في إحدى وسائل التواصل الاجتماعي ظهر شخص عربي في ميدان مكتظ بالمتظاهرين، تبدو على الشخص أمارات من البؤس والتمزق والتوهان، ولما سأله أحد الصحافيين عن ماذا يتوقع، ظل الرجل تائها فاغر الفم مندهشاً، يتلفت في الاتجاهات المختلفة، بينما الأصوات تملأ الأفق، قال رداً على السؤال: هو فيه أيه.. أنا عاوز أعرف في أيه وأنتم مين ونحن مين، وكل أيه؟ ثم قال بمزيد من الاستغراب: أنا تعبان عاوز أعرف في أيه.
للأسف هذا هو الواقع العربي المرير، الذي يتناسل وتتوالد مآسيه وكوارثه، وهذا هو المواطن العربي الممزق المتشظي، الذي أصبح لا يدرك ما يحدث حوله، ولا يدري فيمن يثق.
تختلط الرؤية وتتداخل، فتلك اللافتات والعناوين التي ترفع في الساحات والميادين، والتي تنادي بالرحيل وإسقاط الأنظمة تصيب بالحيرة والتعجب، نتساءل ما معنى الرحيل ومن يرحل، وأي الأنظمة التي يراد إسقاطها؟ هل النظام يسقط؟ الفوضى والخراب هي مقابل للنظام، لكن هل كانت تلك أنظمة حقيقية؟ أم هي شيء آخر؟ على المستوى الجمعي لا أحد ينكر بأن جل الشعوب العربية تعيش تحت وطأة أنظمة قمعية، مسلوبة الحرية، تعاني الفقر والظلم والاستبداد والتضييق على الحريات والقمع، بمجرد ما تلقيه تلك الأنظمة من فتات ولقمة للعيش والأمن والأمان، تتعود الشعوب على تلك الحياة، ويتلبسها الخوف من مجرد التفكير في تغيير الوضع القائم، وتأييد الأصوات التي تنادي بذلك التغيير، والأدهى من ذلك يتحول ذلك إلى أسلوب حياة، وقد تتجلى تلك الصورة عندما تتحول الشعوب إلى الدفاع بشراسة عن تلك الأنظمة، بل وتتغنى بمحاسنها وبطولاتها وحكمتها، ويتطور ذلك إلى تعاطف الضحية مع جلادها المعتدي عليها، لدرجة التضحية من أجله، في صورة مشابهة لمرض «متلازمة ستوكهولم».. شيء لا يستوعبه العقل. وقد تتعدد أشكال تعاطف الضحية من الشعوب مع جلاديها الأنظمة، فتراها تنزل الميادين مؤيدة لعودة الدولة البوليسية، ورفع لافتات التأييد والانحناء، وتحويل رموزها إلى مصاف التقديس، والمباركة، وتكملة جميل تلك الأنظمة في مواصلة قمعها وتسلطها، والوقوف معها في وجه كل من يحاول الانتقاد والمس بها.
هل كتب للعرب بأنهم لن ينعموا أبداً بالحرية والديمقراطية، وأن مقولة الشعوب ليست جاهزة للديمقراطية بعد؟ هذا البَعد الذي لا يأتي ولن يأتي. تكالب على الأمة العربية أعداء الداخل والخارج، وكل من يتجرأ منهم أو يفكر بالحرية ومقارعة الظلم والاستبداد، سوف تكون نهايته مزيداً من الكوارث والتمزق وعدم الاستقرار. هل العرب لا يحسنون ثوراتهم، ولا هم يعرفون من يختارون من ممثليهم، وهل أصبحت الديمقراطية وبالاً عليهم.
