تونس في مرحلة فارقة من تاريخها وتتهددها المخاطر من كل حدب وصوب بعد أن حشر سياسيوها أنفسهم في صراعات المحاور الإقليمية والدولية فنقلوا صراعات الآخرين إلى أرضهم.
تونس-“القدس العربي”: دخلت تونس في أزمة سياسية جديدة وهي التي اعتادت على الأزمات في السنوات الأخيرة، وذلك بعد أن تم إجبار رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ على الاستقالة نتيجة لملف فساد يتعلق به أثاره طرف سياسي فاعل في المشهد التونسي. وجاءت هذه الاستقالة بطلب من رئيس الجمهورية قيس سعيد في خطوة رآها محللون استباقية من ساكن قرطاج لإبقاء هامش المناورة عنده وسحب البساط من تحت أرجل حركة النهضة.
فقد تقدمت حركة النهضة في وقت سابق بمبادرة لسحب الثقة من حكومة الفخفاخ من قبل البرلمان حتى تقوم لاحقا بترشيح إحدى الشخصيات باعتبارها الحزب الأول في الانتخابات الأخيرة وذلك حتى يتم تكليف هذه الشخصية بتشكيل حكومة جديدة وفقا لدستور 2014. لكن هذا الدستور نفسه ينص على أن رئيس الجمهورية هو الذي يكلف إحدى الشخصيات بتشكيل الحكومة عند استقالة صاحب القصبة وهو ما جعل سعيد يسارع إلى مطالبة الفخفاخ بالاستقالة حتى يبقي على هامش المناورة.
وزراء النهضة
ولعل اللافت في هذه الأزمة هو مسارعة إلياس الفخفاخ إلى إقالة وزراء حركة النهضة من الحكومة في عملية رآها أغلب المتابعين انتقامية لا تليق بمنطق الدولة وبسلوك رجل الدولة الذي يغلب في العادة المصلحة الوطنية على المصلحة الخاصة. وبالتالي فقد حولت هذه الخطوة المفاجئة للجميع البلد إلى حلبة للصراع وتسجيل النقاط على الخصوم ضاربا صاحبها عرض الحائط بالوضعين الاقتصادي والاجتماعي المزريين وبحال البلد الذي لا يحتمل المزيد من الأزمات والتصعيد من هذا الجانب أو ذاك.
ويبدو أن الفخفاخ بصدد القيام بعملية انتحارية ستذهب بالبلد إلى ما لا يحمد عقباه، فقد عجز في المرور بالبلد إلى بر الأمان وحركة النهضة إحدى مكونات حكومته من خلال عدم القدرة على تمرير عديد مشاريع القوانين في البرلمان، فكيف به الآن والنهضة خارج الحكومة بنوابها الثلاثة والخمسين؟ كما أن المشهد العام في البلاد بات غريبا وهجينا باعتبار أن الأحزاب الثلاثة الأولى في الانتخابات الأخيرة أي حركة النهضة وحزب قلب تونس وائتلاف الكرامة، هي الآن خارج الحكم فيما تتشكل الحكومة من الأحزاب التي احتلت المراتب الرابعة والخامسة والسادسة.
وللإشارة فإن إلياس الفخفاخ ترشح إلى الانتخابات الرئاسية الأخيرة وحصل على نسبة ضعيفة جدا من الأصوات وانهزم حزبه، التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، في الانتخابات التشريعية هزيمة نكراء ومخجلة، لكنه في النهاية وجد نفسه رئيسا للحكومة وقام بتعيين عناصر من حزبه في المناصب العليا للدولة. وبذلك فقد تساءل البعض عن الجدوى من صرف كل تلك الأموال لإجراء الانتخابات وبالنهاية تقصى الأحزاب الحائزة على المراتب الأولى من الحكم وتحكم الأحزاب الحاصلة على المراتب المتأخرة وتعجز عن تمرير مشاريع القوانين داخل البرلمان، أية ديمقراطية هذه؟
اللوبي الفرنسي
ويدرك القاصي والداني العلاقات المتينة التي تربط حزب التكتل الذي ينتمي إليه الفخفاخ بالحزب الاشتراكي الفرنسي حتى أن الحزب نال تأشيرته زمن بن علي وتمكن من إصدار جريدته بضغط من فرنسا على هذا الأخير. وبالتالي يرجح البعض أن تكون لعلاقات الفخفاخ مع فرنسا دور في تسهيل وصوله إلى القصبة.
