تونس ـ «القدس العربي»: شهد شهر رمضان في تونس لهذا العام حدثا ثقافيا هاما تمثل في عودة واحد من أهم المهرجانات الثقافية في أرض القرطاجيين ألا وهو مهرجان المدينة الذي احتجب لسنتين بسبب جائحة كورونا وذلك خلافا لمهرجانات تونسية أخرى لم تعرف الانقطاع رغم الجائحة. فلهذا المهرجان، الذي ينتظم بمناسبة شهر رمضان ليؤثث لياليه بالعروض الفنية في بلد يعشق الثقافة إلى حد النخاع، جمهوره الخاص ومريدوه الذين يقبلون عليه بشغف وهو الذي حافظ على رقيه ولم يسقط في فخ الشعبوية ولم يشرع أبوابه بوجه العروض التجارية أو الهابطة.
وقد كان المسرح البلدي الفخم في مدينة تونس، الذي يعبق أصالة وجمالا في معماره الشبيه بأروع المسارح الأوروبية والروسية القديمة، شاهدا على انطلاق الدورة 38 لمهرجان المدينة في جو بهيج حضره عدد هام من الفنانين والوجوه البارزة في الساحة الثقافية التونسية. كما حضر الافتتاح جمهور غفير وهام من حيث العدد غصت به كراسي المسرح البلدي، جاء متعطشا للعروض الفنية والثقافية ولما يتم تأثيث السهرات به في هذا المهرجان الراقي الذي قاطع من أجله في وقت ما الفنان اللبناني مارسيل خليفة باقي المهرجانات التونسية وصار وفيا له بالنظر إلى مستوى عروضه.
لقد تم الافتتاح بعرض موسيقي للفرقة الرشيدية، وهي الفرقة العريقة التابعة للمعهد الرشيدي للموسيقى التونسية أو المدرسة الرشيدية، التي تأسست سنة 1934 بغاية إحياء وتطوير الإرث الموسيقي للبلاد على يد مجموعة من المثقفين التونسيين وأعيان البلاد. وسميت بهذا الاسم نسبة إلى محمد الرشيد وهو أحد الأدباء والموسيقيين الذين ظهروا في القرن الثامن عشر، وينتمي إلى العائلة الملكية الحسينية المطاح بها سنة 1957 وقد تخلى عن عرشه عشقا للموسيقى التونسية العتيقة. وبالتالي فقد استجاب المهرجان لذوق الجماهير الوفية الباحثة عن العروض الراقية والتي ترتاده منذ سنوات، كما أنه تجذر في هويته الموسيقية التونسية وفاء للأقطاب من مؤسسي الرشيدية ولمن انتمى لاحقا إلى هذا المعهد ولم يكن من المؤسسين.
لقد عاش الجمهور ليلة استثنائية استمتع خلالها بالتراث الموسيقي التونسي الأصيل ومقاماته الساحرة التي استعملها الرواد في تلحين وغناء أروع المعزوفات والأغاني الخالدة التي تم توثيقها والحفاظ عليها في مكتبات موسيقية هامة وأرشيفات على غرار مركز النجمة الزهراء للموسيقى العربية والمتوسطية. فقد شعر من عاش تلك الليلة أنه عاد إلى عصر أحمد الوافي، وصالح المهدي الملقب بزرياب تونس، وخميس الترنان، وغيرهم من أقطاب الموسيقى التونسية ومؤسسيها الأوائل.
لقد أحالت أصوات الألحان الشجية المنبعثة من الآلات الموسيقية التي أبدعت في توظيفها أنامل العازفين المهرة من أبناء الرشيدية وكذا الكورال الغنائي المصاحب للفرقة الموسيقية، الذي تعلم الإنشاد على أصوله بالمعهد الرشيدي، المستمعين إلى زمن جميل ولى واندثر ازدهرت فيه الموسيقى التونسية بشكل لافت. ولعل من العوامل التي ساهمت في ازدهار الفن الموسيقي في أرض الخضراء هو الهجرات الأندلسية بأعداد كبيرة، ومنذ العهد الحفصي وصولا إلى فترة العثمانيين، حيث بات تراث الأندلس رافدا هاما من الروافد التي ساهمت في تطوير الموسيقى التونسية.
