تمنحني تونس ما تعجز الأمكنة العربية العديدة الأخرى عن تقديمه، أو حتى الاقتراب منه: الأمل، أمل الغريق بالنجاة يوماً. أمل الحالم بمطرح يعود مرة إليه ويصرخ تحت سقفه: ها أنذا الآن في البيت.. بيتي.
تونس هي ذلك البيت المأمول والمرتجى، أعود إليها في كل مرة، كما يعود الغريب إلى أناه، ليعيد اكتشافها، ثم تخليصها، إلى حدود معقولة، من قبضة البعد وأمراض الحنين، وهي لا تُعد ولا تُطاق.
أعود إليها لأعرف أن الأمل هو هذا الذي تراه هناك، في الشوارع وفوق الأرصفة.. فقيرة أو ثرية كانت. أعود لأرى الحياة وهي تمنح ما لديها من صخب وفوضى.. من رغبات وشهوات تصارع مكائد الولادة والحق الجليل بالبقاء. أعود لأحلم مع من يحلمون بأزمنة غير تلك اللعينة التي مضت، ببلاد ينال أصحابها شيئاً من جمالها الطبيعي الفذ والسخي.. شيئاً من دروس تاريخها المتنوع والفريد وثراء ما يدلان بعمق عليه.
أعود إلى تونس لأكتشف حقيقة أن الانتقال السحري من كهوف الاستبداد الوضيعة إلى رحاب الحرية البديعة، وعلى الرغم من قسوته ومشتقات دروبه، إلا أنه لذيذ المعنى كذلك وممكن، وهو يتم.. يسير من مكيدة هنا إلى أخرى هناك تنتظر، لكنه يسير، يتجاوز العقبات حيناً، يسقط أحياناً بفعل سيوف الماضي وشياطين الحاضر، ثم يتابع سيره، فالمشيئة العظيمة التي أجمعت على تحقيقه حاضرة وبينةً، تراها في السجال مع المثقف وبائع الخضار ونادل المقهى، وهي عالية ومرئية على الدوام، وفاتنة حين تلمحها في الوجوه وحدقات العيون، ولا أؤمن شخصياً، أو هكذا أرجو، بوجود قوة تملك طاقة شريرة تستطيع الانقضاض عليها وتحطيم مسعاها، فهي مشيئة الجميع وهي شفيفة وصائبة. مع التأكيد على أن تلك القوة الشريرة حاضرة ومتربصة، في الجوار والبعيد، كما في الداخل التونسي الذي لم يتخلص بعد من جميع أشرار النظام السابق ورعاة الفساد وبعض العبيد.
يتم الانتقال التونسي من الأمس التعيس إلى الغد الأفضل وعلى نحو يومي، لحظي، وبالكثير من مشاعر الحذر والقلق والرغبة الجلية بتحويل الفكرة الريادية التي ولدت من رحم يناير/كانون الثاني 2011 إلى واقع مرئي ومحسوس، تلك الفكرة الأخاذة التي تعيد إلى الحياة أنساقها البهية والسجينة وتردها إلى دروبها الصحيحة والمشتهاة، حيث الحرية تنتظر، وحيث لا حياة آدمية ممكنة، بدون قدرة الآدمي على التمتع بمآثرها والاهتداء بمباهج ما تقترح، وهي لا تُعد ولا يمكن اختصارها بالقليل من الكلام. فهي كل الحكاية الثرية وهي جوهرها البعيد، وأظن تونس التي عدت منها مؤخراً تدركها وتعرف أسرارها.
تونس هي الأمل، هي الصغيرة الجميلة التي تحولت عن جدارة تستحق الاحترام إلى نموذج يحتذى في جغرافيا كئيبة وكبيرة ممتدة بين المحيط والخليج.
يدرك التونسيون الآن حقيقة أن الحرية هي مربط الفرس وأن ثورتهم الخلاقة قد ولدت من وحيها، وهذا الإدراك الجمعي هو المفصلي في السردية التونسية برمتها، وهو المؤسس لقوة عملاقة ومشتركة تستطيع دفع عربة الانتقال أشواطا وأشواطا إلى الأمام.. إلى الحياة التي وعدت بها الثورة. إلى أجواء الحرية التي يمكن من تحت سقفها العمل على تقليص المسافة الشاسعة بين الفقراء والأغنياء. بين المدن المهمشة وتلك المحظية، ورد ثروات البلاد من أحضان النخبة الفاسدة إلى عموم الناس. إذ أن العمل في ظل الحرية على إغلاق هذه الملفات وغيرها أفضل ألف مرة ومرة عنه في ظل الاستبداد.
في ظل الحرية يمكن للتونسي، وهو يفعل الآن، أن يساجل حول أحواله المعيشية، أن يحتج ويجاهر بذلك. يمكنه الخروج إلى الشوارع للتظاهر ضد كل شيء. يمكنه الإضراب عن العمل.. ويمكنه انتخاب ممثله في البرلمان أو في قصر قرطاج. وهو يفعل كل ذاك، وهو يدرك، حتى وهو يتذمر ويغضب، أن ما يقوم به هو الفعل الصحيح.. هو البداية التي تجعل الحياة ممكنة في جغرافيا لا يخضعها الاستبداد لشروطه ولا يحولها إلى سجن كبير.
أعود إلى تونس كما يعود الغائب البعيد إلى البيت، بشيء من الحب والحنين، لأدرك في كل مرة أنها البيت الصحيح، أن شيئاً مني، وهو ليس بالشيء القليل، هناك، في حقول الزيتون المترامية على امتداد دروبها. في أوجاع وأحلام من ألتقيهم فيها. في مذاق الرمان الجنوبي، وفي الأزرق الأثير للمتوسط الذي أحب هيبته وغموضه.. بل كل ما يشير إليه. وأعود من تونس، في كل مرة منذ عام 2011 تحديداً، بالكثير من مشاعر الفرح الممزوجة بالخوف، فرح المحتفي على الدوام بالمآلات العظيمة التي تبشر بها الحرية، وخوف من يخشى على البيت من غربان الليل وسادة الظلام. ولكنني، بين هذا وذاك، أردد بيني وبيني ما يقترحه البيت التونسي الودود عليّ: الأمل، وهو لا يُرد.
تونس هي الأمل، هي الصغيرة الجميلة التي تحولت عن جدارة تستحق الاحترام إلى نموذج يحتذى في جغرافيا كئيبة وكبيرة ممتدة بين المحيط والخليج. هي التي تمكنت فعلا لا مجازاً من تكسير أبواب الأقفاص العتيدة هناك وإخراج الناس إلى الشوارع بحثاً عن حيواتهم وحرياتهم، التي سُرقت طويلاً، لتصير عبر هذا الفعل البديع رمزاً هادراً لحياة تستحق أن تُعاش، لتصير هي البيت الذي تعود إلى رحابه وتقول: ها أنذا الآن في البيت.. بيتي.
٭ كاتب سوري
تحية لفلسطين الأبية الصامدة في وجه عدوان العصابات الصهونية.
تحية للقدس ولبلعا ولغزة رمز العزة.
وقد قال الشهيد عرفات يوما ” أيها الفلسطينيون من ضاقت منكم به الدنيا فعليه بتونس فإن أهلها معلقة أفئدتهم بفلسطين”.
تحية أيضا للكاتب نائل بلعاوي ولكل الفلسطينيين.
مقال جميل، و تونس تستحق.
تونس غير. واتمنى من الشعب التونسي التقدم ََََ. وان نرها في مصاف الدول المتقدم وانا على يقين أن تونس سوف تواصل التقدم في شتى المجالات. وايضا اتمنى ان تصود الثقة في أطياف الشعب التونسي. ولا يسمعوا لشطحات لخارجيه. والآقلام التي تهدم البناء. انتم شعب عظم. ولكم كل الحب والوفاء.
أصبت يا أستاذ في تحليك الموضوعي لب ما يحدث في تونس …..
مجرد أن تتخلص تونس من أزلام بن على وبورقيبة وأتباعهما ومشاريعهم التغريبية المشبوهة، دليل هلى أن تونس تسير في الطريق الصحيح.
مقال أكثر من رائع ونتمنى أن تكتب عن السودان وثورته المسروقة
هو ذاك …