تحوّل ما يفترض أنه حدث جلل في تاريخ تونس المعاصر، وهو إعلان مسودة دستور جديد للجمهورية، إلى أمر أقرب للملهاة الساخرة مع اكتشاف الجمهور، أن ما نشره الرئيس هذا الأسبوع لا يمت بصلة للمسودة التي قدّمها الصادق بلعيد، وهو أستاذ القانون الدستوري المكلّف بالإشراف عليها، وهو ما يعني أن مهمة بلعيد كانت شكلية إلى حد بعيد، وأن سعيّد، قام بالانقلاب على حليفه الذي كلّفه بصياغة الدستور، وأنه أعاد صياغة النسخة بنفسه.
اكتشف بلعيد – وهو من كان معتبرا حتى يوم أمس، أحد الثقاة المقربين الذين يأتمنهم سعيّد على ترتيب دستور يشرّع العملية السياسية الانقلابية التي قام بها – أن أحد فصول النسخة التي نقّحها سعيّد يتضمن «الخطر الداهم الذي يسمح للرئيس بتمديد ولايته وتمهيد الطريق لديكتاتورية مشينة». «اكتشف» بلعيد أيضا أن سعيّد يقوم بتقويض استقلالية المحكمة الدستورية لأنها ستقتصر على قضاة يعينهم سعيّد بنفسه، وأنه يشوّه هوية الدولة، ويقيم نظاما محليا وإقليميا مبهما.
الحقيقة أن استغراب بلعيد مما قام به سعيّد يثير الاستغراب، فإذا كان سعيّد قام بالاستيلاء على صلاحيات الحكومة والبرلمان والقضاء والنيابة العامة فلماذا سيتورّع عن الاستيلاء على مسودة الدستور وأن يقوم بتعديلها، وأن يفعل بها ما فعل بكل ما سبقها.
شغل بلعيد، الجامعي المتقاعد، وظيفة عميد كلية العلوم القانونية والسياسية والاقتصادية خلال السنوات من 1971 و1977، وكان سعيّد أحد طلبته، ومن المؤكد أن قانونيا مخضرما مثله، يعلم بالعوار القانوني الذي يكتنف مسار سعيّد السياسي بمجمله، بدءا من استخدامه المتعسف للفصل 80 من دستور 2014 لإعلان «الحالة الاستثنائية» مرورا بإنشاء دستور جديد من دون محكمة دستورية، ووصولا إلى تكليف شخص (تحت مسمى «هيئة استشارية لم يجتمع بها غير مرة واحدة!) بصياغة الدستور وليس تكليف جمعية تأسيسية تقترحه على الشعب (وليس على الرئيس نفسه!)… إلى آخر هذا المسلسل الذي كان واضحا أنه يقود، بالتأكيد، إلى ديكتاتورية مطلقة.
الخطاب الذي استخدمه سعيّد لتسويق دستوره الجديد يخرج حتى عن النمط الرئاسي الدكتاتوري إلى سياق سلطاني وملوكيّ، فإضافة إلى أنه يعطي نفسه مسؤولية «تصحيح مسار التاريخ» فإن سعيد لا يكتفي بأن يكون القائد الأعلى للقوات المسلحة، وضابط السياسة العامة للدولة ومحدد اختياراتها الأساسية، والمسؤول عن اقتراح الوظائف العليا المدنية والعسكرية، ومالك حق عرض مشاريع القوانين على البرلمان، الذي عليه أن يعطيها أولوية على «سائر مشاريع القوانين» بل إنه يعطي نفسه أيضا صلاحية تعيين ممثلي السلك الدبلوماسي في الخارج!
استخدم سعيّد في المسوّدة التي نشرها جملة تقول إن «طغراء الجمهورية التونسية يحددها القانون» في استعادة متكلّفة ونافلة للفظة مغولية استخدمها السلاطين العثمانيون لوصف ختمهم أو العلامة التي يوقعون بها، وهو ما جعل أستاذ قانون دستوري تونسي يوصّف هذه الحالة بأن «الرئيس يحول نفسه إلى سلطان دستوري».
أحد أجلى التعبيرات عن هذه الوضعية، هو الجملة التي رصفها سعيّد في مشروع دستوره والتي قالت إن «على الدولة وحدها أن تعمل على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النفس والعرض والمال والدين والحرية» وإذا كان واضحا أن سعيّد يستخدم كلمتي الشعب والدولة للدلالة على إرادته الخاصة، فإن المعنى الفاصل في كل هذا أن سعيّد يريد جمع سلطات الدولة والدين واحتكارها لنفسه، وهو ما يعني تحوّله، دستوريا، وفعليا، إلى سلطان أو ملك على الطراز القديم، وليس لرئيس مطلق الصلاحيات فحسب!
السيد قيس سعيد جاء باستثناء عربي غير مسبوق…وهو كونه رجلا أكاديميا وصل إلى منصب الرئاسة عن طريق صناديق الانتخابات…وليس على ظهر دبابة لتكريس إرادة الثكنة في الحكم والتحكم…على طريقة الكوبوي…من يحسن استعمال المسدس هو من يملك الحق…؛ ولكن استثناء السيد قيس سعيد..لم يكتب له صاحبه أن يبقى في نفس الإطار فقط أو أن يدوم الى حين إنتهاء عهدته…ولكنه أضاف إليه استثناء آخر…وهو قيام أستاذ جامعي بانقلاب لايختلف في مضمونه عن انقلابات عسكر العرب الذين تزوجوا شعوبهم زواجا كاثوليكيا لا انفصام ولا انفصال فيه ..فتحول الأكاديمي السابق إلى نسخة من نماذج معروفة لم تنتج سوى الإفلاس السياسي والاقتصادي….؛ وكما قال لي أحد الأصدقاء… إن قيس يستنسخ قصة عيدي أمين بابا…في سياق جغرافي وسياسي واجتماعي وثقافي…مختلف..
لا فرق بين سعيّد وأردوغان، فلماذا نسكب كل ما نملكه من كراهية على التونسي سعيد، دون مقارنته بالتوسعي العثماني أردوغان ؟ الأسد سيد الطغاة في مشرقنا ومغربنا، سعيد لا يختلف عن أي مستبد، سوى بترديد عبارة ديمقراطية كما يفعل أردوغان، ثم بصراحة تامة، هل عباس أفضل من سعيد ؟ مجرد سؤال أختم به تعليقي، مع الشكر والاحترام للجميع