لقد صدحت أصوات المنشدين في الكورال بالموشحات الأندلسية في حنين إلى زمان الوصل في قرطبة وغرناطة وإشبيلية وطليطلة ومالقة وغيرها من المدن والحواضر والأقاليم الأندلسية التي شيد الكثير منها القرطاجيون في عصور ما قبل الميلاد وورثها الرومان والإيبيريون والقوط وزاد من بهائها العرب الذين حكموا تلك البلاد لثمانية قرون. ففي الموشحات شعور بالإنتماء لمكون هام من مكونات الشعب التونسي وهو المكون الأندلسي الذي حل جزء كبير منه بهذه الديار التونسية بطلب من أحد سلاطين بني حفص الذي شجع الهجرة الأندلسية إلى الخضراء بسبب تراجع أعداد ساكنتها بفعل وباء ضرب البلاد، فوفر لهم الأراضي الفلاحية الخصبة وكل ما يساعدهم على تأمين العيش الكريم الذي لم يعد ممكنا في الأندلس مع موجة الاضطهاد الإسباني للمسلمين.
لقد أثبت جمهور مهرجان المدينة الرمضاني أن الذوق العام ما زال في القمة ولم تتمكن الموسيقى الهابطة من استهدافه، وأن الفن التونسي العتيق وكذلك الموروث الأندلسي ما زال باستطاعتهما أن يجلبا الجماهير من مختلف الشرائح العمرية. كما أثبتت سهرة الافتتاح أن الرشيدية أو المعهد الرشيدي ما زال على عهده حافظا للتراث الموسيقي والغنائي التونسي وقادرا على القيام بدوره على أكمل وجه باحترافية استثنائية تليق بعراقته وبالغاية التي بعث من أجلها.
وللإشارة فقد بقي المهرجان وفيا لعاداته في شهر رمضان حيث يخصص سهرة خاصة للموسيقى الصوفية والروحية والإنشاد الديني الذي تلقى عروضه باستمرار إقبالا جماهيريا لافتا باعتبار انتشار الإسلام الطرقي في تونس منذ قرون وتجذره في ربوع المنطقة المغاربية بوجه عام. ولقيت عروض صوفية مثل الحضرة، نجاحا لافتا في السابق سواء في تونس أو خارجها، ولا يمكن تصور مدينة تونس العتيقة في شهر رمضان من دون إنشاد صوفي ينبعث من أماكن العرض على غرار دار بن عاشور ودار لصرم ودار الثقافة بئر الأحجار والنادي الثقافي الطاهر الحداد وغيرها.
ومن بين العروض التي يشهدها مهرجان المدينة عرض للفنان الموسيقي العراقي محمد العطار الذي ينتظره الجمهور التونسي للاستمتاع بالتراث الموسيقي العراقي العتيق الذي يعبق أصالة وتاريخا ضاربا في القدم. لقد عشق التونسيون نصير شمة الذي أثث سهرات مهرجان المدينة في سنوات سابقة بعوده الشجي، وقدم عروضا ناجحة، وجاء الدور اليوم على محمد العطار، هذا الشاب اليافع الذي يشق طريقه بنجاح في عالم الفن الملتزم والراقي والذي استطاع لفت الانتباه إليه في السنوات الأخيرة.
كما يتضمن المهرجان حفلا فنيا هاما للفنان التونسي لطفي بوشناق في قاعة الأوبرا الضخمة بمدينة الثقافة كتكريم لهذا الفنان الذي قدم الكثير للفن التونسي وغنى ولحن كل الأنواع الموسيقية وبرع فيها. ويدرك القائمون على المهرجان ومنظموه بوزارة الثقافة التونسية أن للطفي بوشناق جمهورا غفيرا يشاهد عروضه أينما حل وتغص به قاعات العرض لذلك وقع الاختيار على مدينة الثقافة وعلى قاعة الأوبرا الكبرى لعلها تستطيع استيعاب الجماهير التي ستتوافد للاستماع إلى الفن الراقي الذي يقدمه بوشناق منذ أن انطلق يافعا في عالم الفن والغناء وإلى يوم الناس هذا. لقد أقبل التونسيون على العروض الفنية الراقية لمهرجان المدينة متحدين الوضع الإستثنائي الذي يمر به البلد متجاوزين مشاكلهم الاقتصادية والاجتماعية ـ فكل شيء يهون على ما يبدو في سبيل الثقافة والاستماع للفن الراقي الذي تحول إلى متنفس هروبا من ساحة سياسية خانقة لا مكان فيها إلا للأزمات والمشاكل والصراعات الحزبية أينما ولى المرء وجهه.
عندما تكون اخبار صحيفة القدس العربي في ما يخص تونس اجابة و احتفالية و مفرحة لا نرى اثرًا لتعليقات الأشقاء و الجيران ، لماذا يا ترى ؟