يصف بعض المحللين تونس بأنها رجل الربيع العربي الأخير، الذي ظل على مرّ سنوات طويلة، يقف صامداً يدافع بكل قوة وبسالة ويصد أعتى الرياح التي تهب عليه بين الحين والآخر. تونس التي ألهمت العرب ربيعهم، وأعادت لهم كرامتهم في الثورة على الظلم والفساد في عام 2011، ورغم أنها لم تستقر منذ أن أطاحت بالنظام السابق، وما فتئت تنتقل من أزمة إلى أخرى، وتوالت عليها الأزمات، وتعثرت خطواتها كثيراً، لكنها لم تسقط وظلت متماسكة، وتتمكن من النجاة ومواصلة الإبحار، على أمل الوصول إلى شاطئ الأمان، ذلك ما كانت تعانيه على مدار السنوات الأخيرة. تونس ببساطة حالها حال غيرها من الدول التي لم تترك لحالها، ولم يرق لهم نجاحها النسبي في ترسيخ الديمقراطية وحقوق الإنسان، وكان لا بد من معاقبتها والنيل منها، وظل المتربصون بها يبحثون عن الفرص لتحقيق أهدافهم. تأخر قطافها بعض الوقت، لربما شفع لها بأنها كانت أول دولة عربية انطلقت فيها شرارة الربيع العربي، واستطاعت أن تهدم جدرانا عالية وصلبة من الظلم والفساد والديكتاتورية. هل أعيى الوقوف ذلك الرجل وآثر الترجل كما فعل أقرانه في بعض الدول العربية، وترجّل وغادر المشهد وتوارى عن الأنظار. الحقيقة البائنة للعيان أن ذلك الرجل خانته الظروف وأتته الضربة من حيث لا يدري وطاحت به. وقطار الربيع العربي الذي انطلق من تونس محملاً ببشائر الحرية والانعتاق والديمقراطية مسرعاً نحو العديد من الدول العربية، وكانت تونس محطته الأولى، ها هو يعود بعد سنوات في هجمة ارتدادية، مثخناً بالجروح والألم، لتلحق تونس بركب تلك الدول التي ارتدت على أعقابها.
ما حصل في تونس ليس ببعيد عن ذلك، وبالتأكيد أن يوم الأحد 25 يوليو/تموز 2021 الذي أعلن فيه الرئيس التونسي المنتخب 73٪ بشكل ديمقراطي عام 2019 عن إجراءات استثنائية، مستنداً في ذلك على الفصل (80) من الدستور التونسي لسنة 2014 دستور الثورة. وكانت تلك الإجراءات إنهاء مهام رئيس الحكومة، وتجميد عمل البرلمان، ورفع الحصانة عن النواب، ولاحقا تولي الرئيس السلطة التنفيذية بمساعدة رئيس وزراء يعينه هو، وتولي النيابة العامة.
طريق الديمقراطية والحرية لم يكن أبداً طريقا سهلا ومعبداً، وأعتى الديمقراطيات في العالم مرّت بتجارب ومنعطفات أكبر من ذلك، وكانت تأتيها الطعنات من الداخل أكثر، لكنها صمدت
طريق الديمقراطية والحرية لم يكن أبداً طريقا سهلا ومعبداً ومفروشاً بالورود، وأعتى الديمقراطيات في العالم مرّت بتجارب ومنعطفات أكبر من ذلك، وكانت تأتيها الطعنات من الداخل أكثر، لكنها صمدت. استطاعت الثورة التونسية أن تنجز بعض الأهداف، وتسجل بعض النقاط المضيئة في مسارها، كالدستور والانتخابات التشريعية والرئاسية، وارتفاع منسوب الحريات وحقوق الإنسان، إلا أن تجربة الانتقال إلى الديمقراطية وترسيخ مؤسساتها، لا بد أن يمرّ بعثرات وثغرات، وقد ساعدت بعض الظروف في تراجع تلك التجربة، أول تلك العوامل الأزمة الاقتصادية، وظروف جائحة كورونا، وما تخلفه يوميا من كوارث، كل ذلك ترافق مع ظروف دولية وإقليمية، لا تستسيغ التحول نحو الأفضل، بالإضافة طبعاً إلى تغلغل الدولة العميقة في مفاصل الدولة، والفساد الذي ينخر تلك المفاصل، وعدم وجود النية في محاربته. كل ذلك بالطبع أيضا تصاعد حدة الخلافات بين السلطة التنفيذية ومؤسسة الرئاسة، وكذلك الخلافات داخل البرلمان بين مختلف التيارات، الذي تحول إلى مناطحات ومناكفات بين الأعضاء، كما تلك الحركات التي تختلقها إحدى النائبات، التي لا تليق أبدا بمجلس نواب للشعب، ما أثر في مسيرة النمو والتطور، عطّل الكثير من الخطط والبرامج، وكان له بالغ التأثير في الوطن والمواطن.
