سوى المنطق البسيط، الحسابي قبل أن يكون سياسياً أو ديمغرافياً، ماذا يملك المرء من براهين تتيح الطعن في نتيجة الـ94,6% التي أعلنت ما سُمّيت “الهيئة العليا المستقلة للانتخابات” أنها كانت نسبة التصويت بـ”نعم” على مشروع “دستور” جرى “استفتاء” الشعب التونسي عليه مؤخراً؟ في الوسع الابتداء من كثرة علامات الاقتباس في الجملة السالفة، التي تريد التشديد على انفكاك فاضح بين المفردات وما تريد التدليل عليه؛ إذْ لا لجنة الانتخابات مستقلة (بل هي نتاج قرار انفرادي انقلابي من الرئيس التونسي قيس سعيّد عقب حلّ اللجنة الأمّ الشرعية)؛ ولا دلالات، سوى تلك الفاسدة الزائفة والمزيفة، خلف صيغة الموافقة (إذْ لم يشترط سيّد قرطاج توفُّر حدّ أدنى، للثلثَين أو حتى الـ40% التي تعتبرها المواثيق الدولية معياراً لمصداقية أيّ استفتاء)؛ أو توصيف الأحكام موضوع الاستفتاء تحت خانة دستورية من أيّ طراز أدنى (فأيّ دستور هذا الذي لا يسمح بمساءلة الرئيس أو محاسبته أو عزله أو حتى تنحّيه إرادياً)؛ أو أخيراً، أيّ استفتاء هذا الذي لا يُعتدّ به أصلاً من جانب السلطة ذاتها التي طرحته على الشعب (إذْ تنصّ المادة 139 على أنه سوف يُعتمد بصرف النظر عن النتيجة بعد إجراء الاستفتاء).
كان دستور 2014 حجر عثرة أمام مشروع سعيّد الانقلابي الانفرادي، رغم أنه أقسم على هذا الدستور تحديداً، وبالتالي لم يحنث بالقسم وحده، وهذه سبّة أولى فاضحة، فحسب؛ بل سعى أيضاً إلى مناقضته جملةً أولاً، ثمّ تفصيلاً حين أدرج في “الدستور” الوليد سلسلة من البنود التي يحار المنطق في تعريفها سوريالياً، قبل أيّ حدّ أدنى في التمحيص الحقوقي والقانوني. وبمعنى المراحل المتدرجة في مشروع سعيد الانقلابي، ليس من اليسير الجزم بأنّ دستور 2014 تمّ إبطاله تماماً ونهائياً بموجب مهزلة الاستفتاء الأخير، والكرة في هذا استقرّت لتوّها في ملعب المعارضة على اختلاف تياراتها، وبصرف النظر عن مواقفها السابقة المبكرة في مغازلة سعيّد أو مناهضته: إمّا أن تواصل التمسّك بالدستور القديم، عبر طرائق سلمية منهجية ومنظمة يحقّ لها أن تتضمن أشكال العصيان المدني كافة؛ أو أن تواصل رفض “دستور” سعيّد، ولكن من دون تصعيد الخيار هذا إلى سلوكيات جماهيرية احتجاجية وكفاحية ذات وعي عالٍ وفاعلية حركية، وتوغّل أعمق في صلب الحراك الشعبي السياسي والمطلبي.
ذلك لأنّ الخطوة التالية في مشروع سعيّد الانقلابي سوف تكون، كما أعلن بنفسه، سنّ قانون انتخابي يُبطل بدوره ما يتوجب أن يُزاح عن المشهد من قوانين سابقة لم تكن، في الحدود الدنيا، أقلّ من قواعد لعبة ديمقراطية فتية، أو حتى هجينة لمَن يشاء، أفرزت مع ذلك مساحات اشتباك سلمي في صناديق الاقتراع؛ بل يصحّ الافتراض، أيضاً، أنها كانت قد حكمت جوهر الاعتبارات التي مكّنت سعيّد نفسه من الفوز في الانتخابات الرئاسية. وهذا يعني، بموجب المنطق البسيط إياه، أنّ “قانون” سيّد قرطاج الانتخابي المقبل لن يحمل ما لم ينصّ عليه “دستور” سعيّد من قيود تعيق استمرار النهج الانقلابي؛ الذي سيصبح معمماً هذه المرّة، وسيتكفل بنقل المهازل إلى الغرفتَين معاً: مجلس النواب، والمجلس الوطني للجهات.
كرات سعيّد تعاقبت منذ تموز (يوليو) 2021، وفي جعبته ثمة المزيد منها؛ وأمّا الملاعب التي تأرجحت فيها ألعاب ساكن قرطاج فإنها اليوم في ذمّة المجتمع المدني التونسي، حيث النقابات والاتحادات والروابط والمؤسسات المختلفة التي كانت منذ البدء ولسوف تظلّ في قلب الاستهداف الانقلابي؛ أكثر، ربما، من الأحزاب المعارضة أو البرلمان المنحلّ أو السلطات القضائية. والأرجح أنّ هيئات المجتمع المدني لا تملك، أصلاً، رفاه التلكؤ عن الانخراط في معترك متعدد الميادين والمضامين والأشكال، ولا تليق به الصفة إلا لأنه سوف ينطوي على معارك فعلية، ومواجهات معقدة وشاقة بقدر ما هي مشرّفة وإلزامية.