فهل لما حصل في تونس علاقة بالملف الليبي حيث تتعارض السياسة الفرنسية الداعمة لحفتر هناك مع المحور المساند للسراج الذي تواليه حركة النهضة التونسية؟ وبالتالي هل كان مطلوبا توجيه ضربة للحزب الأول في تونس لردعه عن الاستمرار في مساندة السراج خاصة بعد المكالمة الهاتفية التي هنأ من خلالها راشد الغنوشي رئيس حكومة الوفاق الليبية على تحرير قاعدة الوطية؟ وهل تحولت تونس بدورها وعلى غرار باقي بلدان “الربيع العربي” إلى ساحة لصراعات الآخرين وبات ما يحصل في بلد عمر المختار يؤثر على أمنها القومي واستقرارها وعلاقاتها الخارجية؟
سيناريوهات عديدة
ما من شك في أن أي شخصية مكلفة بتشكيل الحكومة من قبل رئيس الجمهورية قيس سعيد لن تستطيع تجاوز حركة النهضة بنوابها الـ53 باعتبار أن الفريق الحكومي لن ينال التزكية إلا بـ109 أصوات في البرلمان فما فوق، وهو نصاب يقتضي توسيع الائتلاف لضمان حصول التزكية. كما أن عديد مشاريع القوانين يقتضي تمريرها نصابا أكبر وبالتالي حتى ينجح أي رئيس حكومة في إدارة دواليب الدولة من دون عراقيل عليه أن يطوق حكومته بحزام برلماني قوي، إحدى أهم مكوناته، وبلا جدل أو نقاش، حركة النهضة.
لكن ما الذي سيحصل إذا أصرت حركة النهضة على اشراك حزب قلب تونس الذي يرفض رئيس الجمهورية مشاركته رفضا قاطعا؟ هل سيعود البلد إلى المربع الأول وإلى مرحلة ما قبل استقالة الفخفاخ ورفضه شراكة حزب قلب تونس وصراعه مع حركة النهضة من أجل ذلك؟ وهل يمكن أن تجد حركة النهضة نفسها مجبرة على الإذعان لإرادة الرئيس بالقبول بحكومة دون قلب تونس حتى لا تسير الأمور باتجاه حل البرلمان والذهاب إلى انتخابات سابقة لأوانها لا يتحملها الوضع الاقتصادي المزري؟
مرحلة فارقة
إن ما هو أكيد أن تونس في مرحلة فارقة من تاريخها لم تعرفها من قبل وتتهددها المخاطر من كل حدب وصوب بعد أن حشر سياسيوها أنفسهم في صراعات المحاور الإقليمية والدولية فنقلوا صراعات الآخرين إلى أرضهم غير مدركين لخطورة الإنخراط في هذا المحور أو ذاك على أمن واستقرار البلد واستمرار عمل مؤسساته. فالساحة الليبية المجاورة ملتهبة ولا يبدو أن الحل فيها قريب باعتبار أن القوى الكبرى المتصارعة لم تتفق بعد على الحل الذي سيرضي الجميع بعد أن ازداد عدد اللاعبين.
أما من الناحية الاقتصادية فإن البلد يسجل نسبة نمو تقدر 6 في المئة سلبية ويتهدده الإفلاس رغم ثرواته المعتبرة والكافية مقارنة بعدد سكانه وذلك بعد توقف عجلة الإنتاج وهو ما أثر سلبا على الأوضاع الاجتماعية، حيث ازدادت نسب الفقر والبطالة وازدادت القدرة الشرائية للمواطن تدهورا وبلغ الاحتقان الإجتماعي مداه. ومن المرجح مع هذه الأزمة السياسية أن تزداد نقمة التونسيين على طبقتهم السياسية خاصة وأن استطلاعات الرأي الأخيرة أثبتت أنه في حال إجراء انتخابات سابقة لأوانها، فإن نسبة العزوف تفوق 60 في المئة وهو ما يؤشر على أن التونسيين في واد وطبقتهم السياسية في آخر، وأن الأحزاب السياسية التونسية لا قدرة لها على السيطرة على الشارع المحتقن، وبالتالي فإن أياما عصيبة تنتظر هذه الطبقة السياسية التي لن تكون بمعزل عن الاضطرابات الاجتماعية التي تجتاح البلاد.
قد يحزم قادة النهضة حقائبهم ثم العودة إلى حيثوا كانوا علما أنه قد يقع تعيين رئيس حكومة لم يخطر على بال النهضة ولا في الأحلام.
حقيقة لم تحسب لها النهضة حسابا يوم أن عولت على التشارك في الحكم كوسيلة للنجاة من سيناريوهات لم تكن إلا بعقول أصحاب الأيدي المرتعشة التي جنت على حلم شباب الثورة الذي أكلته شتى كائنات البحر المتوسط بين تونس وإيطاليا جراء البطالة.
باي باي.