هل هو انقلاب كامل الأركان، أو هو انقلاب دستوري قانوني، وحق دستوري يخول الرئيس ذلك؟
في قراءة متأنية للفصل (80) من الدستور، الذي استند إليه الرئيس قيس سعيد في اتخاذ تلك الاجراءات، حيث تشير المادة إلى أن «لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية.. ويعتبر مجلس نواب الشعب في حالة انعقاد دائم طيلة هذه الفترة، وفي هذه الحالة لا يجوز لرئيس الجمهورية حل مجلس نواب الشعب، كما لا يجوز له تقديم لائحة لوم ضد الحكومة…؟
من خلال ذلك هل يوصف ذلك بأن الرئيس استخدم الفصل (80) في رد الخطر الذي يداهم الوطن ويهدد كيانها؟ الرئيس أعلن بأنه اتصل أو أعلم رئيس مجلس الشعب ورئيس الحكومة، وطبعا الاتصال أو الإعلام غير التشاور المنصوص عليه في الفصل، كذلك لا يجوز له حل مجلس نواب الشعب، وهو اقترب من ذلك بأن جمده وعطله وأوعز للأمن بإغلاق أبوابه، على الرغم من أن الفصل 77 يتكلم عن الإجراءات الدستورية الخاصة بحل البرلمان. التدابير الاستثنائية التي يشير إليها الفصل، رغم أنه لا يوضحها، تبقى مشتركة بين السلطات الثلاث، الرئاسية والتنفيذية والتشريعية، وتأتي من خلال مشاورات يجريها الرئيس، ربما ذلك لم يحدث بشكل وأضح. بلا شك أن ما أقدم عليه الرئيس التونسي قيس سعيد يمثل إجهاضا لتجربة الديمقراطية الوليدة، التي لم يكتمل نموها، وكان الأجدر به أن يحتضن تلك التجربة ويتبناها، كيف لا وهو الأستاذ في القانون الدستوري، وكان الأولى أن يكون هو الأمين عليها وحارس قيمها. مهما تكاثرت العلات والأمراض عليها. ها هو رئيس شرعي ومنتخب وأتت به الصناديق وبرافعة عالية قوية من ثورة الياسمين، هل هو الذي انقلب على نفسه؟ أم سلك طريقاً لابد منه لإنقاذ الوطن؟
لكن التاريخ لن يسجل بأن الرئيس وحده من يتحمل ذلك، كلهم من ليبراليين وإسلاميين ومستقلين. لغة التخوين والتصفيات لن تجدي نفعاً في إخراج تونس من أزمتها، ما لم يسد منطق العقل والبحث عن حلول مشتركة تجمع كل الأطراف، وعلى الجميع أن ينزل من الشجرة، والتنازل عن الكثير لصالح الوطن والمواطن. إلى أن تتضح الصورة وينجلي غبارها، لا أحد يتمنى أن تعود تونس إلى درجة الصفر، نتمنى أن يكون ذلك عثرة بسيطة وكبوة كان لا بد منها لتصحيح الكثير، وإعادة القطار إلى مساره مرة أخرى لينطلق من جديد إلى عوالم الحرية والانعتاق.
أعتقد لا يزال ذلك العربي تائها في الميادين والزقاق يبحث عن الإجابة لسؤاله (هو فيه ايه) بدون أن يجيبه أحد.
كاتب من عُمان
تعجبني مقالات يا أستاذ بدر,
تحليلاتك موفقة وبالصميم, وفقك الله, ولا حول ولا قوة الا بالله
وضرب النائبة يدعى دلعا, يكفي النظر الى وجهي الرئيس ورئيس البرلمان لنطلب خيرا.
وهل عميت عيناكم على ما فعلته هاته النائبة لمدة اكثر من سنة لترذيل عمل المجلس….!!!!!
ليس هناك أقبح وأشنع وأوضع من ذكر دنيء يضرب امرأة بهذا العنف الشديد والحقود على الملأ
مهما كانت الأسباب الذكر المتخلف الذي ضرب عبير موسي وسط البرلمان جبان
قيس سعيد حصل على18.4% في الدور الول
اي ما يقارب 350000 الف صوت