن عن رغبته في الترشح.
إن ما يمكن استنتاجه أن تشريعيات تونس بسنة 2022 جاءت على عجل استجابة للضغوط الداخلية والخارجية للخروج من الوضع الاستثنائي فلم يتم الإعداد لها الإعداد الأمثل فحصلت فيها خروقات عديدة ولم تستجب بصرامة للمعايير الدولية. كما أنها انتظمت في ظرف اقتصادي واجتماعي وسياسي صعب واستثنائي فيه احتقان كبير وانقسامات في الشارع دفعت بالمعارضة وبقوى من المجتمع المدني إلى مقاطعة الانتخابات وكل المسار السياسي الذي أعلن عنه ساكن قرطاج.
وبالتالي جاز القول إنها انتخابات الضرورة والأمر الواقع والعودة سريعا إلى الوضع العادي. وهي أيضا الانتخابات التي يسعى الفريق الحاكم إلى إجرائها في موعدها مهما كان الثمن دون الاستجابة إلى مطالب التأجيل للإعداد الجيد لها. ولعل السبب في ذلك هو الرغبة في الخروج من الوضع الاستثنائي ومن شبه العزلة الدولية التي بدأت تتفكك منذ مدة مع الحركية الدبلوماسية التي تشهدها تونس من احتضانها لقمم ومشاركتها في أخرى ومع الزيارات التي قام بها بعض قادة العالم إلى تونس للمشاركة في هذه القمم.
ولعل السؤال الذي يطرح ماذا بعد هذه الانتخابات خاصة وأن ملف قرض صندوق النقد الدولي سيكون من أهم التحديات للفريق الحاكم لمرحلة ما بعد التشريعيات؟ وماذا عن الحراك الاجتماعي خلال الفترة المقبلة؟ هل استعدت له الحكومة خاصة مع تهديد الاتحاد العام التونسي للشغل بالتصعيد خلال الفترة المقبلة وهو الذي دعا أنصاره إلى الاختيار الحر بين المشاركة في الانتخابات أو مقاطعتها؟ جميعها أسئلة حارقة وتحديات بانتظار الفريق الحاكم في تونس في مرحلة ما بعد الانتخابات.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية