المتأمل في تصريحات بعض أنصار الرئيس يستشف إصرارا على المضي قدما في الصراع مع الاتحاد العام التونسي للشغل وخصوصا الأمين العام نور الدين الطبوبي والمحسوبين عليه والمقربين منه.
تونس ـ «القدس العربي»: يخشى كثير من التونسيين من أن تؤدي الأزمة التي اندلعت بين رئيس الجمهورية قيس سعيد والاتحاد العام التونسي للشغل، والتي تسبب فيها التصعيد الحاصل من هذا الجانب وذاك، إلى ما لا يحمد عقباه خلال الأيام المقبلة. فهناك سوابق في تاريخ تونس الحديث تعلقت بصدامات حصلت بين الاتحاد والسلطة التنفيذية تجعل أبناء البلد يحبسون الأنفاس خشية من تكرار السيناريوهات السيئة في بلد لم تعد أوضاعه تحتمل أزمة جديدة تضاف إلى أزماته المتعددة التي يعيشها.
فأحداث الخميس الأسود لسنة 1978 ماثلة في الأذهان يوم اصطدم الاتحاد العام التونسي للشغل بقيادة المرحوم الحبيب عاشور مع نظام الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، وسالت دماء التونسيين في الشوارع وسقطوا قتلى وجرحى برصاص في أحداث عنف لم تعرف تونس لها مثيلا منذ حربها التحريرية ضد الاستعمار الفرنسي. كما أن أحداث الخبز الدموية لسنة 1984 لم تمح بعد من ذاكرة الناس وهي أحداث كان محركها الأساسي رفع أسعار الخبز وسائر المواد الغذائية المصنوعة من الحبوب وكانت إيذانا بنهاية عهد الرئيس بورقيبة الذي قضى بعدها فترة قصيرة في الحكم في انتظار جهوزية البديل.
ويتذكر القاصي والداني التصادم الذي حصل بين الاتحاد ومنظومة حكم الترويكا التي تسلمت البلاد مباشرة بعد ثورة 14 كانون الثاني/يناير 2011 وكيف وصل الأمر إلى حد الاشتباك بالأيادي والعصي بعد أن أرادت ميليشيات تابعة للترويكا احتلال المقر المركزي والتاريخي للمنظمة الشغيلة في ساحة محمد علي بالعاصمة. كما تم إلقاء الزبالة على عدد من مقرات الاتحاد ولولا العقلاء لتطورت الأمور إلى الأسوأ في وقت كانت كل المؤشرات تؤكد على قرب انزلاق تونس إلى الاقتتال الداخلي أسوة بسوريا وليبيا واليمن.
وتستحضر الذاكرة الوطنية باستمرار ان الاتحاد العريق لم يتراجع حتى أمام السلطات الاستعمارية الفرنسية وقاد معركة التحرير نيابة عن قادة الحزب الحر الدستوري المعتقلين في السجون الفرنسية. وقد كلف ذلك الاتحاد خسارة أمينه العام الزعيم التاريخي التونسي فرحات حشاد الذي اغتالته السلطات الفرنسية وتسببت في تصاعد المقاومة ضدها في تونس وسائر بلدان المنطقة.
وتجدر الإشارة إلى أن الاتحاد العام التونسي للشغل ساند الرئيس قيس سعيد في الإجراءات التي اتخذها يوم 25 تموز/يوليو 2011 والتي اعتبرها جزء هام من المعارضة انقلابا على الشرعية فيما رآها آخرون مسارا تصحيحيا ضروريا. وقد عبر الاتحاد عن ذلك صراحة كما منظمات وطنية عديدة رأت أن الرئيس سعيد يمكن أن يكون منقذا للبلد من التدهور الذي وصل إليه في كافة المجالات ومن نظام سياسي عطل مسيرة أقرها دستور سنة 2014.
لكن علاقة المنظمة الشغيلة بالرئيس بدأت تسوء منذ أن قدم رؤيته لحوار وطني على طريقته هو، رافضا مبادرة سابقة تقدم بها الاتحاد تتعلق برؤيته الإصلاحية لمرحلة ما بعد 25 تموز/يوليو 2021 تاريخ حل حكومة المشيشي وتجميد البرلمان تمهيدا لحله. وقد رأى الاتحاد يومها أن صيغة الحوار التي اقترحها الرئيس ستجعل مشاركة المنظمة الشغيلة شكلية، وهو ما أثبتته الأحداث لاحقا حيث تجاوز الرئيس مقترحات اللجان التي شكلها بنفسه، ورفض الاتحاد التواجد فيها، وذلك عند صياغة دستور البلاد الجديد.
وساءت العلاقة أكثر فأكثر مع الانتقادات التي وجهتها قيادة الاتحاد للدستور الجديد الذي صاغه الرئيس، وللعملية الانتخابية، ولاستفراد الرئيس بالرأي فيما يتعلق بالعملية السياسية الخاصة بالخروج من الوضع الاستثنائي. كما ازداد التنافر بيت الجانبين حول مسألة إملاءات صندوق النقد الدولي في جانبها المتعلق بإصلاح المؤسسات العمومية والتي يرفض الاتحاد التفويت فيها للخواص، ناهيك عن انزعاجه من غلاء المعيشة وتدهور القدرة الشرائية للتونسيين، والذي عبر عنه على لسان أمينه العام في أكثر من مناسبة.
تصعيد خطير
وزادت التتبعات التي طالت بعض النقابيين من قبل أجهزة الدولة، وخصوصا عملية القبض على الكاتب العام لنقابة شركة تونس للطرقات السيارة، ومواصلة الأبحاث معه من أجل جريمة استغلال موظّف عمومي لصفته، الطين بلة في الآونة الأخيرة. فقد تم اعتبار ذلك، من قبل نقابيين ومساندين لهم، ممارسات قمعية وتضييقات هدفها مصادرة الحق النقابي المضمون بالدستور والمواثيق الدولية، وهو ما يمس برأيهم من الحريات العامة ويكرس الاستبداد واستغلال مؤسسات الدولة لاستهداف الخصوم.
وذهب الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي خلال انعقاد الهيئة الإدارية الوطنية للاتحاد أبعد من ذلك واعتبر أن رئيس الجمهورية يستهدف الاتحاد ويدعو الشعب بشكل غير مباشر إلى الاقتتال والتحارب. وبرأي الطبوبي فإن اعتقال الكاتب العام للنقابة الخصوصية لشركة تونس للطرقات السيارة أنيس الكعبي، على خلفية إضراب قانوني، وذلك بعد ساعة من تحول الرئيس إلى ثكنة العوينة للحرس الوطني، هو استهداف مباشر للمنظمة الشغيلة.
وفي خضم هذا الاحتقان والغضب النقابي تتم دعوة نقابيين من قطاع النقل يتقدمهم الكاتب العام للجامعة العامة للنقل والكاتب العام المساعد للاتحاد الجهوي للشغل بتونس للمثول أمام الفرق الأمنية المختصة، وهو ما سيزيد من منسوب الاحتقان في العلاقة بين قرطاج وساحة محمد علي. وبالفعل فإن الاتحادات الجهوية بدأت في تنظيم تجمعات ومسيرات استجابة لمقررات الهيئة الإدارية الوطنية للاتحاد العام التونسي للشغل. ويبدو أن المطالب الاجتماعية ستكون حاضرة في هذه التجمعات والمسيرات خاصة وان الاتحاد قد اعتاد على أن يكون في طليعة القوى التي تدافع على حقوق التونسيين في هذا المجال.
ولعل أشد ما يخشاه أبناء الخضراء هو أن يتم التضييق على هذه التحركات فيحصل الصدام في الشارع وتنفلت الأمور ويتكرر سيناريو 26 كانون الثاني/يناير 1978 المسمى بالخميس الأسود، فتزهق الأرواح ويسقط البلد في مستنقع الفوضى بعد أن استتب فيه الأمن مجددا بداية من سنة 2014. فهناك أطراف عديدة سواء خارجية، أو داخلية تدين لها بالطاعة والولاء، من مصلحتها أن تحصل الفوضى في تونس وتتواصل إلى ما لا نهاية.
رفض للمبادرة
اعتبر البعض أن دعوة النقابيين المنتمين إلى قطاع النقل إلى الفرق الأمنية المختصة للقيام بالأبحاث والاستنطاقات اللازمة هو بمثابة رفض ضمني من قبل الرئيس لمبادرة المنظمات الوطنية ومنها الاتحاد العام التونسي للشغل. فالرئيس على ما يبدو لا يرى بأن هناك أزمة في البلد رغم نسبة الإقبال الضعيفة على صناديق الاقتراع، ورغم تدهور مستوى معيشة التونسيين، ورغم عدم إيجاد موارد للميزانية، وبالتالي لا يوجد برأيه ما يستدعي حوارا وطنيا ومبادرات من هذا الطرف وذاك.
والمتأمل في تصريحات بعض أنصار الرئيس يستشف إصرارا على المضي قدما في الصراع مع الاتحاد العام التونسي للشغل وخصوصا الأمين العام نور الدين الطبوبي والمحسوبين عليه والمقربين منه. بالمقابل فإن ما يعرف على الاتحاد أنه يذهب بعيدا في معاركه ولا يتراجع، فهو لم يخش سابقا الرئيس بورقيبة الزعيم التاريخي الذي أنهى حكما ملكيا دام ثلاثة قرون وقاد معركة التحرير ضد الاستعمار وبنى الدولة الحديثة وصاحب الشعبية الإستثنائية والسلطة الأبوية.
وبالتالي فإن الباب مفتوح على كل الاحتمالات في هذه الأزمة بين الاتحاد العام التونسي للشغل والرئيس قيس سعيد ما لم يتراجع أحدهما ويوقف التصعيد من أجل مصلحة تونس. وذلك لتجنيب البلد السيناريوهات السيئة التي عاشها في الماضي أو التي تعيشها بلدان ما يسمى «الربيع العربي» في الحاضر، أي الفوضى والاقتتال.